الشتات كقوة لاعقلانية

واشنطن- عماد الرواشدة – خاص مجلة المراسل


بالعموم، يظهر من ينتمون لقضية تغيير أو مقاومة ويعيشون خارج أوطانهم، أو من يعرفون بالشتات (دياسبورا)، نزعات راديكالية وتصلبا سياسيا في مواقفهم على نحو يفوق أقرانهم ممن يعيشون في الوطن الأم. 

يحدث ذاك التصلب والإفراط بكل الاتجاهات؛ أي نحو السلم والسلمية، أو صوب العنف والمقاومة المسلحة. وبسبب انفصالهم الجغرافي عن الواقع على الأرض في الوطن الأم، تتولد لدى سكان المغتربات هوة تفصلهم عن وعي الشروط والقيود الموضوعية المفروضة على أقرانهم ممن بقيوا داخل الوطن؛ فيطالبونهم أحيانا بأكثر مما يطيق الأخيرون، وحينا يجبرونهم على اتخاذ مواقف تتعارض مع معطيات ظرف سكان “الداخل” الموضوعي.

لوحظت تلك النزعة في موقف الايرلنديين في المهجر، تحديدا في الولايات المتحدة، من مفاوضات وصراع أشقائهم في الوطن الأم، إيرلاندا الشمالية. بالفعل، صعَّب موقف الآيرلنديين الأميركيين المنضوين تحت ما سمي Nordaid، وأخَّر التوصل لاتفاق لحل المشكلة الايرلندية وسعي سكان هذا البلد التخلص من الهيمنة الإنجليزية. المؤسسات الخيرية للشتات الايرلندي في أميركا مولت في مراحل مختلفة الجيش الإيرلندي IRA الثوري، وسعت للتوصل لاتفاق بناء على القوة في الميدان وليس أقل من ذلك.

لكن الباحثين رصدوا هذا النمط في حالات أخرى أيضا. علاقة شتات التاميل بحركة نمور التاميل السريلانكية مثلا، أو علاقة مغتربي قبرص بحركة المقاومة المسلحة لقبرص، أرمينيا، أو حتى معارضو القيصرية الروسية من الروس في المهاجر.

هل يمكن وصف هذا التصلب لدى جماعات الشتات باللامسؤول؟ هذا على الأقل ما يجادل به بنديكت أندرسون، عالم الإنسانيات المعروف وواضع مفهوم “الوطنية عن بعد” long-distance nationalism. استخدم أندرسون المفهوم ليؤشر على “انعدام المسؤولية السياسية لجماعات الشتات التي تخوض في سياسات الهوية دون دفع ثمن الصراع العنيف الذي قد ينتج عنه”. 

إلى جانب كونه باحثا ومهتما بتأثير الشتات الأيرلندي على الصراع التحرري للايرلنديين (والذي استمر اكثر من ٨٠٠ عام بالمناسبة)، عرف الأستاذ في العلوم السياسية بمؤلفه الأشهر “المجتمعات المتخيلة”Imagined   Communities الذي حاول فيه الكشف عن الكيفية التي ظهر بها مفهوم الوطنية nationalism للعلن. نال المؤلف شهرة واسعة بقدر ما نال نقدا واسعا أيضا، ليس هذا هو المقام لاستعراضه، لكن الفكرة الأساسية التي تهمنا هنا، هي أن جماعات الشتات عادة ما تميل لتبني اتجاهات وطنية “متطرفة” في نظرتها للوطن الأم، وفق ما يرى. يخبرنا اندرسون أن تلك الجماعات “يمكن أن تؤجج التوتر وتكرر التفاصيل القديمة المتأصلة في المواقف من الصراع”.

تنظر الأدبيات لسكان الشتات باعتبارهم نجوا من تعقيدات واقعهم في الوطن الأم، أسسوا لحياة مستقرة نسبيا اقتصاديا واجتماعيا، لكنهم يواصلون التمسك بصلتهم نحو الوطن عبر الانخراط في شؤونه عن بعد.

