واشنطن- عماد الرواشدة
كان ذلك في ٢٠١٦، حين أسدلت الستار على نتائج اقتراع آخر الولايات المتأرجحة في السباق الرئاسي الأميركي للبيت الأبيض. في تلك اللحظة سلمت مرشحة الديمقراطيين هيلاري كلينتون بخسارتها لملياردير العقار “الفظ” كما وصفته وسائل الإعلام، المفتقر للثقافة السياسية واللياقة الرئاسية المعتادة في الولايات المتحدة، دونالد جيه ترمب. كانت تلك الانتخابات إيذانا بولادة شمس اليمين الجديد المسمى ماغا. وكانت أيضا إشعارا بدخول الحزب الديمقراطي والبلاد نفقا بدا مظلما لن يخرجا منه لأجل غير مسمى.
“الحزب الديمقراطي يموت حرفيا” خلص محرر الشؤون الوطنية لصحيفة الأمة، The Nation, اليسارية الشهر الماضي.
لكن شيئا ما تغير في الرابع والعشرين من يونيو ٢٠٢٥؛ أو هكذا تهامس بعض الديمقراطيين.
شاب مسلم بالكاد ولج الثلاثينيات من عمره، ببشرة حنطية داكنة ولسان انجليزي فصيح. بسيرة ذاتية “نحيلة” على ما وصفتها نيويورك تايمز، وخطاب يساري صريح، يهزم مرشحي الحزب الديمقراطي لخوض انتخابات عمدة مدينة نيويورك التي ستقام في نوفمبر تشرين ثاني المقبل. يتقدم مخلفا وراءه، وبفارق كبير، منافسيه من عتاة المرشحين المخضرمين، مثل حاكم الولاية السابق أندرو كومو، من المتمترسين خلف قواعد تصويتية بمزاج سياسي تقليدي ومتحفظ، وتمويلات مالية تصعب مجاراتها.
فاز إذن زوهران محمد ممداني المولود في ١٩٩١. ساعدته ذربته في استخدام التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي بإيصال رسائله لجمهور طحنته أزمات الاقتصاد واستعصاء السياسة فتطلع للتغيير. قدم لهم خطابا اقتصاديا واضحا، ولغة يصفها متابعوه بالجزالة والبساطة والبعد عن التقعير والكليشيه السياسي الذي بات يفقد الحزب الديمقراطي رشاقته ويحرمه من قدرته الوصول لفئة الشباب والأقليات. صعوبة الحياة في مدينة نيويورك نتيجة الارتفاعات الفاحشة في إيجارات السكن، مجانية حافلات النقل، محاربة معاداة السامية، والاسلام ايضا، شكلت بعضا من أهم أركان خطاب ممداني الانتخابي.
مفتقرا لعناصر الأقدمية، والمال، وروابط القربى السياسية، تمكن ممداني إذن من اختراق صفوف الحزب بخطاب تقدمي وصدامي مع القيم السياسية السائدة وجيش من المتطوعين ناهز الخمسين ألفا. أعانته المدينة الأكثر تنوعا ثقافيا في البلاد أيضا، حيث يشكل سكانها ممن ولدوا خارجها نسبة لا تقل عن الثلث. حقيقةٌ لعبت لصالح الشاب الاشتراكي القادم من أفريقيا طفلا، والمولود لأبوييين بنيين، وفق التقسيم الأميركي للألوان العرقية. ديانة والده المسلم ساهمت هي الأخرى بوصوله للصدارة في مدينة تضم أكبر تجمع للمسلمين قياسا بغيرها من مدن البلاد وبعدد يتجاوز ٧٠٠ ألف نسمة.
“دائما ما يبدو الأمر مستحيلا، إلى أن يتحقق فيكف عن كونه مستحيلا” يقول في خطاب نصره الانتخابي مقتبسا عباراته الافتتاحية عن نيلسون مانديلا.
بالفعل، بدا فوز ممداني، العضو في مجلس تشريعي الولاية عن حي كوينز في مدينة نيويورك، مستحيلا وهو الذي افتتح حملته في شباط فبراير بما لا يزيد عن ١٪ في استطلاعات الرأي. الشاب الهندي الأصل، المولود في كامبالا عاصمة أوغندا، والإبن لبروفيسور في الدراسات الأفريقية في جامعة كولومبيا العريقة وأم تعمل في صناعة الأفلام, فاز رغم خطاب حاد، بالمعايير الأميركية، في السياسة الخارجية أيضا. لا يبدو الشاب الذي يصف نفسه بالاشتراكي وقد أجهد نفسه بمداراة مواقفه الحدية لمحاباة المصوتين التقليديين؛ رغم الخطورة التي ينطويها ذلك على مستقبله السياسي. تراه يشارك في حملات نزع الاستثمارات الإسرائيلية، وعن أمه الداعمة لحملات المقاطعة الفنية والأكاديمية لإسرائيل، يرث موقفه غير الاعتذاري من الإبادة، كما يصفها، في غزة، ويتعهد باعتقال بنيامين نتنياهو إن زار المدينة التي ينتصب مقر الأمم المتحدة على ضفاف نهرها.
