صناعة الفراغ الأمني كآلية للتطهير العرقي


صناعة الفراغ الأمني كآلية للتطهير العرقي

(كيف يستهدف الاحتلال الإسرائيلي أجهزة الأمن في غزة)

هدى بارود ومحمد عثمان:

هل يختلف المشهد الامني اليوم في غزة أثناء العدوان الإسرائيلي عنه في عراق ٢٠٠٣ أثناء الغزو الأميركي؟ مقارنة يصعب تجاهل عقدها لدى الاستماع لعشرات الشهادات لمواطنِين ومسؤولِين غزيين فضلا عن الخبراء والمراقبين الدوليين.

قبل عشرين عاما حين اجتاحت القوات الاميركية بغداد بعد دكّها جوا بأعتى أنواع السلاح، هربت قوات الشرطة نحو أُسرها وبقيت “مدينة الرشيد” خالية إلا من جموع السراق والبلطجية ممن انهالوا على المصارف والمتاحف والمتاجر تخريبا ونهبا.

كان هَم الأميركي في حربه اسقاط نظام الرئيس السابق صدام حسين بدعوى الحرص على جلب الديمقراطية للعراقيين دون أن يتنبّه إلى الكُلفة الأمنية الباهظة التي دفعها ملايين العراقيين نتيجة العبث ببنية دولتهم وجهازها البيروقراطي. واليوم يبدو الهَم الإسرائيلي/ الأميركي الخلاص من حماس وتهجير سكان القطاع قسراً أو طوعاً عبر تدمير كل مقوّمات الحياة في غزة، وأهمها الشعور العام بالأمن على الأرواح والممتلكات.

السبيل إلى ذلك يبدو بسيطا: استهداف الشرطة والعمل على تفكيك بنيتها وترك القطاع عُرضة لأعمال النهب والسطو والقتل المنظّم وغير المنظّم، وهو ما يفصل هذا التقرير المعمق في شرحه.

تفكيك الأمن في غزة

الوصول إلى إحصاءات دقيقة حول ضحايا جرائم العنف الداخلي والعصابات الناجمة عن الاستهداف الإسرائيلي للبنية التحتية الأمنية للقطاع يبدو شبه مستحيل بالنظر لغياب الجهات التوثيقية نتيجة انهيار المنظومة البيروقراطية على يد آلة الحرب الإسرائيلية؛ فقد أجهز الاحتلال على عدد كبير من المباني الحكومية في المدينة. أضف لذلك، انشغال سكان القطاع بالنجاة من الموت عن تدوين وتوثيق شهاداتهم أو حتى مشاركتها مع الصحافيين والهيئات الإنسانية والحقوقية.

دمّر الاحتلال الإسرائيلي 22 مقراً شرطياً مدنيا في غزة وفقاً لمدير التحقيقات والشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان المحامي بكر التُركماني.

“لو نظرنا بشكل واسع سنجد أن الاحتلال الإسرائيلي تعمّد القضاء على أغلب قطاعات العدالة في القطاع، إذ دمّرَ مراكز الشرطة والمحاكم ونقابة المحامين، ناهيك عن قتله أفراد الشرطة والقضاة والمحامين كذلك”.

يقول التركماني ل”المراسل”.

وعلى امتداد أكثر من ستة أشهر من حصار مدينة غزة ودكّها من قِبل الجيش الإسرائيلي براً وجواً وبحراً، عبد الاحتلال الطريق لتشكُّل العصابات وانتشار العنف، السرقات، الاحتكار والبلطجة وتِباعاً جرائم القتل على خلفية الثأر والانتقام، وفق شهادات لغزيين في القطاع.

الأرقام الرسمية تشير إلى تدمير إسرائيل بشكل متعمّد ومقصود لنحو ٩٠٪ من المراكز الشرطية، بما فيها نحو ١٧٩ مقرا حكوميا يتبع الأجهزة الأمنية العسكرية والمدنية، وفق  المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة.

“لا نملك إحصائية دقيقة لأعداد أفراد الشرطة الذين استشهدوا أثناء عملهم أو في منازلهم، ولا يمكن حصرَ ذلك إلا بعد انتهاء الحرب” يقول الثوابتة.

في قطاع غزة نحو ستة سجون مركزية على الأقل، دمّرها الإسرائيليون جميعا بشكل متعمّد وفق مصدر في النيابة العامة فضّل عدم الكشف عن هويته بالنظر لحساسية الوضع الأمني في القطاع. ثلاثة من هذه السجون في مدينة غزة وحدها.

