دمشق، تل أبيب، وواشنطن: السباق لتحديد وجهة سوريا 


عماد الرواشدة واشنطن 

تسعى الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع، ذو الخلفية الإسلامية، إلى إصلاح الوضع الاقتصادي بأسرع وقت ممكن، وربما المتاح، في حين تقترب البلاد من نصف السنة الأولى على سقوط حكم أسرة الأسد. ما الذي يعنيه ذلك الاستقرار الاقتصادي بأبسط معانيه على الأقل؟ 

حسنا، باختصار، يعني ضمان دخول القمح والمشتقات النفطية والأدوية للبلاد. يعني أيضا تسهيل التحويلات البنكية من السوريين، أو غير السوريين، والتجار والشركات، في الخارج إلى الداخل والعكس؛ وهو ما يعني بدوره إعادة دمج البلاد في نظام سويفت للتحويلات المالية، المخصص لإتمام أي حوالة بنكية بين دول العالم. ويعد ذلك مهما أيضا باعتبار أن الزيادة في الحوالات المصرفية للبلاد، تعني تدفق المزيد من العملات الصعبة، وأهمها الدولار؛ العملة الأكثر قبولا للاستيراد والتصدير بين دول العالم؛ وسوريا إحداها. 


على أن كل ما سبق في يد الولايات المتحدة. 

منذ البدء، أي منذ الإطاحة بالأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، كان معروفا أن استقرار الاقتصاد  السوري يعني استقرارا سياسيا للبلاد التي مزقتها الحرب لأربعة عشر عاما. كانت الخشية وما تزال من أن الفوضى وما تخلفه من فراغ سيسمحان بعودة النظام القديم بأشكال مختلفة عبر ثورة مضادة تكررت نماذجها في الإقليم طوال سنوات الاحتجاجات العربية. وكان معروفا أيضا أن مفاتيح ذلك الاقتصاد المغلق، حتى اليوم، بيد واشنطن وليس أي طرف دولي أو إقليمي آخر. 

لكن الولايات المتحدة لم تغادر منذ سقوط الأسد منطقة الحذر والتردد تجاه دمشق. ليس هينا على الغرب عموما وأميركا خصوصا الانفتاح الكامل على نظام حكم بخلفية إسلامية في منطقة يمثل فيها الإسلام السياسي، بمختلف تلويناته، رأس حربة في معارضة النظم، إسرائيل، وحتى واشنطن نفسها. 

اكتفت الولايات المتحدة بإعطاء سوريا “استثناءً “من نظام العقوبات الذي فرضته عليها أيام الأسد. كانت إدارة الرئيس السابق جو بايدن هي من منحته في الواقع، وقبل أقل من أسبوعين من رحيلها وتنصيب ترمب رئيسا في يناير/كانون الثاني الماضي. في عرف الوكالة المشرفة على هذا النوع من العقوبات، أي وكالة مراقبة الأصول الأجنبية، أوفاك (OFAC)، يسمى الاستثناء “رخصة عامة“؛ ويعطي دمشق قدرة (مقيدة) على استيراد بعض الأساسيات لشعبها؛ قمح، وقود، أدوية..الخ. 

لكن تلك الرخصة محددة المدة. ستة أشهر فقط؛ تنتهي في يوليو/تموز المقبل. ويبدو أن محاولة تمديدها سنتين أو أكثر، دون الرفع الكامل لتلك العقوبات بالمناسبة، وهو ما تشير إليه وسائل الإعلام الأميركية في حال التوافق الرسمي مع دمشق، يبدو هدفا لنظام الحكم السوري، وورقة ضغط للولايات المتحدة، وتحد لإسرائيل. 

أن معدل مرتبات الموظفين السوريين لا تتجاوز٢٠ دولارا لدى سقوط النظام.

تقول الأرقام إن الوضع الاقتصادي للجمهورية يعيش ظروفا شديدة البؤس خلفها نظام حكم الأسد والعقوبات الأميركية التي فرضت عليه وشملت، كما هي عادة العقوبات الأميركية، سكان البلاد. ربما ليس أوضح للدلالة على ذاك البؤس من حقيقة أن معدل مرتبات الموظفين السوريين لا يتجاوز ٢٠ دولارا لدى سقوط النظام. أما الأمم المتحدة، فتخبرنا أن ٥٠% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و٧٠%  من الشعب يحتاج إلى المساعدات. 