ومما يجعل فوز ممداني مستحيلا، على الأقل إلى أن تحقق، هو الطبيعة الاستثنائية لمدينة نيويورك المركزية في الثقافة والاقتصاد الأميركيين. يمثل المكان بؤرة لكتل تصويتية بعينها أبعد ما تكون عن خطابه؛ أهمها الإيطاليون، حيث تعد المدينة، بعد بيونس ايرس، أكبر تجمع لهم خارج بلادهم. من هؤلاء تتحدر نخبتها التقليدية؛ كحاكم الولاية السابق، الديمقراطي أندرو كومو، العمدة السابق للمدينة بيل ديبالسيو من جهة الأم، وقبله روديو جولياني المقرب من ترمب. وفي المدينة يتركز أكبر تجمع يهودي في العالم بعد تل أبيب أيضا، حيث ينحدر العمدة السابق مايكل بلومبيرغ صديق الرئيس الأميركي الحالي أيضا. أضف إلى ذلك أن أكثر من ثلاثين بالمئة من القوة التصويتية هناك من البيض الذين تغلب عليهم النزعة الوسطية الأقرب للمحافظة في السياسة والاقتصاد.
ومضافا لكل ذلك، ليس سهلا على شاب في مقتبل العمر بخبرة سياسية متواضعة وتمويل شحيح أن يخترق صفوف حزب متجذر كالديمقراطي، محكوم، كما هو حال الثقافة السياسية الأميركية عموما، لاعتبارات الأقدمية Seniority في السن والخبرة السياسية كشروط للترقي، أو ما يعرف ب “جيرنوتوكراسي” Gerontocracy. أضف لذلك تأثيرٌ قديم قدم البلاد للصلات القرابية على المستقبل السياسي للأفراد. بالفعل، منذ نشأتها الأولى، قامت التركيبة السياسية الأميركية على حكم نخبة صغيرة بعينها من ملاك الأرض والعبيد توارثت نفوذها جيلا بعد آخر. من الرئيس جون آدمز، والد الرئيس جون كوينسي آدمز، في القرن الثامن عشر، وصولا للرئيس جورج هربرت بوش والد جورج دبليو بوش في القرن العشرين، ومن الرئيس بيل كلينتون لزوجته التي ترشحت أيضا للرئاسة متكئة على إرث زوجها السياسي قبل أن تصبح وزيرة للخارجية.
أزمة الحزب الديمقراطي
موجات من الصدمة والابتهاج، أرسلها فوز الشاب الاشتراكي الديمقراطي، كما يصف نفسه. وأمل مشوب بالقلق جرى في نفوس الحرس القديم/الجديد ل “مؤسسة” Establishment الحزب الديمقراطي بعد أن بلغ أعضاؤها الضالعون في لعبة السياسة والانتخابات من العمر حدا لم يعودوا قادرين معه على توليد حالة شبيهة بتلك التي أنتجوها مع الإفريقي الأمريكي لأب كيني مسلم باراك حسين أوباما.
صحيح أن ممداني لا يمكنه الوصول لسدة الرئاسة دستوريا، لكن نجاحه دفع الديمقراطيين للتساؤل حول ما إذا كان صعوده المفاجئ معجزة ستعينهم على العودة النشطة للمشهد السياسي، أم أنه اللعنة التي ستشظي قواعد الحزب أكثر وتوسع الشقة بين تقليديين واشتراكيين في مواجهة تكتل جمهوري يبدو موحدا خلف خطاب اليمين.
لم يفلح فوز الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن بتقديم إجابات مهمة عن هذا النوع من الأسئلة؛ فالسياسي الثمانيني فاز بصعوبة بالغة في أكثر من ولاية. وخلال رئاسته، بالكاد أقنع جمهور الحزب بقدرته على الحكم، دع عنك الترشح لولاية ثانية.