تنظر الأدبيات لسكان الشتات باعتبارهم نجوا من تعقيدات واقعهم في الوطن الأم، أسسوا لحياة مستقرة نسبيا اقتصاديا واجتماعيا، لكنهم يواصلون التمسك بصلتهم نحو الوطن عبر الانخراط في شؤونه عن بعد. في أوقات الصراع والأزمات، من السهل عليهم اتخاذ المواقف التي تفوق في راديكاليتها حتى مواقف سكان الوطن الأم ممن يعيشون في تماس مباشر مع الصراع، لكنهم (أي سكان الشتات) يملكون ترف ذلك التشدد في ظل عدم تأثرهم بتداعياته وعواقبه كما أقرانهم. 

بالإمكان سحب تلك الملاحظات اليوم على نماذج عربية أيضا أغفلتها أو لم تركز عليها الأدبيات الغربية.

من الممكن النظر مثلا في موقف فلسطيني الشتات من القضية الفلسطينية، إذ تسود نزعة باتجاهين متوازيين وحديين فيما يبدو. واحدة نحو الالتزام بالصدام السياسي والمسلح، تقريبا بأي ثمن، مع ميل لتخوين المخالفين وإظهار قدر مما يشبه التطهرية السياسية؛ وتشيع في أوساط اليسار من ورثة الفصائل الفلسطينية الشيوعية والقومية التي كانت متصدرة للمقاومة المسلحة في السبعينيات والثمانينيات، وفي صفوف مؤيدي المقاومة الإسلامية اليوم على السواء. أما النزعة الثانية، فتميل للدعوة لوقف العمل المسلح عموما والانخراط في السعي نحو السلام بأي ثمن، وهي نظرة تنتشر في الغالب بين مؤيدي السلطة الوطنية في الخارج، وكثر آخرين من غير المسيسيين بالضرورة. 

تتميز النزعتان بتقليلهما من أهمية اشتراطات واقع من يعيشون في الداخل. قد بدا ذلك واضحا في المعارك الكلامية التي دارت على صفحات المواقع الإخبارية ووسائل التواصل حول ارتفاع الكلف الإنسانية للمواجهات المسلحة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي طوال العقدين الماضيين. انقسم الرأي العام الفلسطيني في الشتات بين من يرى بضرورة الذهاب باتجاه السلم على طريقة اتفاقات إبراهيم وبصرف النظر عن غياب أي ضمانات بنتائج ملموسه، وبين من يقدم العمل العسكري للفصائل بوصفه الطريقة الأفضل والأنجع والأوحد ربما لمجابهة الاحتلال وبمعزل عن كلفه الهائلة بشريا في بعض الأحيان. 

ولئن كانت فلسطين قضية عربية، يغدو ممكنا اعتبار العرب عموما شتاتا، دياسبورا، في علاقتهم بها، وليس فقط الفلسطينيين؛ فالاحتلال الصهيوني حدث بعد حروب خاضها عرب المشرق وهزائم منيو بها وراكموها خلّفت فيما يبدو جرحا في هويتهم الوطنية والقومية واغترابا ومناف نفسية بدرجات متفاوتة. يغدو ملاحظا إذن كيف ينقسم الرأي العام حتى في أوساط العرب في الشتات من غير الفلسطينيين، بين راديكالي في دعمه المقاومة المسلحة بأي ثمن، و راديكالي بدعمه السلم، أو حتى الاستسلام أحيانا، بأي ثمن أيضا. 

وضمن نفس المنطق، يمكن بسهولة رصد هذا النمط من المواقف لمواطني الشتات في أوساط سوريي المهجر أيضا. فالثورة التي تفجرت قبل ١٣ عاما، وإن كانت ضد نظام سوري وليس احتلالا أجنبيا، إلا أنها ولَّدت هي الأخرى مفهوما جديدا لما يعنيه الوطن والوطنية، خصوصا مع انقسام المجتمع إلى نازحين ولاجئين، ١١ مليونا من أصل ٢٢ مليونا على الأقل، وسوريين في الداخل ممن عايشوا وما يزالون ويلات الحرب والاعتقال والقتل قبل سقوط النظام، أو مصاعب الانتقال للسلطة بعد سقوطه. 