شمل التدمير الإسرائيلي المتعمّد للبنية التحتية العدلية، المحاكم أيضا والتي بلغ تعدادها قبل الحرب عشرة بواقع ست محاكم للصلح وثلاث للبداية وواحدة للاستئناف وفقَ وكالة وفا الرسمية للأنباء. يقول المصدر في النيابة العامة إن تلك المحاكم إما دُمّرت كلياً أو جزئياً.

“المحاكم التي دُمّرت بشكل جزئي لا تصلح للاستخدام مستقبلاً بما فيها مُجمّع قصر العدل -مجمّع محاكم يقع في مدينة الزهراء جنوب مدينة غزة-” يقول المصدر ل”المراسل”. استخدم الاحتلال هذا المجمع كمركز للاعتقال بعدَ شهرٍ من الحرب ثم نسفه بشكلٍ كامل كما يوضح هذا الفيديو الذي نشرته القوات الإسرائيلية.

 تضم تلك المحاكم مئات آلاف القضايا بين جنائية وشخصية، من إرث لزواج وطلاق وشهادات ميلاد ووفاة، وشيكات ومطالبات مالية بين الأفراد. يمثّل استهداف تلك المقار مَحوا للسجل القانوني لسكان القطاع قد يتسبب بنزاعات قضائية مُعقّدة وضياع للحقوق عقب انتهاء الحرب.

اغتيالات

لا يتوقّف الأمر على استهداف الاحتلال للمباني، ولكنه يمتد ليشمل الاغتيال والقتل لعناصر وضباط الشرطة أثناء تأديتهم واجبهم في حماية المدنيين وحفظ الأمن العام.

 يقول سكان المدينة ومسؤولوها إن هذا السلوك “المتعمّد” يهدف إلى تفكيك البُنى انفاد القانون لإحداث حالة من الفراغ الأمني، الفوضى والفلتان، بُغية إضعاف الروح المعنوية للسكان لدفعهم لمغادرة غزة أو الانقلاب على حماس.

كما يؤدي هذا التجريف للبنية التحتية الأمنية الى انتشار البلطجة وما يسفر عنها من تعد على حقوق سكان القطاع وحتى على قوافل المساعدات.

يقول مواطنون غزّيون ومتبرعون يعيشون في أوروبا تحدثوا لكاتبي التقرير إن سعر كيس الدقيق وصلَ شمال القطاع خلال فترة الستة أشهر الأولى من الحرب إلى ١٢٠٠ دولار، ما يقارب ٤٣٠٠ شيقل بسعر السوق.

“لم تكن المواد الغذائية متوافرة إلا عند المحتكرين وسارقي المساعدات، لذا اضطررنا لشرائها بأكثر من ١٧٢ ضعفا عن سعرها الأصلي أثناء اشتداد الحصار”، تقول الغزية التي تعيش في أوروبا نسرين فتحي.

منذ بدء الحرب تسعى نسرين لمساعدة اسرتها التي تقيم في مخيم جباليا شمال غزة عبر إرسال الحوالات المالية. لكنها تقول إن المبلغ لم يعد كافيا اليوم لشراء احتياجاتهم. أسعار السلع الأساسية، على ما روت ل”المراسل”، ارتفعت على يد المحتكرين. يحصل هؤلاء التجار على جزء من سلعهم من مجموعات تسطو على المساعدات وتعاود بيعها في السوق السوداء.

بعض التجار، تقول نسرين، غشّوا الدقيق بعلف الحيوانات والرمل لزيادة وزنه والحصول على أكبر عائد من الكميات المتوّفرة لديهم.

انتشار تلك المجموعات الجرمية يمثل أحد أخطر مضاعفات الاحتلال عقب الاستهداف الإسرائيلي المتعمّد لطواقم الشرطة الفلسطينية في قطاع غزة. تتمكن بعض تلك المجموعات من السيطرة على المساعدات عبر استخدام العنف أو التهديد باستخدامه.

يقول الغزّي محمد سمير إن من وصفهم بالبلطجية هاجموا صديقه بالسكاكين بعد رفضِه تسليمهم كيس الدقيق الذي حصلَ عليه لتوّه من إحدى شاحنات المساعدات القليلة التي تمكّنت من الوصول للأطراف الجنوبية للمدينة المنكوبة.

“لمّا نجحوا في انتزاع كيس الطحين منه، عاقبوه بضربة سكينٍ أحدثت جُرحًا غائرًا في خده”، يصف محمد ما حدث لصديقه.