اسئلة الديمقراطيين الحائرة تلك ولدت في ٢٠١٦، لدى خسارتهم الأولى أمام اليمين، لكنها أصبحت أكثر إلحاحا بعد هزيمتهم الثانية في ٢٠٢٤. مذاك وهم يحاولون مقاربة الخلل في أدائهم والسبب بافتقارهم القدرة على حشد وإثارة حماس المصوتين خلف خطاب بقوة وحيوية خطاب اليمين. جادل بعضهم بضرورة التودد للطبقة العاملة التي خلفها الحزب وراءه في حمى انشغاله بليبرالية الهوية العرقية والجندرية. آخرون اقترحوا تلطيف خطابهم الذي بدأ ينحو يسارا أملا في التقرب من جمهور اليمين المرعوب من الهجرة والصين ومخاطر تفكك قيم الأسرة والدين.
لكن ممداني دفع بمقاربة مختلفة كليا: عوض المساومة وتلطيف النبرة أملا بكسب اليمين، تبنى خطابا صادما غير مساوم يقف على أقصى اليسار في الاقتصاد والسياسة. وبدل كسب المصوتين المنزاحين نحو الجمهوريين، راهن على بعث الحياة في صفوف جماهير الديمقراطيين اليائسة من والعازفة عن المشاركة السياسية.
وها قد نجح رهانه.
“هل تحب الرأسمالية” تسأله مذيعة سي أن أن. “”لا” يجيب بمنتهى البساطة في بلد يعتقد فيه الساسة أن انحيازهم للرأسمالية شرط موضوعي لبقائهم السياسي. “لدي الكثير من الانتقادات للرأسمالية. (…) ما نريده في النهاية توزيع أكثر عدلا للثروة”.
تثير تجربة النجاح في مدينة نيويورك خشية الحزب الديمقراطي لاعتبارين: الأول أن نسبة غالبة من الديمقراطيين المخضرمين ما زالوا محافظين في الاقتصاد والسياسة؛ يحكمهم الإيمان شبه المطلق بحرية السوق والقطاع الخاص والدور المحدود للدولة في الطبابة والتعليم، ونظرة إمبراطورية لموقع البلاد في العلاقات الدولية؛ عداء مع الصين وروسيا في آسيا وأوروبا، وانحياز شبه مطلق لإسرائيل في الشرق الأوسط. هذا التيار ممن يمكن وصفه بالحرس القديم، لا يمكنه مجاراة الموجة التي يمثلها ممداني بمفرداته الاشتراكية، إن لم يكن بسبب الاختلاف الإيديولوجي الحاد معه، فخوفا من إغضاب مموليهم من كبار اللوبيات. مثال ذلك إحجام غالبية هؤلاء عن إعلان دعمهم لممداني بعد فوزه.
في الثقافة السياسية الأميركية يعد الدعم “Endorsement” خطوة مهمة على طريق نجاح الساسة ويجري التعامل معه بحذر شديد لما له من انعكاسات على مقدمه ومتلقيه على السواء. يسعى المرشح لإحراز تقدم في سباق انتخابي ما، فيعلن الوازنون “دعمهم” له، فيما يشبه رسالة توصية تقدم للقواعد التصويتية لوضع اسمه في ورقة الاقتراع. في نيويورك، يتربع عضو الشيوخ السبعيني اليهودي شك شومر على كرسي الولاية منذ ٣٥ عاما. ومع مواقفه الصقورية في السياسة الخارجية، من العداء مع الصين وروسيا للدعم المطلق لإسرائيل، يبدو خطاب ممداني ومناصروه نقيضه الذي لا يلبث يزداد شعبية. لا عجب والحال كذلك أن شومر أمسك تماما حتى عن تهنئة ممداني بالفوز رغم أن الأخير عضو مسجل في الحزب الديمقراطي. تتناقل الصحف خشية شومر من تزايد طموح الجيل الجديد، مثل اكاسيا كورتيز، في نيويورك إلى حد الترشح ضده للشيوخ أملا بالإطاحة به عن عرشه الذي تسلمه عام ١٩٩٩ ولم يبرحه.
“قادة الحزب الديمقراطي: لقد تحدثتم لمدة ستة أشهر عن ضرورة خلق حماس سياسي لإشراك الطبقة العاملة والشباب في العملية السياسية. هذا بالضبط ما فعله زهران. ادعموه.” يطالب عضو الشيوخ بيرني ساندرز، الذي سبق ونوه إلى أن “مؤسسة” الحزب تبدو في حالة هلع من فوز ديمقراطي بخطاب اشتراكي عن مدينة مثل نيويورك خشية أن “يوصم” الحزب على المستوى الوطني بوصفه اشتراكيا.
