المصدر: Unite America Institute
عماد الرواشدة
ينشر هذا التحليل بالتزامن بين مجلتي المراسل وحبر.
قبل أسبوع على الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقفت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس أمام مبنى الكونغرس موجهة خطابها الأخير لأكثر من خمسين ألف أميركي احتشدوا لدعمها بوجه مرشح يعتقدون أنه سينحرف ببلادهم نحو الشمولية، قائلة إن خطاب ترمب «ليس ما نحن عليه كأميركيين».
لكن المرشحة الديمقراطية خسرت.
صبيحة النتائج، كتب الصحفي بيتر بيكر في نيويورك تايمز: «ربما هذا ما نحن عليه!!». انتقد بيكر الصورة النمطية التي روجها الديمقراطيون عن ترمب باعتباره «انقطاعًا مؤقتًا» عن مسيرة التقدم الأميركي، أو أن فوزه في 2016 كان صدفة. يقول بيكر، الذي غطى حكم ستة رؤساء أميركيين سابقين لصالح صحيفة النيويورك تايمز، في مقاله إن ترمب «أصبح الآن شخصية محورية تُشكل الولايات المتحدة على صورتها الخاصة» .
ربما كان ذلك صحيحًا.
اليوم، يقف خلف الرئيس المنتخب مشروع نظري، وربما فلسفي، يزيد عمره على الأربعين عامًا، ويتطلّع هذا المشروع لتغيير الولايات المتحدة أو ربما إنهائها كما نعرفها، وخلق أخرى مختلفة نوعيًا. يُعرف المشروع إعلاميًا باسم مشروع 2025 (Project 2025)، ويمثل في جوهره خلاصة تطوّر التيار المحافظ في البلاد والذي عبّرت عنه سلسلة كتب حملت اسم «تفويض للقيادة» Mandate for Leadership وعكف على تأليفها منذ 1979 باحثون وسياسيون وعلماء في السياسة والقانون الدستوري محافظون.
إذًا، مشروع 2025 هو نسخة من هذا التفويض، وقد أخذت عنوانًا أقل ما يقال فيه إنه صادم، على الأقل لملايين الأميركيين من معارضي ترمب، وهو: «تفكيك الدولة العميقة».
برنامج لتغيير أميركا
تقول الفقرة التعريفية على موقع المشروع الذي رعته وأصدرته ربيع العام الماضي مؤسسة التراث، Heritage Foundation المحافظة، إنه «حركة تاريخية، جمعتها أكثر من 100 منظمة من جميع أطياف التيار المحافظ، للقضاء على الدولة العميقة وإعادة الحكومة إلى الشعب».
أثار المشروع، بلغته هذه الشبيهة بنبرة الثوار على النظم القمعية، ضجة كبيرة. حتى أن الرئيس الحالي جو بايدن قد وصفه، قبل الانتخابات، قائلًا إنه «أكبر هجوم في تاريخ البلاد على نظام حكمنا وحريتنا الشخصية على الإطلاق»، مضيفًا أنه «دليل لرئاسة ترمب المقبلة إن فاز، ولن أسمح لذلك بأن يحدث إلا على جثتي».
بحسب منظمة الإرث، التي أصدرت حتى الآن تسع نسخ من هذا الكتاب، فقد تبنى الرئيس الأسبق رونالد ريغان 60% من مضمون الإصدار الأول.
تطالب نسخة هذه الإدارة بتقليص الحكومة الفيدرالية وبرامجها للحد الأدنى، وهو ما يعني إلغاء غالبية الوزارات ونقل الإدارات لخارج العاصمة، واستعادة التصنيع، وإحياء الثقافة والدين المسيحيين، والأهم توسيع سلطة رئيس الولايات المتحدة وتعزيزها. هذه الأخيرة هي ما يثير تشكك وخوف التيار الليبرالي لأنها تذكر بتجارب الانقلابات الدستورية الناعمة في النظم الجمهورية. لكن المحافظين يقولون إنهم يستندون إلى نظرية في القانون الدستوري تسمى «الوحدة التنفيذية» Unitary executive، وتجادل بضرورة الحد من تأثيرات البيروقراط المعينين وغير المنتخبين على الرئيس المنتخب، وتعزيز سلطته في مواجهة سلطاتهم. من هنا ينظر هؤلاء لما يصفونه بـ«الدولة العميقة» بوصفها تعديًا على جوهر النظام الديمقراطي الأميركي وسلطة الرئيس المنتخب والكونغرس، وليس العكس.
