عماد الرواشدة
تنشر هذه المقالة بالتزامن في مجلتي المراسل وحبر.
في هذا العنوان للغارديان، يموت الفلسطينيون بسبب نقص السوائل، وليس بسبب الحصار الإسرائيلي. «المخاوف تزيد: الناس تموت من الجفاف في غزة مع نفاد المياه النظيفة»، يقول العنوان. يتجاوز محرر المادة عن الحقيقة المحورية في الخبر وهي الحصار الإسرائيلي المؤدي لنقص مياه الشرب، فيجرد الجملة من فاعلها ويبنيها للمجهول، ومن ثم يقدمها لقرائه وكأنها مأساة مناخية على نحو ما.
في صحيفة غربية أخرى هي نيويورك تايمز، يقول العنوان: «الحرب والأمراض قد تقتل خمسة وثمانين ألف فلسطيني في غزة خلال ستة أشهر». بالمثل، يقرر محرر مادة الصحيفة الأميركية الليبرالية أن من الأسلم، ربما، أن يتجنب القول إن «الحرب الإسرائيلية على غزة»، وليس أي حرب مجهلة كما أشار، هي من ستتسبب بمقتل هؤلاء.
يتجاوز محررو تلك الصحف عن حقيقة أن أيًا مما يصفونه في عناوينهم، أي الأمراض، ونقص المياه، والموت بالجملة، لم يكن ليحدث لو أن «إسرائيل» لم تشن حربًا من البر والجو والبحر وتفرض حصارًا مطبقًا على غزة منذ أشهر. والحال كذلك، من غير المفهوم لما تختفي «إسرائيل» على هذا النحو من عناوين أخبارهم.
حتى مع تجاوز العنوان وقراءة متن الخبر، يُلاحظ أن مقدمة «نيويورك تايمز» لم توضح الفاعل أيضًا، رغم أن تلك الفقرة التي تتبع العنوان مباشرة، والمسماة Lead، تعد الأهم في أي مادة صحفية، وفق العرف المهني الأميركي على الأقل؛ فهي التي توضح وجهة المقال وتبرز جاذبيته. في الواقع، لم ترد مفردة «إسرائيل» على الإطلاق في هذه المادة، وكأن تلك المأساة محض حظ عاثر صادف الفلسطينيين بلا مسبب واضح.
في تحليل كمي لموقع «إنترسبت»، راجع موقع التحقيقات الأميركي أكثر من ألف مقال في ست من كبريات الصحف الأميركية شملت نيويورك تايمز، واشنطن بوست وغيرها، وخلص إلى أن التغطيات كانت منحازة لـ«إسرائيل» على الأقل في الأسابيع الأولى للحرب.
مثل هذا النوع من التغطيات ليس جديدًا أو محصورًا في غزة على ما يبدو؛ فهنالك «تحيز بنيوي» في وسائل الإعلام الرئيسة في العالم عابر للقضايا الدولية، يقول أستاذ الصحافة والاتصال السابق في جامعة غولدسميث البريطانية، دايا ثوسو، الذي درَّس مساق الصحافة لثلاثين عامًا واشتغل على مجموعة من الكتب والأوراق العلمية التي تبحث في الهيمنة والانحياز الغربيين في الإعلام.
يتحاشى الأستاذ الجامعي المقيم في هونغ كونغ وصف تلك المؤسسات الصحفية بالـ«غربية»، ويعتقد أنه توصيف لا يعبر عن واقع الحال بالضرورة.
«ما الذي نقصده بالغرب؟ هل جورجيا غرب؟ روسيا؟ هل اليونان كذلك، أو حتى ألمانيا؟». عوضًا ذلك، يفضل تسميتها بـ«وسائل الإعلام المسؤولة عن وضع أجندة الأخبار في العالم» (Agenda setting media).
اكتسبت هذه المؤسسات قدرتها على تحديد أجندة الأخبار الدولية وزواياها من خلال الاتكاء على تاريخها الطويل في صناعة الإعلام، وسمعتها المهنية الحسنة في تغطية القضايا المحلية الصرفة، إضافة إلى كونها تابعة لمجموعة من الدول العظمى التي صاغت النظام الدولي الحالي. من بين هذه المؤسسات، وكالة رويترز البريطانية، والوكالة الفرنسية للأنباء، وأسوشييتد برس الأميركية، وبي بي سي، ونيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وغيرها.