يقول الشاب الغزّي إن تلك المجموعات كانت عشوائية بدايات الحرب، لا يتجاوز عدد أفرادها أصابع اليد، لكنها نَمَت لتضم كل واحدة منها ٥٠-٧٠ عضوا ينتمون لعائلة واحدة محصنين بالسلاح الأبيض والمسدّسات.

“أطلق أربعة فتية تُقارب أعمارهم السبع عشرة عامًا النار في الهواء لإبعاد الناس عن الصناديق التي أنزلتها طائرات المساعدات شمال قطاع غزة، بعد أن اعتدوا على مُسن حاول الوصول لها” يسترجع محمد. لا مكان محدد لانتشار تلك المجموعات، على ما يلاحظ، فتواجدها يشمل مناطق القطاع الرئيسة في الشمال والجنوب والوسط.

كان آلاف المساجين من أصحاب الجنايات والجُنَح قد هربوا من سجن أنصار المركزي غرب مدينة غزة نتيجة القصف الإسرائيلي الذي استهدفَ مَقار الشرطة في محيط السجن في تشرين أول/ اكتوبر من العام الماضي، على ما يروي المحامي عبد الله شَرشَرة الذي انتقل من حي الكرامة شمال المدينة إلى بلدة الزوايدة في دير البلح وسط القطاع أثناء الحرب.

“في كانون ثاني/يناير من العام الجاري قابلت سجينًا حوكمَ على جرائم تحرّش بالأطفال، كان يبيع مواد تموينية في مركز إيواء مكتظ بالأطفال”.

مع هروب أصحاب السوابق من السجون، توسّعت الجرائم، فيما يرى المحامي الغزّي، تحديدًا في مواصي رفح -وهو الإسم الذي يطلق على الشريط الساحلي للمدينة- وفي مدينة دير البلح وسط القطاع.

“نتج عن الشجارات العائلية التي اُستخدِمت فيها الأسلحة البيضاء قتلى وجرحى. وعزّز غياب الأمن من انتشار أعمال العنف والاحتكار والسرقات والاختطاف والتعذيب والاخفاء القسري جنوب القطاع ناهيك عن التشكيلات العصابية ذات النزعة العائلية في مدينة غزة وشمالها”.

بلغ تعداد رجال الشرطة في غزة قبل الحرب 23 ألف شرطي ينتسبون لكافة الأجهزة الأمنية في القطاع. يقول المصدر في النيابة ل”المراسل” إن حصر من قُتلوا من هؤلاء يُعد أمرا بالغ التعقيد في ظل تواصل الحرب، لكنه يعتقد أن عدد من استشهدوا منهم خلال الحرب كبير.

رئيس المركز المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الدكتور رامي عبده رصد عددا من الاستهدافات الإسرائيلية لضباط وأفراد من الشرطة الفلسطينية خلال الحرب دون أن يمتلك هو الآخر إحصاءً شاملا لأعداد من تضرروا.

شملت تلك الاستهدافات، وفق رصده، كلا من مدير مركز شرطة النصيرات محمود البيومي الذي استشهد في قصف سيارة أمام مقر “الأونروا” وسط المدينة. شملت أيضاً رائد البنّا، المقدّم ومدير مباحث شمال غزة والمسؤول عن تأمين شاحنات المساعدات والذي استشهد في قصف استهدف منزله.

وفي شباط قتل الجيش الإسرائيلي ستة من أفراد الشرطة الفلسطينية عندما قُصفت مركبتهم المُكلّفة بحراسة شاحنة مساعدات في منطقة خربة العدس شرق رفح.

قتلَ جيش الاحتلال أيضا مدير العمليات المركزية في شرطة غزة فايق المبحوح أثناء تواجده في مستشفى الشفاء بعدَ تنسيقه مع العشائر الفلسطينية والأونروا لإدخال المساعدات الإنسانية لشمالَ القطاع عقب مجزرتي ميدان النابلسي غرب غزة والكويتي جنوبها، على ما يرصد المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

كان جيش الاحتلال ارتكب هاتين المجزرتين بحق المواطنين الذين ينتظرون شاحنات المساعدات في مدينة غزة في الثامن عشر من آذار/مارس ٢٠٢٤.


الفراغ الأمني كسياسة

في التغطيات الغربية أو العربية للفوضى في غزة، يغيب عن الأذهان أن القطاع ليس سوى مدينة كأي مدينة في العالم، تحوي تشكيلاتها الطبقية الاجتماعية/ القرابية الخاصة. وكأي مدينة أيضا، تعاملت غزة مع واقعها الجُرمي الخاص عبر جهازي الأمن والقضاء اللذين فككهما الاحتلال.