تقدم النسخة الأخيرة من الكتاب الصراع على أنه صفري، واصفة شعور المظلومية والقمع الذي يعاني منه المحافظون بالقول إنهم «محاصرون بأعداء وجوديين في الخارج والداخل».
يقدم الكتاب، الذي وضعه أربعمائة «عالم» من شتى المجالات، الولايات المتحدة اليوم في صورة أقرب لمدينة «غوثام» المهترئة والفاسدة. أمّا ترمب فيصف المشهد أمام أنصاره بالقول: «إنه العفن، لا أدق من هذه الكلمة». ثم يستدعي نصيرُه المخلص، إيلون ماسك، شخصية القاضي دريد من كتب الأبطال الخارقين، ويسقطها على مرشح ترمب لوزارة العدل مات غيتس الذي انسحب مؤخرًا؛ «إنه القاضي دريد الخاص بأمريكا، يحتاج إلى تنظيف نظام فاسد ووضع الجهات المؤثرة والسيئة من أصحاب السلطة في السجن».
اليوم تعول الحركة على ترمب بوصفه فرصتها الأخيرة. «لدى المحافظين محاولة واحدة لإنجاح مسعاهم. لا يوجد هامش للخطأ مع الأعداء في الداخل والخارج. الوقت ينفد. إذا فشلنا، فسنخسر القتال من أجل فكرة أمريكا نفسها» تقول مقدمة كتابهم «تفويض للقيادة».
ينفي ترمب مجرّد اطلاعه على تلك الأطروحات، وهو نفي لا يصدقه خصومه. لكن، وبغض النظر عن اطلاعه عليها من عدمه، تتطابق وعود الرئيس المنتخب وبرنامجه مع معظم ما جاء في مشروع 2025. كما أن أبرز تعيينات ترمب الأخيرة، مثل المرشح لقيادة وكالة المخابرات المركزية سي آي إيه، جون راتكليف، ساهموا في صياغة هذه الوثيقة.
يعكس برنامج ترمب في جوهره تفاصيل مضمون المشروع، خصوصًا تعهده الأكثر إثارة للجدل «استعادة الديمقراطية من فساد واشنطن مرة واحدة وللأبد». ولتحقيق هذه الأهداف، يقول ترمب، في سلسلة فيديوهات نشرها وقت كان مرشحًا، ضمن ما عرف بـ«أجندة 47»، إن أولى الخطوات لاستعادة الديمقراطية تكمن في طرد من يصفهم بـ«البيروقراط المارقين» و«تنظيف مؤسسات الأمن القومي والاستخبارات من الموظفين الفاسدين»، و«نفض» المؤسسات العدلية والقضائية لمنع تسييسها.
«هذه المؤسسات لن يعود بمقدورها ملاحقة المحافظين، المسيحيين أو المعارضين السياسيين قانونيًا»
-يقول ترمب في فيديوهاته.
كما ينوي ترمب «رفع السرية عن الوثائق التي توضح تجسس الدولة العميقة وفسادها والرقابة التي تفرضها على الأميركيين». ويقول إنه سيلاحق مسرّبي الأخبار من المؤسسات الحكومية لوسائل الإعلام التي يعتبرها مصدرًا للأخبار الملفقة. سيفصل ترمب عمل المفتشين العامين داخل الوزارات عن تلك الوزارات «حتى لا يصبحوا حماة لتلك الدولة العميقة» وفق تبريره. والأهم هو تشكيل لجنة للرقابة على عمل جهاز الاستخبارات لمنعه من «التجسس على المواطنين الأميركيين أو تنظيم حملات للتضليل».
باختصار، تهدف خطة ترمب بمجملها إلى تجفيف ما يصفه بـ«مستنقع» واشنطن الفاسد.