«غزة بالتأكيد مثال واضح على هذا الانحياز البنيوي»، يقول ثوسو. «ثمة تاريخ طويل على تمثيل هذه المؤسسات لمصالح السياسة الخارجية لبلدانها سابق على غزة؛ من فيتنام، وأميركا اللاتينية، إلى العراق وأفغانستان. لك أن تنظر للطريقة التي يقدمون بها الصين، روسيا، أو الهند اليوم».
بالفعل، يعد اندلاع الحرب الأوكرانية مثالًا واضحًا على ازدواجية المعايير التحريرية لتلك المؤسسات وغيرها ممن تتبنى الخطاب الغربي؛ فتغطيات الحرب هناك امتازت بتجاهل وجهة النظر الروسية في الخلاف مع الناتو وتبني الدعوات الأميركية لعدم التفاوض ومواصلة الحرب، على ما تلاحظ صحيفة لوموند الفرنسية. الأهم ربما، أن تلك المؤسسات أبدت تساهلًا في استخدام وصف «المقاومة» مع العمليات العسكرية الأوكرانية، في حين ترفض تمامًا استخدامه في تغطياتها لفلسطين. وفي وقت تحمل فيه على «الاحتلال الروسي»، تتبنى تلك المؤسسات رواية الاحتلال الإسرائيلي في غالب الأحيان دون نقاش.
حذف السياق
حتى اليوم، لا يزال روتينيًا في غالبية المؤسسات الصحفية الغربية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار استخدام تعبير «حرب إسرائيل وحماس» في صياغة العناوين. يحدث ذلك في الصحف المحسوبة على التيار الليبرالي مثل «نيويورك تايمز»، والغارديان، وواشنطن بوست، أو تلك المنعوتة باليمينية مثل فوكس نيوز، أو التي تبدو في الوسط مثل سي إن إن.
لم أفلح بالعثور في أي من تلك المؤسسات المذكورة وغيرها على خبر يعنون بالقول: «حرب إسرائيل على غزة»؛ رغم أن عمليات الجيش الإسرائيلي في القطاع قتلت إلى الآن أكثر من 35 ألف غزي، بينهم أكثر من 15,000 طفلًا، و10,000 امرأة،[1] ناهيك عن عشرات آلاف المفقودين والجرحى.
تستخدم تلك العمليات العسكرية أيضًا أحدث أنواع السلاح الأميركي الصنع من الجو والبر والبحر ضد أهداف غالبيتها مدنية، وتقول تقارير الأمم المتحدة أن «أكثر من 70% من البيوت في القطاع قد جرى تدميرها جزئيًا أو كليًا». ورغم ذلك لا يبدو أن مثل هذه الحملة العسكرية تستحق وصفها بالحرب على غزة، وفق العقل التحريري لكبريات المؤسسات الصحفية الغربية.
صورة من نتائج بحث تظهر كيف تعنون الغارديان أخبارها عن الحرب على غزة 1-5-2024. “حرب حماس وإسرائيل” تقول العناوين.
الحقيقة أن غزة ليست دولة في المقام الأول لتخوض حربًا «مع» «إسرائيل» مشابهة لأي حرب نظامية بين دولتين، ولا حماس جيش نظامي لتوضع من ناحية صحفية كطرف مكافئ لأكثر جيوش المنطقة تجهيزًا. أما ما يوصف بـ«القطاع»، فليس في واقعه سوى منطقة متناهية الصغر على الخريطة، محاصرة منذ عقدين وخاضعة لسلطة الاحتلال الإسرائيلي. «بالطبع الغاية هي إعادة تعزيز وفرض الرواية الأساسية»، يقول ثوسو. «تتلخص هذه الرواية بثنائية الدولة في مواجهة الإرهاب».
تتعزز تلك الرواية أيضًا عبر التوظيف الممنهج فيما يبدو لعبارة «وزارة الصحة التي تديرها حماس» كلما جرت الإشارة لأعداد من استشهدوا في غزة. هذا التوظيف يشكك المتلقي غير العربي بصدقية تلك الأرقام. يحدث ذلك رغم أن الإحصاءات التي تقدمها «إسرائيل» عن قتلاها يوم السابع من أكتوبر يجري تبنيها كحقائق قاطعة دون الإشارة لكونها صادرة عن سلطة احتلال أو تكلف عناء التحقق من دقتها.