صحيح أن الحكم الجديد حسن بعض الأوضاع في بعض المناطق مثل حلب، لكن المنظمة الدولية تقول إن “مزيدا من التمويل” ضروري لإدامة هذه التحسينات، “ناهيك عن توسيعها” لتشمل كامل البلاد. 

بين هذا الواقع وسعي السلطة السورية المحموم لتجاوزه، تقف واشنطن التي بعثت قبل شهر برسالة لحكام دمشق تتضمن ثمانية بنود تشرح باختصار شديد ما تريده. تدور غالبية تلك المطالب، أو الاشتراطات، حول “الإرهاب”. تقول الورقة التي نشرتها رويترز إن على دمشق التخلص من المقاتلين الأجانب في بنية الحكم، وإغلاق المكاتب للمنظمات الفلسطينية، وفق ما كشفت وول ستريت جورنال في تسريب إضافي، التأكد من أن الحكم الجديد دمر مخزونات السلاح الكيماوي، وأن هذه الإدارة السورية (ذات الخلفية الإسلامية) لن تشكل “تهديدا” لجيرانها. كان المسؤولون الأمريكيون أبدوا قلقهم من تعيين الرئيس أحمد الشرع لستة من المقاتلين الأجانب في مناصب قيادية بوزارة الدفاع.

من دون ذلك، أو جله، لا مساعدات ولا اقتصاد وفق المنطق الأميركي، أو المنطق الأميركي/ الإسرائيلي إن شئت؟

بالفعل، في مسار مواز لكل ذلك، تنشط جهود تل أبيب بإقناع الولايات المتحدة بالعكس. المحاججة الإسرائيلية بسيطة: النظام “الإسلامي” السوري يمارس التقية، كما يحذر الدبلوماسي الإسرائيلي السابق يورام ايتينغر في مقال باللغة الإنجليزي، وجهه بشكل صريح للرئيس الأميركي. “رؤية هيئة تحرير الشام لا تقتصر على سوريا” يقول السفير السابق، “بل تهدف إلى إسقاط جميع الأنظمة الإسلامية الوطنية، وإقامة كيان إسلامي عالمي.” 

مقالات كثيرة نشرتها الصحافة الإسرائيلية تجادل بسعي الحكم الجديد في سوريا لتثبيت دعائم سلطته، حتى إذا ما استقرت تلك السلطة، صارت لدى النظام الفسحة اللازمة للالتفات نحو مشروع إقليمي في القلب منه فلسطين، كما يخشون. في يديعوت أحرونوت الإنجليزية، الموجهة أيضا للقارئ الغربي، يشكك مقال مشابه بمنطقية وإمكانية تحول شخصية مثل الشرع “من تنظيم القاعدة للدفاع عن حقوق الإنسان بين ليلة وضحاها”.  

طبعا لا يبدو هذا النمط من التفكير مقتصرا على الكتاب الإسرائيليين، ولكنه يشمل حتى المسؤولين ممن يعتقدون أن الحكم السوري “يتظاهر” بالاعتدال وما يزال يشكل خطرا على إسرائيل، على ما يخشى وزير الدفاع إسرائيل كاتس.  

تلك  المخاوف التي تنشرها إسرائيل والساسة المؤيدون لها في واشنطن حول الحكم في سوريا قد تلقى بالفعل آذنا صاغية لدى دوائر ترمب المقربة، خصوصا مديرة مخابراته الوطنية، تولسي غابارد، التي اعتبرت، قبل توليها للمنصب، الحكم السوري الجديد مجرد تفرع عن القاعدة. 

مقابل انعدام ثقة تل أبيب في التيارات الإسلامية عموما، ورغبتها، وربما سعيها إبقاء دمشق خصوصا تحت ضغط الحاجة الاقتصادية والهشاشة السياسية، يحاول حكام سوريا الجدد إقناع الولايات المتحدة بتغيرهم. يبعثون برسالة يردون فيها على مطالب واشنطن. يوافقون على جزء منها، أي تلك المطالب، ويتركون أكثرها حساسية كموضوع المقاتلين الأجانب أو السماح باستخدام الأراضي السورية لتنفيذ عمليات أميركية ضد “الإرهاب”، يتركونها ل”المشاورات الواسعة” و”التفاهمات المشتركة” المستقبلية. 