السؤال الذي قد يتبادر للذهن هنا هو هل بالفعل يبدو الوضع في واشنطن مظلمًا إلى هذا الحد الذي يصفه ترمب وأنصاره؟
واشنطن: صناعة السياسات وتدوير الساسة
عبر عقود، تحولت العاصمة واشنطن إلى شبكة معقدة من العلاقات بين موظفي الجهاز البيروقراطي، وأعضاء الكونغرس وموظفي البيت الأبيض من جهة، والشركات الخاصة من جهة أخرى. يرمز شارع K، في قلب العاصمة لتلك العلاقة بين جماعات الضغط والسلطتين التشريعية والقضائية. على جانبيه كانت تقطن غالبية شركات المحاماة التي تصوغ القوانين أو تعدلها بالنيابة عن زبائنها في قطاعات الأدوية أو السلاح وغيرها، ثم تقدمها للرئيس أو أعضاء الكونغرس لإقرارها ضمن ما يعرف في أميركا والعالم بالضغط (Lobbying).
لكن هذه العلاقة لا تنتهي بنجاح المرشح أو حتى رحيله عن السلطة؛ فعند تغيّر ساكن البيت الأبيض واستقالة موظفيه، يذهب جزء أساسيّ من طبقة الموظفين تلك للعمل في القطاع الخاص (الذي مرروا مصالحه أثناء توليهم المنصب)، ثم إن عادت إدارة جديدة تمثل حزبهم للبيت الأبيض من جديد، ترك هؤلاء البيروقراط القطاع الخاص وعادوا للعمل في الحكومة. وهكذا دواليك.
تسمى تلك الظاهرة في القاموس السياسي الأميركي بالباب الدوار.
«رغم أن مراكز النفوذ التي تصطف على جانبي شارع K في واشنطن لا تبعد سوى بضعة أميال عن مبنى الكونجرس الأميركي، فإن الطريق الأكثر مباشرة بين الاثنين لا ينطوي بالضرورة على استخدام وسائل النقل العام» تقول منظمة Open Secret المختصة في رصد نشاط اللوبيات وجماعات الضغط. «الطريق يمر عبر باب دوار ينقل الموظفين الفيدراليين السابقين إلى وظائف جماعات الضغط والمستشارين والاستراتيجيين، تماماً كما ينقل الباب الموظفين السابقين إلى وظائف حكومية».
تخبرنا الأرقام أن أكثر من 30% ممن تركوا مقاعدهم في مجلس النواب الأميركي بين الأعوام 1945-1994 التحقوا بشركات جماعات الضغط أو «اللوبينغ». تشهد تلك الشركات ارتفاعًا في عوائدها لدى تعيين مسؤولين حكوميين سابقين مقارنة بالموظفين الآخرين من خلفيات وظيفية أخرى. ولا تزال هذه الآلية في تشكيل الطبقة السياسية وإدامتها حقيقة من حقائق النظام السياسي الأميركي لم تجد معارضة تذكر؛ إلى أن بدأ اليمين بالحديث عنها في إطار الإشارة لما يصفه بـ«الدولة العميقة».
«حتى لو حاول ترمب أن يكون إصلاحيًا، فهو بالتأكيد غير قادر على ذلك» يخبرني إيلان كليفتون، كبير مستشارين في معهد كوينسي للأبحاث في واشنطن، وهو مركز أبحاث نقدي تجاه السياسات الأميركية. و«لا يعود ذلك فقط لطبيعة الأشخاص الذين أحاط نفسه بهم، ولكن أيضًا لأن هناك عددًا قليلًا جدًا من الخيارات التي يمكن اعتبارها من خارج السيستم الذي ينتقده».
يبدو ذلك صحيحًا بالفعل؛ فتأثير جماعات الضغط، وهي فاعل مهم إلى جانب ما يصفه المحافظون بـ«الدولة العميقة»، يبدأ منذ لحظة ترشح أي سياسي في البلاد؛ فيحدّ من صلاحيته مباشرة أو بشكل غير مباشر. وإذا أخذنا إدارة ترمب الأولى كنموذج للقياس عليه، فسنجد أن ترمب نفسه استفاد من هذا النشاط، وما يزال يواصل الاستفادة منه.
ترمب واللوبيات والسياسة الخارجية
فور وصوله سدة الحكم في 2017، أصدر ترمب قرارًا تنفيذيًا يمنع على الموظفين المعينين من قبل البيت الأبيض العمل لصالح شركات الضغط لخمس سنوات بعد تركهم المنصب. نصَّ قراره أيضًا على منع من عملوا سابقا مع جماعات الضغط والتحقوا بالإدارات الأميركية من شغل مناصب ذات صلة بنشاط الضغط الذي كانوا يمارسونه.
خطوة كبيرة، لكنها فيما يبدو لم تنجح.