جاءت فكرة الربط بين وزارة الصحة وحماس أولًا على لسان الناطقين الرسميين الأميركيين للبيت الأبيض والخارجية، ثم جرى تصديرها أو تبنيها طوعًا من قبل الإعلام. كان ذلك في بداية الحرب، في الأسبوع الأخير من تشرين الأول. كنت أغطي حينها المؤتمرات الصحفية للبيت الأبيض والخارجية بشكل شبه يومي، ولاحظت تهرب الناطقين الرسميين من التعليق على أرقام الشهداء في غزة. لكن الرئيس الأميركي، المعروف بزلات لسانه، خرج عن صمته في أحد التصريحات مشككًا بالأعداد التي يقدمها الفلسطينيون عن ضحاياهم. «ليس لدي ثقة في أرقامهم»، قال بايدن.
تسببت تصريحات الرئيس بردود فعل غاضبة في الأوساط الصحفية والسياسية العربية في الولايات المتحدة. لم يجد الفريق الإعلامي من وسيلة لتبرير الأمر إلا بالقول إن الأرقام تتحكم بها حماس عبر سيطرتها على وزارة الصحة، وأن ثمة حاجة للتحقق من دقتها من قبل طرف محايد قبل تبنيها. في الواقع، لم يجد الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، حرجًا في الإشارة على الصحفيين بعدم تبني تلك الأرقام، في بلد يفاخر بانعدام تأثير السلطة على الصحافة.
«هذه الأرقام غير موثوقة، ولست بحاجة لأن أخبرك كيف تؤدي عملك. ولكن إذا كنت ستنشر عن أرقام الضحايا في غزة، فإنني أنصحك بصراحة بعدم اختيار الأرقام التي تصدرها وزارة تديرها منظمة إرهابية»، قال كيربي في رده على أحد الصحفيين خلال إيجازه الصحفي اليومي من البيت الأبيض.
هكذا، بدأت الصحافة الغربية اعتبارًا من نهايات تشرين الأول بتبني تلك اللازمة اللغوية الرسمية على نحو واسع ودون كثير من الجدل والنقد.
صور تظهر كيف تقدم نيويورك تايمز الأميركية لأخبارها عن ضحايا غزة، أولًا بالقول إن ذلك ما يقوله الفلسطينيون، وثانيًا عبر الإشارة إلى أن وزارة الصحة تسيطر عليها حماس.
من ناحية موضوعية، تحتل «إسرائيل» الضفة وغزة في انتهاك لقرار مجلس الأمن 242، وهذا يجعلها، من وجهة نظر صحفية صرفة، مصدرًا مشكوكًا فيه للمعلومات والأرقام عمن تحتلهم. وتبعا لواقع الاحتلال، تصبح حماس حركة مقاومة وفق القانون الدولي، سواء اتفقت وسائل الإعلام الأجنبية مع أساليبها أم اختلفت. لكن أيًا من ذلك لا تجري معالجته في تلك التغطيات.
يصف ثوسو ذلك بـ«حذف السياق».
«نعم، ستجد أخبارًا عن مقتل عدد من الفلسطينيين هنا أو هناك، لكن لماذا يُقتل هؤلاء، سياق وتاريخ تعرضهم وغيرهم للقتل، في الغالب لن تجده متوفرًا. ستلحظ دقة في عرض المعلومات، لكنك لن تجد السياق الضروري لفهمها واستيعاب أبعادها».
حتى وسائل التواصل الاجتماعي الغربية، وأبرزها شركة ميتا (فيس بوك)، لعبت دورًا متقاطعًا مع تلك التغطيات للصحافة الغربية التقليدية. «تعمل سياسات وممارسات ميتا على إسكات الأصوات الداعمة لفلسطين وحقوق الإنسان على إنستغرام وفيسبوك، في موجة من الرقابة المشددة على وسائل التواصل الاجتماعي»، يقول تقرير لهيومن رايتس ووتش نشر في كانون الأول الماضي.
فرض الإذعان
تحيل قائمة طويلة من الأبحاث والدراسات هذا التحيز الصحفي ضد الفلسطينيين وعموم القضايا العربية، بل وقضايا العالم «النامي»، إلى بنية الملكية في وسائل الإعلام الغربية.