في ذلك المشهد السوري، تشيع أيضا نزعتان متضادتان في أوساط الشتات؛ واحدة تنتشر في صفوف التيارات “المدنية” والعلمانية أكثر من غيرها؛ مفرطة في الدعوة للسلمية والتسامح واللين في مداورة أخطار مخلفات النظام السابق والدول الأجنبية المترددة والمتوجسة، مثل الولايات المتحدة، أو العدوانية مثل إسرائل. تلح هذه الجهات في مطالبتها بانتقال وادع تماما للسلطة. وتدعو إلى الالتزام بالدقة البالغة في تنفيذ “العدالة الانتقالية” على نحو يعلي من شأن القيم الإنسانية في مواجهة بقايا النظام السابق، وتمتاز تلك الطروحات بمسحة من العقلانية والصوابية ربما، قد لا تسمح بها اشتراطات الظرف الموضوعي التاريخي والحاضر لسوريي الداخل. 

النزعة الثانية، في المقابل، تشيع أكثر في أوساط التيارات الإسلامية، وتبدو ميالة نحو إظهار الغلظة، واستعراض القوة، وربما الخشونة في التعامل مع مخلفات النظام السابق، والتغاضي عن الأخطاء “الصغيرة” لصون منجز الثورة الهش.

 الشتات، دياسبورا، اليوم قوة تاريخية من العيار الثقيل، كما يرى فاليري تيشكوف، وهو أيضا باحث في تفاعلات هذه الفئة مع الصراعات التي يخوضها الوطن الأم. يقول إن هذه الجماعة مؤثرة لدرجة تمكنها من “تفجير الأحداث الكبرى والتأثير عليها، مثل الحروب والصراعات وإنشاء الدول أو حلها والإنتاج الثقافي المرتبط بها.”

يبدو ان هذا الميل نحو اتخاذ المواقف الراديكالية مرتبط بعاملين اساسيين: أولهما عدم العيش على الأرض في الوطن الأم بما يتيحه من فرصة الاختبار المباشر لتحديات ومصاعب مواطني الداخل بشكل شخصي؛ فالتجربة الشخصية لما يعانيه من بقيوا في بلادهم تسهم عادة  بتفهم أعمق للحساسيات السياسية والاجتماعية التي يداورونها، وتباعا عقلنه وترشيد الموقف السياسي لساكن الشتات بناء عليها عوض الإتكاء على “نقاط مرجع” أخلاقية أو/و صوابية منفصلة عنها.

يسود الشعور بالذنب في أوساط شرائح واسعة من مواطني المهجر بسبب تمكنهم من إنجاز ما يبدو وكأنه خلاص فردي.

ثاني تلك العوامل ذو صلة بعقدة الناجي؛ Survivor’s ،guilt إذ يسود الشعور بالذنب في أوساط شرائح واسعة من مواطني المهجر بسبب تمكنهم من إنجاز ما يبدو خلاصا فرديا تمكنوا منه في وقت يقاسي فيه أهلهم من سكان  “الداخل” ويلات واقعهم المعقد. 

لكن قد يصح القول إن هذه العقدة تولد بدورها رغبة عند ساكن الشتات بالتعويض؛ فيزيد، ليس فقط من تصلبه السياسي وراديكاليته،  كما يرى كثير من الباحثين، ولكن أيضا من ميله نحو السلمية (أو الاستسلام؟). قد تزيد تلك العقدة أيضا من رغبة هذه الفئة بالمساومة والتنازل لتجنيب سكان الوطن الأم آلاما نجحت هي بالإفلات منها. في فعله ذاك، يحاول ساكن الشتات أن ينهي معاناة أقرانه في الوطن بأي ثمن، أملا بتلطيف شعوره بالذنب. الهجرة، أو اللجوء، على الأقل لساكن الشتات، ينبغي أن نتذكر، تحمل طعم الخطيئة؛ خطيئة التفريط، التخلي والأنانية التي يبدو له التطهر منها متوقفا على التزام المواقف الحدية بكل الاتجاهات.