تخبرنا مسوحات منظمة OpenSecrets المختصة بتتبع نشاطات الضغط أن «بعض الرجال والنساء شقوا طريقهم عبر الباب الدوار» وكانوا إمّا في جماعات ضغط سابقًا وعملوا في إدارة ترمب الأولى أو كانوا سابقًا في الإدارة ويعملون حاليًا في جماعات ضغط». من بين هؤلاء ليزا ماري شيني التي عينها ترمب عضوًا في مجلس الأمن القومي في إدارته الأولى بعد أن جاءت للمنصب من خامس أكبر شركة للسلاح في البلاد، جينيرال داينامك، ووزير الدفاع السابق نفسه، مارك إسبر، جاء لمنصبه من شركة الأسلحة ريثيون. وهذه الشركات محسوبة على ما يعرف بالمجمع الصناعي العسكري المتهم بالاستفادة من إدامة انخراط البلاد في النزاعات المسلحة التي يقول ترمب إنه يعارضها.
لمعرفة تأثير هذه التعيينات وغيرها على سياسات ترمب في إدارته الأولى بالإمكان استقراء قراراته تحديدًا في ملف السياسة الخارجية. في مثال دالٍ، زاد ترمب في أول ثلاث سنوات من حكمه عديد القوات الأميركية في أفغانستان من نحو 8000 في عهد أوباما إلى 15000، وزاد من وتيرة العمليات العسكرية هناك، قبل أن يهندس اتفاق الانسحاب مع حركة طالبان. رغم ذلك، نراه يفضل القول إن عهده لم يشهد حروبًا كبرى.
علينا أن نلتفت هنا إلى أن ترمب هو من اتخذ قرار تسليح الأوكران في ولايته الأولى عام 2018 بعد أن دربهم أوباما، يذكرنا أستاذ العلاقات الدولية الأميركي جون ميرشايمر . حدث ذلك رغم أن ترمب قدم نفسه كمعارض للحروب في الخارج باعتبارها أرهقت اقتصاد البلاد. لماذا فعل ذلك؟ «ببساطة لأنه ليس ندًا لمؤسسة السياسة الخارجية الأميركية»، يقول ميرشايمر في إحدى مقابلته حول ترمب.
تُعد مؤسسة السياسة الخارجية، كما يصفها ميرشايمر، من القوة والتجذر بحيث يصعب على الرؤساء مواجهة استنتاجاتها وسياساتها التي ترقى لمستوى البديهيات. قبل ترمب، أعجزت تلك المؤسسة أوباما الذي زعم في مقابلته الأشهر مع مجلة «أتلانتك» أنه تحداها حين امتنع عن التحرك عسكريًا ضد النظام السوري بعد اتهامه باستخدام السلاح الكيماوي ضد فصائل المعارضة.
«يوم التحرر، هو ذلك اليوم الذي تحديت فيه ليس فقط مؤسسة السياسة الخارجية وقواعد استخدام صواريخ كروز، ولكن أيضًا مطالب حلفاء أمريكا المحبَطين في الشرق الأوسط» يقول أوباما في مقابلته تلك.
لكن كثرًا يعتبرون أن أوباما لم يصمد طويلًا، وتقبّل تدخل واشنطن في الشأن الأوكراني دعمًا للمظاهرات الدامية لإسقاط الرئيس المعارض للغرب فيكتور يانوكوفيتش في 2013، وهو ما تبعه ضم موسكو لشبه جزيرة القرم وزيادة التوتر بين انفصاليي الدونباس وحكومة زيلينسكي الموالية للناتو، لينتهي التصعيد بالغزو الكامل في 2022 في عهد بايدن. يذكرنا بكل ذلك أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جيفري ساكس الذي عمل مستشارًا في اقتصاديات التنمية لعدد من الحكومات حول العالم في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية.
تبدو تلك الهيمنة لـ«مؤسسة السياسة الخارجية» على رغبات وقرارات الرؤساء معروفة حتى لقادة الدول الكبرى، يقول ساكس. مشيرًا لما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سابقًا من كونه لا يُلقي بالًا لما يحمله الرؤساء الأميركيون الذين يجيئون ويغادرون البيت الأبيض من أفكار، «ففي النهاية سيجلس نفس الرجال ببدلات داكنة وربطات عنق زرقاء ويخبرون الرئيس كيف عليه التصرف في السياسة الخارجية».