للآن، يمكن القول بوقوف الأميركيين في المنتصف؛ مرتاحين للمؤشرات والمبادرات والتصريحات القادمة من دمشق عن الركون للسلم والتركيز على الداخل والاستعداد لإقامة سلام مع إسرائيل إن انسحبت من الأراضي التي احتلها غرب وجنوب غرب سوريا، كما نقل عنه مشرّع أميركي، لكن دون أن يدفعهم الأمر، أي الأميركيون، للاستعجال بخسارة ورقة العقوبات المهمة في أي مساومة سياسية. على الأقل ليس قبل الاقتناع بأن مزايا رفع تلك العقوبات تفوق الإبقاء عليها سياسيا. 

من غير المعروف إن كان الحكم الجديد جادا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل أم أنها مما تقتضيه السياسة كما يمارسها فصيل “إسلامي”. ومن غير المعروف أيضا إن كانت إسرائيل مستعدة أصلا للتخلي عما احتلته في الجولان مقابل التطبيع مع نظام بخلفية جهادية تعتقد، أي تل أبيب، أنه يمارس “التقية” ويخفي نواياه العدائية تجاهها. كل ذلك فضلا عن أن بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، يعتقد أن “الجولان ستبقى جزءا من إسرائيل للأبد”، فيما يرى رئيس أركانه إن المنطقة التي جرى اختلالها مؤخرا تتمتع بأهمية استراتيجية خاصة بالنظر إلى إشرافها على ما حولها. 

على أن عدم التفاهم السوري الأميركي حول الاقتصاد، لا يعني غياب التعاون الأمني والسياسي.

فالأميركيون، كما بات معلوما، بوسعهم دائما فصل المسارات؛ لذا ساعدوا بإقناع القوات الكردية، المسماة “قسد”، بالانضمام للحكومة السورية والجلوس مع الشرع على طاولة تفاهم وفق ما تسرب أميركيا. كما أن واشنطن، على ما تخبرنا وول ستريت جورنال، لم تتردد بالتنسيق مع الحكم السوري لإحباط أكثر من عملية تخريبية في قلب العاصمة. 

يمكن قراءة هذه التحركات باعتبارها حرصا من إدارة ترمب، أو رغبة على الأقل، باستقرار الحكم الجديد، بوصفه السبيل المتوفر الوحيد لخروج البلاد من الفراغ والفوضى. بالنسبة للولايات المتحدة، سيعني الاستقرار السوري، إمكانية عودة ٢٠٠٠ من جنودها يتوزعون على أنحاء البلاد المختلفة بدعوى محاربة “الإرهاب”، وسيعني أيضا خطوة إضافية نحو ترك الشرق الأوسط وشأنه أملا بتخصيص جل المصادر الأميركية للغاية الاستراتيجية الأهم في الألفية الجديدة: التحول نحو إضعاف الصين. أو ما سمي اصطلاحا، أو من باب اللياقة الدبلوماسية، Pivot to Asia “التحول نحو آسيا”

تشبه هذه الديناميكية في العلاقة بين سوريا والولايات المتحدة وإسرائيل إلى حد بعيد لعبة شد الحبال. الغاية النهائية للسوريين والإسرائيليين كل على حدة، هي الفوز بوعي صناع القرار بالبيت الأبيض والكونغرس بما يخدم مصالح بلادهم وفق ما يرونها طبعا. أما بالنسبة لحكومة ترمب، الانعزالية في إدارتها لعلاقاتها الدولية، فالبلد لم يعد ساحة مواجهة مع النفوذ الروسي الإيراني، وليس فيه اليوم ما يغري ببقاء القوات الأميركية، لذا نجد الرئيس وقد أمر بتخفيض عددها من ٢٠٠٠ ل٥٠٠، متأملاً لسحب كامل العدد في مرحلة ما. 

في قناعة ترمب، لا يختلف التورط الأميركي في سوريا، عن التورط في أوكرانيا أو حتى مع الحوثيين وإيران، كلها حروب تنتمي لعهد قديم يريد هو وجماعته السياسية تخطيه وتخطيها مرة واحدة وللأبد. رغبةٌ، بقدر ما تحاول دمشق الاستثمار فيها، على ما يبدو، تسعى تل أبيب لتعطيلها.

إسرائيلارهاباقتصادالجولانالجولانيالشرعالغربالولايات المتحدةترمبفلسطيننتنياهوهيئة تحرير الشام