لكن الحديث الإعلامي عن سرقة المساعدات والاعتداء على مراكزها وقوافلها يتجاهل هذا السياق ويُحمّل المسؤولية، بوعي أو دون وعي، للغزيين أنفسهم أو لحكومة حماس.

زاد الوضع بعد الحرب سوأ.

 اشتغل الاحتلال في تفكيكه للواقع الأمني في غزة على مسارين متقاطعين: الأول استهداف البُنية التحتية العدلية من محاكم ومراكز أمن، لتسهيل حركة أصحاب السوابق، والثاني تجويع السكان ليس فقط عبر إغلاق المعابر وفرض الحصار على دخول المواد الأساسية، ولكن عبر استهداف قوافل المساعدات ومراكزها أيضا.

مع حِرص الاحتلال على تدمير الوضع الإنساني يكون قد مهّد الأرضية لانتشار الجريمة المدفوعة بالحاجة والجوع وتدمير جهات إنفاذ القانون.

ليس أدل على ذلك من قصف الاحتلال ل ١٦٠ مركزا ومؤسسة تابعين لوكالة أونروا بشكل مباشر وغير مباشر منذ السابع من تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي حتى الآن، وفق مستشار الوكالة الإعلامي عدنان أبو حسنة. ومع تفكّك الجهاز الأمني الفلسطيني وانتشار الجريمة بسبب الاحتلال، عَمَدت الوكالة للاستعانة بأفراد أمنها الخاص لتأمين المراكز وقوافل مساعداتها.

بيوت من نزحوا من الشمال للجنوب أو داخل الجنوب نفسه أصبحت هي الأخرى عرضة للسطو في حال سلمت من صواريخ الاحتلال، كما حصل مع يونس غطّاس، 39 عامًا.

 تعرّضَ منزل عائلة غطاس في بلدة القرارة شمال مدينة خان يونس لسرقة “كل ما يمكن نقله من المنزل وبيعه بمبالغ كبيرة نتيجة ارتفاع سعره كأنابيب الغاز”، وفق ما روى ل”المراسل”. حتى الأثاث، والأغطية والملابس تحتَ رُكام لم تسلم.

استهداف الاحتلال المتعمّد للشرطة في قطاع غزة وإضعاف سيطرتها الأمنية أثر رفع الِنسب التي يفرضها أصحاب مكاتب الصرافة والأموال على متلقّي الحوالات المالية من الخارج لمستويات غير مسبوقة، وهي مظاهر خرجت عن السيطرة بسبب غياب الرقابة الأمنية التي فككها العدوان الإسرائيلي، وفق شهادات غزيين في الداخل والخارج.

مبادرات أهلية

للتعامل مع هذا الواقع حاول السكان في غزة تنظيم أنفسهم وحفظ أمنهم على نحو جماعي.

 في مدينة حمد شمال غرب مدينة خان يونس عمَد السكان، الذين يُقدّر عددهم بعشرات الآلاف موزعين على ٥٣ بناية سكنية، لحماية ما تبقّى من مساكنهم عقب تدمير الاحتلال لأكثر من نصفها. لاحقوا اللصوص بشكل شخصي، احتجزوهم أو أحكموا وثاقهم لأعمدة في الساحة الرئيسية لمدينة رفح جنوب القطاع. مزّقوا ملابسهم وكتبوا على أجسادهم كلمة “حرامي” -لص-.

في حالات أخرى، تبرّأت عائلات من أبنائها الذين نُشرت صورهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بعد اتهامهم بالسرقة والبلطجة.

على أن الأمر ليس بهذه البساطة في مجتمعات تمتاز ببنيتها العشائرية القوية؛ فمثل تلك المبادرات خلقت خلافات داخلية بين الناس أدّت لشجارات عائلية نتجَ عنها قتلى وجرحى وفق ما رصده هذا التقرير.

استمالة العشائر

فيما يُشبه تكرار التاريخ لنفسه بين غزو وآخر واحتلال وآخر، عَمَد الإسرائيليون لعرض التعاون مع العشائر الغزية لحفظ الأمن؛ تماما كما حاولت قوات الاحتلال الأميركي التعاون مع السكان المحليين المدنيين في العراق لمواجهة حالات الفلتان الأمني التي تسببها الغزو نفسه في تدميره البنى التحتية وتفكيكه الجيش العراقي.