في الولايات المتحدة لوحدها، تسيطر خمس شركات متعددة الجنسية على أكثر من 1400 صحيفة يومية، و6000 مجلة متنوعة، و10 الآف إذاعة وتلفزيون، وأكثر من 2500 دار نشر، وفق دراسة أجراها المحلل الإعلامي بن باجديكيان، رصدت اندماجات الإعلام الأميركي على مدى 30 عامًا ونشرت في 2014.
هذا التركز الشديد في الملكية يجعل الموقف التحريري لمئات وسائل الإعلام متشابهًا إلى حد بعيد، والأهم أنه يُخضع السياسات التحريرية لمعادلة رأس المال، والأخير بطبيعة الحال له مصالحه المعقدة مع الطبقة السياسية في البلاد.
النتيجة؟ تدخل الحكومة في «إدارة الأخبار»، بحسب الاقتصادي والمفكر الأميركي إدوارد هيرمان (1925-2017) في ورقة علمية نشرتها مجلة الشؤون الدولية عام 1993. يشير هيرمان إلى أن «من النادر رؤية حملات إعلامية تتحدى الدعاية الحكومية» في الولايات المتحدة حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، وأن سلطات البلاد توظّف «أسلحة إيديولوجية» لضمان ما تسميه بـ«الإذعان الإعلامي».
هذا «الإذعان» الصحفي للسلطة لا ينحصر في تبني روايتها في السياسة الخارجية، بل يمتد ليشمل قمع الصحفيين ممن يحاولون تأدية عملهم على نحو مهني. كان جيفري كوهين كبير المنتجين لبرنامج صباحي يقدمه واحد من أشهر الشخصيات التلفزيونية في الولايات المتحدة بدايات الألفية، فيل داني هيل. لكن قناة إم إس إن بي سي، الموصوفة بكونها الأكثر ليبرالية بين سائر القنوات الأميركية، قررت تسريحه ومجموعة من العاملين في البرنامج قبل أسابيع من الحرب العراق في 2003. السبب، يخبرني، هو طرحه» أسئلة أكثر من اللازم» حول مبررات الحرب.
«كان مقدم البرنامج يود تقديم رأي مخالف للرواية الرسمية السائدة حول مبررات الحرب على العراق (…) لكن في مذكرة داخلية لقناة إن بي سي، المالكة لإم إس إن بي سي، جرى تسريبها لاحقًا، أدركنا أن قرارًا قد اتخذ بأن لا يظهر البرنامج للعلن».
أسس كوهين في ثمانينيات القرن الماضي منظمة معنية بمتابعة التزام المؤسسات الإعلامية الأميركية بأخلاقيات المهنة، أسماها «Fair». أتاح له عمله فيها التواصل مع صحفيين أميركيين من قنوات شتى، يمينية ويسارية، وكان هؤلاء يسرّون له بالضغوطات التي يواجهونها في تغطياتهم. بعضهم، يستطرد، كان يلاحظ تعرض موادهم لتحرير وتحوير يغير شكلها تمامًا بمجرد التحاقه بقسم الشرق الأوسط، في حين كانت تمر دون عناء لدى النشر في أقسام أخرى.
«اعتدنا على القول إن عليك أن تقرأ مقالات نيويورك تايمز من الأسفل للأعلى»، يقول الصحفي المخضرم والمحاضر السابق في جامعة إيثيكا في نيويورك. السبب، على ما شرح لي، يعود لكون المعلومات الأكثر أهمية، والتي في الغالب تمثل وجهة النظر الأهم، يجري دفنها في ذيل المقال.
ربما كان الصحفيون الأدنى درجة في السلم الوظيفي أقل انحيازًا وأكثر موضوعية، يقول كوهين، لكن واقع الحال هو أن من يجري ترقيتهم لمراتب عليا في إدارة التحرير هم يبدون عادة استجابة للضغوط ومرونة بتبني رغبات المساهمين. هذا النوع من هيئات التحرير هو من يمارس سياسات الإسكات ويفرض «الإذعان» على صغار المراسلين والمحررين.
لكن ما علاقة تركز الملكية بانحياز التغطيات في قضايا الشرق الأوسط وتحديدًا «إسرائيل»؟ الإجابة تكمن في طبيعة النظام السياسي الأميركي. يقوم هذا النظام على تمرير المصالح في كل الاتجاهات بين ثلاثة أقطاب: الحكومة، وجماعات الضغط، والإعلام.