لكن المشكلة تبقى أعقد من ذلك أيضا، وهذا هو الاعتبار الثاني. فحتى لو ساعد التيار الديمقراطي الاشتراكي على تنشيط حضور الديمقراطيين، وسيطر الأخيرون على الكونغرس والبيت الأبيض في الانتخابات المقبلة أو التي تليها فسيعني الأمر في التحليل النهائي نجاح حزب منقسم بحدة على ذاته بين تيارين متناقضين إلى درجة قد تعطل فاعليته التشريعية وتعمق تناقضه الداخلي لدى مراجعة القوانين على نحو قد يدفع لانفصال مكوناته عن بعضها البعض مع تعمق الحالة. بكلمات أخرى، لئن كان تعميم ظاهرة ممداني وخطابه في سباقات انتخابية اخرى نعمة للحزب الديمقراطي في المدى القصير، فإنه سيؤول إلى نقمة على المدى البعيد تهدد وجوده بالذات.
أكبر من انتخابات مدينة
“فاز زهران ممداني، الشيوعي المهووس تماماً، بالانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي” يعلق الرئيس الأميركي. “سبق لنا أن رأينا يساريين متطرفين، لكن الوضع أصبح سخيفاً بعض الشيء. مظهره بشع، صوته مزعج، ليس ذكياً” يضيف في منشور على صفحات مواقع التواصل.
مثل هذا النوع من ردود الفعل الواسعة والحادة على فوز ممداني مبعثه إدراك المنتقدين أن أسلوب وخطاب الشاب لم يولدان من العدم وليسا مجرد حالة عابرة، ولكنهما نتاج تفاعل عمره عشر سنوات على الأقل، بدأ مع بروز اسم الاشتراكي بيرني ساندرز مرشحا للرئاسة.
حتى اليوم ما يزال فوز هيلاري كلينتون وإخفاق ساندرز بنيل رضى الحزب الديمقراطي عام ٢٠١٦ موضوعا باعثا على الجدل والمرارة معا لدى طيف واسع من جمهور الحزب. اعتبره مؤيدو ساندرز مؤامرة حيكت لإقصاء سياسي معاد لما يسميه الأميركيون ب”المؤسسة” Establishment. وحين حل موعد الانتخابات الرئاسية في ذلك العام، حجب كثير منهم، غضبا لاستبعاده، أصواتهم عن كلينتون، فكان أن خسرت في مواجهة ترمب. هكذا انكشفت البلاد على واقع ترى فيه الغالبية في الحزبين أن “السيستم” ببساطة لا يعمل في عيون مواطنيه. وفيما بدا الديمقراطيون في حالة ضياع مزمنة، كان ترمب وحده من فهم الواقع وأجاد توظيفه في خطاب شعبوي أوصله للبيت الأبيض مرتين.
لكن ظاهرة ساندرز تلك لم تتبخر; إذ كانت مجرد تجل للرغبات المعتملة في التغيير الحقيقي لدى طيف واسع من الأميركيين، تغييرٌ في السياسات الداخلية والخارجية معا دافعه عقدان من الحروب الفاشلة والفاسدة في أفغانستان والعراق وتدخلات عقيمة في ليبيا واليمن وسوريا، فضلا عن إخفاق اقتصادي بلغ ذروته في أزمة الرهن العقاري عام ٢٠٠٧.
في انتخابات ٢٠٢٠ الرئاسية بدا أن ظاهرة ساندرز اليتيمة ولدت عشرات الظواهر الفرعية في مختلف مؤسسات البلاد، وأهمها الكونغرس، فوصلت الفلسطينية رشيدة طليب للنواب، ومعها الصومالية المحجبة الهان عمر والنادلة السابقة في أحياء نيويورك اليكساندرا كورتيز وغيرهم في مجلس الشيوخ من التيار الديمقراطي الاشتراكي. بسرعة ملفتة، حظي ذلك الخط السياسي بالقبول في السباقات البلدية وعلى مستوى مجالس التشريع في المقاطعات والولايات على السواء. اليوم يجلس تحت قبة الكونغرس وحده على الأقل ١٨ مشرعا من الداعين لتغيرات اقتصادية وسياسية جذرية، أو سمها راديكالية، في البلاد. يطالبون بوقف التدخلات الخارجية وتمويل الحروب ويعارضون الانحياز لإسرائيل بعد أن كانت مثل تلك المطالبات أقرب للخيال قبل سنوات قليلة.
على أن من المهم الالتفات إلى أن هذا العدد لا يعني الكثير قياسا ببحر من المشرعين يبلغ عديدهم لكل حزب في الكونغرس أكثر من ٢٥٠ عضوا. والحال كذلك، يبقى تحول هذه التغيرات الكمية إلى انقلاب نوعي في السياسة والاقتصاد مرهونا بتواصل حدوثها على مدى زمني يمتد لسنوات طويلة. خلالها، قد تتشكل كتلة حرجة قادرة على فرض تغييرات ذات معنى في بلاد تعيش اليوم لحظة اليمين كما لم تعشها من قبل.