ولئن كان ترمب فشل فعلًا في مقاومة تلك المؤسسة في إدارته الأولى فالسؤال هل سينجح في مساعيه في إدارته القادمة؟
«استخدم ترمب خطابه حول فساد المؤسسة الحاكمة لأنه يعرف أن ذلك ما يريد جمهوره سماعه. وهناك بعض الحقيقة في هذا الطرح». يقول كليفتون، مضيفًا: «ثمة بالفعل فساد قانوني في الولايات المتحدة تحديدًا في مجال السياسة الخارجية، وهو أمر لا يناقش كثيًرا، ولا أظن أن ترمب نفسه ناقشه».
ورغم وعوده بتحقيق ذلك، إلّا أن ترشيحاته لمناصب رئيسة في إدارته القادمة تبدو مناقضة لتلك الوعود، سواءً كان الأمر متعلقًا بروسيا، والصين، أو دول الناتو والشرق الأوسط.
«حين تنظر لمعظم من رشحهم ترمب اليوم في مناصب الأمن القومي، [تجد أن] جميعهم صقوريون مثل وزير خارجيته ماركو روبيو ومستشاره للأمن القومي مايك والتز» يقول ميرشايمر الذي يصف حديث ترمب عن قدرته على إنهاء الحرب الأوكرانية خلال 24 ساعة بالـ«هراء». أيُّ وصفة لإنهاء الحرب يجادل ميرشايمر، تتطلب إقرار أميركا بانتصار الروس وتقديم ما يريدونه من تنازلات وأهمها الاعتراف بسيادتهم على المناطق التي احتلوها سواء القرم أو إقليم الدونباس، «وهو ما لا يمكن للسي آي إيه تقبله».
ربما كان ذلك صحيحًا، لكن الأمر مع ترمب دائمًا ما يحتوي على تفاصيل تُصعّب الاستنتاج. فمثلًا، مرشح ترمب لمنصب وزير الخارجية ماركو روبيو، ورغم أن كلّ مواقفه من الحرب الأوكرانية، طوال السنتين الماضيتين من عضويته في لجنة المخابرات لمجلس الشيوخ، تجعله يبدو صقوريًا، إلا أنه تغير بشكل لافت منذ آذار الماضي مع توضح تقدم ترمب بالسباق. اليوم، يدافع روبيو عن ضرورة إيجاد «نهاية للحرب» والتفاوض بشأن ذلك. في الملف الصيني، يبدو روبيو متوافقًا مع ترمب على استكمال سياسة الحرب الاقتصادية على بيجين دون الانجرار لمواجهة عسكرية معها، وفق ورقة سياسات متكاملة كان وضعها حول العلاقة مع الصين.
في ملف الشرق الأوسط اختار ترمب مجموعة مسؤولين من أقصى اليمين ممن يطرحون رؤى عدائية وصدامية مخالفين موقفه (المعلن) من القبول بمسلمات السياسة الخارجية الأميركية القائمة على دعم، ولو خطابيّ، حل الدولتين وعدم الانجرار للتصعيد مع إيران. فمثلًا، يدعو كلٌ من مستشاره للأمن القومي مايك والتز العسكري السابق والموصوف بالصقوري، ووزير دفاعه المسيحي الصهيوني والمجند السابق أيضًا بيت هيجسيث، لسياسة عسكرية تصعيدية مع طهران تصل حد السماح بقصف مصادرها النفطية ومنشآتها النووية وحتى المواقع الدينية.
وحين اختار مبعوثه للشرق الأوسط، لم يجد ترمب أفضل من ستيف ويتكوف، الذي لا تتعدى خلفيته العمل في صفقات العقار المليونية، ليصبح أول مبعوث للشرق الأوسط في تاريخ الصراع مع «إسرائيل» قادم من قطاع المال والأعمال بلا أي حيثية سياسية، اللهم إلا كونه يهوديًا صهيونيًا ومتحمسًا لنتنياهو. حتى نائب الرئيس، الأقرب إليه في صياغة سياساته، جي دي فانس نأى بنفسه تمامًا عن الإجابة عن سؤال حول ما إذا كان يدعم حل الدولتين كإطار للتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، متجاوزًا حتى بعض الجمهوريين، بالقول إنه «يفضل ترك الأمر للإسرائيليين لتقرير ذلك».