لنأخذ الملف الفلسطيني كمثال. تبدأ العملية برضوخ السلطات الأميركية لرغبات جماعات الضغط الصهيونية في الملف تحت وطأة الحاجة لتمويل حملات المرشحين الانتخابية. تباعًا يمارس أفراد السلطة، سواء في الكونغرس أو البيت الأبيض، ضغطهم على وسائل الإعلام لتبني رواية «اللوبي» وتشكيل المزاج العام وفقها. وأخيرًا تقايض تلك المؤسسات الإعلامية رضوخها للضغط بالطلب من المشرعين وأعضاء الحكومة رفع القيود التنظيمية والتشريعية عن عملها، وأهمها طبعًا قدرتها على الاندماج في تكتلات احتكارية كبرى.
«المرحلة الحالية في الصحافة الأميركية تشبه إلى حد بعيد مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر من حيث غياب الآراء المخالفة وتبني الرواية الرسمية» يقول كوهين، لكنه يلفت إلى فرق مهم. «هذه أول مرة في تاريخ البلاد الحديث، وقد انخرطت في هذا الحقل لعقود، أول مرة يخرج الامتعاض والاعتراض على التغطيات من غرف الأخبار إلى العلن».
بالفعل، بعد مرور شهر على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، نشر أكثر من ألف صحفي من مختلف دول العالم، ومن بينها بلدان غربية، رسالة أعلنوا فيها تأييدهم للحق الفلسطيني، وانتقدوا التغطيات الغربية. «إننا نحمّل غرف الأخبار الغربية مسؤولية الخطاب اللاإنساني الذي ساهم في تبرير التطهير العرقي للفلسطينيين. إن المعايير المزدوجة وعدم الدقة والمغالطات تكثر في المطبوعات الأمريكية وقد تم توثيقها بشكل جيد»، تقول الرسالة.
في سي إن إن، خرج صحفيون في غرف الأخبار عن صمتهم وقرروا مشاركة انتقاداتهم لما وصفوه بـ«الانحياز المؤسسي» تجاه «إسرائيل» وضد الفلسطينيين. وفي «نيويورك تايمز» سرب صحفيون ممتعضون من تغطية جريدتهم مذكرة داخلية موجهة من إدارة التحرير للعاملين تأمرهم بعدم استخدام تعبيرات «إبادة جماعية»، و«التطهير العرقي»، و«الأراضي المحتلة» لدى الحديث عن فلسطين.
صحافة استعمارية؟
لكن هل ينحصر تفسير مثل هذه التغطيات بالبعد الاقتصادي؟ لا يبدو الحال كذلك. كممارس للصحافة، أعرف أنه في اللحظة التي يختار فيها الصحفي فكرته، ثم زاويته التي سيعالج بها تلك الفكرة، يكون قد بدأ ممارسة انحياز ما. الاختيار هنا ليس عملًا محايدًا، بل متأثر بانطباعات وصور نمطية تشكلت بحكم البيئة والتجربة والثقافة.
لم سنختار تغطية قصة ما وليس أخرى؟ هل بسبب أهميتها فقط؟ ما الذي يحكم مقياسنا للأهمية؟ المصلحة العامة؟ ما الذي يجعل قصة ما أهم للصالح العام من غيرها؟ الأجوبة جميعا تبدو شخصية إلى حد بعيد. بهذا المعنى، لا يعود السؤال متعلقًا بما إذا كان هناك انحياز في بعض التغطيات، ولكن بشكل وطبيعة ذاك الانحياز.
«كل واحد منا منحاز»، يقول كوهين. «السؤال الأهم هو هل تعلن انحيازك؟ عليك فعل ذلك ليعرف القراء تقييم تغطيتك. ومن ثم علينا أن نميز بين انحياز للصالح العام، لحقوق الإنسان، وآخر لمصالح رأس المال والسلطة».
قد يكون الانحياز مدفوعًا بالأيديولوجيا أيضًا. ثمة بنية ذهنية تستند على تاريخ استعماري، يقول أستاذ الصحافة دايا ثوسو، تؤثر في شكل التغطيات الغربية للقضايا الدولية. المعتقدات الأيديولوجية تفرض نفسها على العملية التحريرية أيضًا.
«إن لم تكن تدرك حتى الآن أن نيويورك تايمز صحيفة صهيونية مثلًا، فربما كنت تعيش في عالم آخر».