أعد جيش الاحتلال الإسرائيلي خطة تعاون مع العشائر الفلسطينية بالاتفاق مع جهاز الأمن العام “الشاباك” لإدارة قطاع غزة عبر تقسيمه إلى محافظات ومحافظات فرعية تتولى العشائر إدارتها أمنياً وتكون مسؤولة كذلك عن توزيع المساعدات فيها، وفق ما أوردته هيئة البث الرسمية الإسرائيلية.

لكن العشائر الفلسطينية رفضت المسعى الإسرائيلي، وأعلنت في بيان لرئيس الهيئة العليا لشؤون العشائر في جنوب غزة، أبو سلمان المغنّي، أن “القبائل ليست بديلا عن أي نظام سياسي فلسطيني، بل إنها مكوّن من المكوّنات الوطنية وداعمة للمقاومة ولحماية الجبهة الداخلية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.”

بكل الأحوال لا تملك تلك العشائر، حتى وإن وافقت، اختصاصا قانونيا أو إداريا يؤهّلها لحفظ الأمن والإشراف على المساعدات وتحقيق عدالة توزيعها كما تفعل الجهات الحكومية، يقول أستاذ الاجتماع في جامعة الأقصى بقطاع غزة الدكتور سامي الأسطل. الوضع في غزة بات كارثيًا وبحاجة لعمل أمني وقانوني احترافي لم يسبق للعشائر الفلسطينية خوضه سابقا، وفق قوله.

وفي ذات الإطار سعى الاحتلال لإرساء ما يشبه خطة تعاون تجاري مع بعض العائلات شمال وادي غزة لإدخال البضائع إلى أسواق القطاع دون الحاجة لوزارة الاقتصاد الوطني التي دمّر وجودها كما فعل مع بقية المؤسسات الحكومية.

قبل الحرب، كان القطاع يحصل على حاجاته من البضائع الإسرائيلية عبر ترتيب تجريه وزارة الاقتصادي الوطني مع التجار المحليين من المُورّدين. اليوم بعد تدميرها للقطاع ونشرها الفوضى، تسعى إسرائيل للتعامل مباشرة مع هؤلاء الموردين كسبيل يضمن لها تخط الحاجة لأي إدارة فلسطينية والتعامل مباشرة مع القطاع.

أفق إسرائيلي مسدود

لكن المسعى الإسرائيلي بالعودة لإدارة القطاع ولو على نحو غير مباشر يبدو مرفوضا أميركيا. فإدارة جو بايدن الديمقراطية تصر منذ بدء الحرب على أن إعادة الاحتلال مرفوضة، فيما تطالب حكومة تل أبيب أن تضع رؤية تضمن توحيد غزة مع الضفة تحت إدارة فلسطينية.

لكن الحكومة الإسرائيلية لا يبدو أنها لا تملك مثل تلك الرؤية.

في الأثناء، حتى المساعدات التي تحاول واشنطن تسهيل دخولها بالحد الأدنى لتخفيف الضغط الذي تواجهه في الشارع الأميركي والعالم بسبب تفاقم الأزمة الإنسانية، هو الآخر يبدو أكبر المتضررين من تفكيك البنى الأمنية الغزية.

يقر ديفيد ساترفيلد، المبعوث الأميركي الإنساني السابق للقطاع بأن “الاستهداف الإسرائيلي المباشر” لعناصر الشرطة “غير المرتبطة بالجماعات المسلّحة” تَسبّب في امتناعها، أي تلك العناصر عن القيام بمهامها في حماية قوافل المساعدات خشية تعرّضها للقصف الإسرائيلي.

“صار من المستحيل على الأمم المتحدة وأي طرف آخر سواء الأردن أو الإمارات وغيرهم من نقل المساعدات بأمان إلى غزة بسبب الجماعات الإجرامية”.

قال ساترفيلد في ندوة نظمتها مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن قبل نحو شهرين.

في تقرير نشرته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، تخوَّف مسؤولون في الإدارة الامريكية من “الفوضى التي صنعتها إسرائيل”، ففي النهاية هي المسؤولة عن الجوع الجماعي ونقص المساعدات. يُحذّر رئيس المركز الأورو متوسطي رامي عبدو من أن تمتد تأثيرات الفوضى التي خلقها الاحتلال في غزة إلى دولٍ مجاورة، تماما كما تسربت فوضى الوضع الأمني في العراق إلى دول الجوار عقب الغزو الأميركي.

أمنأميركاإسرائيلالتطهير العرقيالغربالفراغ الأمنيالولايات المتحدةحربحماسغزةفلسطين