«صعب، صعب جدًا، أن تعثر على أشخاص لتعيينهم في أي إدارة ليسوا جزءًا من اللوبيات في واشنطن» يخبرني كليفتون؛ «أظن أن ترمب يريد بالفعل إنهاء بعض النزاعات في العالم، فهي مشكلة لكثير من الزعماء السياسيين، لكن هل يمكنه ذلك؟! صعب تخيل ذلك».
الدولة العميقة في سياق أميركي
اليوم، باتت تلك «الدولة العميقة» حديث الساسة، وَيعِدُ أعضاء في الكونغرس بتفكيكها، كما هدد السيناتور إريك شميت، كما أنها تثير خيال مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن كان استخدامها محصورًا بأصحاب ما يسمى «نظريات المؤامرة» وقلة من اليسار الراديكالي وبعض من يصفون أنفسهم بالتحرريين Libertarians. ولأن التعبير لم يكن رائجًا؛ أكاديميًا وصحفيًا، كان ردّ فعل الجهات الرسمية والإعلام الليبرالي المعارض للمحافظين على استخدامه هجوميًا.
«الدولة العميقة حقيقة، لكنها ليست ما تظنه» دافعت مجلة بوليتيكو المعروفة. «لقد تبين في النهاية أن الدولة العميقة أمر رائع» كتبت نيويورك تايمز. «الدولة العميقة حقيقة لكنها ليست ما يظنه ترمب» عنون موقع فايس الإخباري. تحاول تلك الحملة الإعلامية إقناع الرأي العام بأن حديث ترمب والمحافظين عما يشبه المساحة الخفية لصناعة السياسة الأميركية محض جهل لا يصدر إلا عن تيار شعبوي بثقافة سياسية ضحلة.
يجد الإعلام الأميركي الليبرالي عونًا من أكاديميين كثر يقولون إن الدولة العميقة ليست جديدة ولكنها «حقيقة موجودة منذ القرن التاسع عشر»، ويعرّفونها باعتبارها «مجموع موظفي جهاز الخدمة المدنية الذين يصوغون ويؤثرون في سياسات القادة المنتخبين» على نحو إيجابي يعينهم على اتخاذ القرارات الصائبة، كما يقترح عالم السياسة جورج هوفمان.
خارج هذا الرأي المنتمي للتيار السائد، ينظر أكاديميون آخرون للدولة العميقة كحقيقة مقلقة، مثيرة للشك، ولا ديمقراطية، مثل المؤرخ الأميركي ألفرد ماكوي. منذ هجمات أيلول في نيويورك بداية القرن، يقول، تَشَكّل في الولايات المتحدة ما يمكن وصفه بالفرع الرابع للسلطة، إضافة للتشريعية والقضائية والتنفيذية. هذا الفرع يديره بشكل أساسي نظام استخباري متضخم ومعقد يشمل أكثر من 17 وكالة استخبارية وتعمل جميعا بشكل مستقل عن سلطة الرئيس.
بالنظر لعددها الكبير وترابطها، تأخذ هذه المؤسسات الاستخبارية صفة «المجتمع» وتسمى «مجتمع الاستخبارات» Intelligence Community أو IC في الدارجة السياسية الأميركية.
بالنسبة للغالبية، الدولة العميقة في الولايات المتحدة هي الدولة الإدارية Administratives state كما يخلص ميرشايمر والتي تضخمت بعد الحرب العالمية لمواكبة مصالح الولايات المتحدة إثر تحوّل الأخيرة لقوة مهيمنة. لكن ميرشايمر يشدد على أن هذا الكيان البيرقراطي يحوي موظفين كبار وفي الدرجات المتوسطة يظلون في مناصبهم لسنوات طويلة يعايشون إدارات شتى ويستبطنون رؤية وفهما محدديْن في السياسة الخارجية عابريْن للرؤساء والأحزاب وتنطوي مناصبهم على صياغة سياسات البلاد. يسعى ترمب لتفكيك الدولة العميقة، أي الإدارية، عبر التخلص من هاتين الطبقتين، الوسطى والعليا من موظفي جهاز الخدمة المدنية لأنهم برأيه يمثلون لب الدولة العميقة.
يجيء الوزراء ومدراء الدوائر الفيدرالية لمناصبهم أحيانًا دون خبرة عملية، ويغادرون بعد سنتين على أقصى حد مع تغير الإدارات. فمثلا مدير السي آي إيه في عهد بايدن وليم بيرنز جاء من السلك الدبلوماسي بخبرة استخبارية معدومة، لذا غالبًا سيحتكم في جزء كبير من تصوراته وخططه لما يمليه عليه هؤلاء الموظفون القدماء ممن يعرفون مداخل ومخارج المؤسسة. كيف يريد ترمب التخلص منهم؟ ببساطة عبر ما يسمى الجدول F، وهو قرار تنفيذي يقول باختصار إن بالإمكان عزل واستبدال هذه الطبقة من الموظفين تمامًا كما يستبدل مدراء الدوائر والوزراء. ويقول خصوم ترمب إن القرار وصفة للشمولية وغايته حشد الموالين له في مؤسسات الدولة، فيما يقول ترمب إن هؤلاء يعرقلون سلطة الرئيس المنتخب ويعملون بما يشبه حكومة الظل.
يبلغ عدد هؤلاء الموظفين عشرات الآلاف، وفي بعض التقديرات مئات الآف، لكن من يهم ترمب منهم، ويشملهم القرار، لا يتجاوزون 50 ألفًا.
يضرب أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جيفري ساكس مثالا على سلطة هؤلاء بفيكتوريا نولاند.
عملت نولاند في إدارة بايدن كمساعدة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن قبل استقالتها ربيع هذا العام. انتقلت فيكتوريا الموظفة في الخارجية من إدارة بوش الإبن، لأوباما، إلى ترمب ومن ثم بايدن. وكانت القوة الرئيسة الدافعة تجاه التدخل في أوكرانيا عام 2014، وإسقاط النظام الليبي رفقة هيلاري كلينتون في 2013. هي بهذا المعنى، ووفق ساكس طبعًا، مثال واضح على قوة البيروقراط في تشكيل الدولة العميقة الأميركية.
مستقبل العلاقة بالدولة العميقة
حتى وإن كان ترمب قادمًا من خارج «السيستم» والطبقة التقليدية لصناعة الرؤساء، إلا أنه بتعييناته تلك قد يعيد، كما فعل أسلافه، إنتاج السيستم نفسه وتكريسه. صحيح أنه سيصطدم بالدولة العميقة إن شرع جادًا بتطبيق بعض وعوده؛ لكن هذا الصدام المحتمل ربما لن يتعلق بالخلاف حول السياسة الخارجية بالضرورة بقدر تعلقه بالقرارات المحلية الداخلية، وأهمها سعيه لتقليص حجم الإدارة الحكومية بشكل حاد. وهو التوجه الذي وضعه منذ الآن في مواجهة جيوش من البيروقراط بمصالح متجذرة لعقود من الصعب تقبلهم خسارتها وتفكيكها، وبغطاء نقابي أيضًا.
يسعى ترمب اليوم لدمج مؤسسات مجتمع الاستخبارات التي يقول إنها تعمل ضده في الخفاء.
لكن ترمب وعد بذلك سابقا، في فترته الرئاسية الأولى، ولم يفلح بذلك. حينها غرد المتعاقد السابق في وكالة الأمن القومي والخبير والكاتب الأمني جون شبندلر: «كلمني صديق من داخل مجتمع الاستخبارات منذ قليل وأخبرني أنه (أي ترمب) سيموت في السجن».
لكن ترمب لم يسجن. ولم يمت. رغم ثلاث محاولات اغتيال، وأربع قضايا بين فيدرالية وغير فيدرالية تصل تهمها لإدارة تنظيم للانقلاب على الدستور والخروج على السلطة. وها هو يعود من جديد بنسخة جديدة، أقل ثقة بمحيطه، وأشد حذرًا في اختياراته لمن سيعملون معه، وأكثر انحيازًا لليمين ولمن يوالونه حتى لو انعدمت خبرتهم.
يقول ميرشايمر إن ترمب حاول تحدي «المؤسسة» في 2017 وفشل، ثم تعهد بانتهاج سياسة خارجية مختلفة جوهريًا وهزيمة الدولة العميقة إن أعيد انتخابه. «والسؤال الكبير المطروح على الطاولة هو ما إذا كنت تعتقد أن ترمب يمكنه التغلب على الدولة العميقة وهذين الحزبين الراسخين هذه المرة أم لا، أما أنا فأضع رهاني ضد ترمب».