يعتقد ثوسو أننا اعتدنا على التركيز على الجانب الحرفي في محاولاتنا تقييم الأداء الصحفي عمومًا؛ لكن الصحافة لا تعمل في فراغ وإنما تتولد في إطار نظام ثقافي وسياسي واقتصادي محدد قد يساعدنا على فهم لمَ تُغطى بعض القضايا على نحو معين.
الصحفية الهندية فاديا كريشنان تسمي هذا النوع من الصحافة المنحازة إيديولوجيا بـ«صحافة المستعمر». «إنها صحافة يقوم بها ممارسون من البلدان المستعمِرة، يفخرون بفتوحاتهم الإمبراطورية ويتمتعون بإحساس عالٍ بالذات. كل ذرة فيهم تغذيها قرون من التراكم المفترس للثروة والمعرفة والامتيازات. يبدو أن هؤلاء الصحفيين مقتنعون بأن بلدانهم حاربت وهزمت أعداء أقوياء، وغير أخلاقيين على وجه الخصوص، عبر التاريخ، وأوقفت تقدم الشر، وحمت الحضارة. هذه هي القصة السائدة في الغرب، وبالتالي قصة الصحافة الغربية أيضًا».
لكن، هل حقًا هنالك علاقة بين الاستعمار والصحافة؟ الإجابة تبدو إلى حد بعيد: نعم. لكن استيعاب الأمر قد يحتاج العودة في الزمن قليلًا.
احتكار الاتصالات وانتشار المعلومات
نشأت الصحافة الحديثة في الغرب أولًا مع اختراع التلغراف منتصف القرن التاسع عشر. نتيجة هذا الابتكار، ولدت وكالة أنباء رويترز البريطانية واتخذت من عاصمة الإمبراطورية، التي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراتها، مقرًا لها.
تزامن نمو رويترز كوكالة أنباء دولية مع توسع الوجود الاستعماري البريطاني في العالم، على ما تلحظ ورقة أكاديمية نشرها ثوسو في مجلة الدراسات الصحفية التابعة لأكسفورد في 2022. يؤرخ ثوسو لتقاسم ثلاث وكالات أنباء أوروبية مناطق العالم في القرن التاسع عشر: وكالة هافاس التي تأسست عام 1835 (قبل أن تصبح وكالة الأنباء الفرنسية)، ووكالة وولف الألمانية التي تأسست في 1849، إضافة لرويترز البريطانية. جميعها صممت سياساتها التحريرية بناء على الاحتياجات الاستعمارية لبلدانها.
سمي اتفاق التقسيم ذلك «Ring Combination»، وبموجبه صار بوسع هذه الوكالات تشكيل الرأي العام العالمي على نحو «يخدم المصالح الجيوسياسية والاقتصادية لحكومات الدول الثلاث». «هذا ليس سرًا، كل ذلك معلومات عامة. لقد كان شكلا آخر للتقسيم الاستعماري لمناطق النفوذ»، يقول ثوسو.
«في عام 1910، بدأت رويترز ما يسمى بخدمة الأخبار الإمبراطورية. وبعد عام، عقدت الوكالة ترتيبًا سريًا مع المكتب الاستعماري للحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، عرضت بموجبه توزيع الخطابات الرسمية في كل ركن من أركان الإمبراطورية، مقابل رسم سنوي من الدولة»، تقول الدراسة.
لاحقًا، توقفت وكالة الأنباء الألمانية عن العمل ودخل طرف جديد على هذا «الكارتيل»، كما يسميه منتقدوه، هو وكالة الأنباء الأميركية أسوشييتد برس، أو إيه بي.
لكن وسائل الإعلام تطورت من مجرد وكالات وإذاعات ومحطات تلفزة إلى عصر الأقمار الصناعية مع بدايات التسعينيات. وهيمنت الدول الغربية على تلك التطورات أيضًا.
حتى عام 2020، انحصرت ملكية أكثر من 300 قمر صناعي حول مدار الكرة الأرضية في شركات غربية بعينها من بينها إنتل سات، أو شركات الدفاع الأميركية مثل لوكيد مارتن، وبوينغ، وهيوز، التي تملك مجتمعة 70% من أقمار الاتصالات الثابتة. وحين انتشرت الكوابل البحرية، أيضا هيمنت شركات فيرايزون الأميركية وسَب كوم على غالبيتها.
أما اليوم، مع الانتقال للعصر الرقمي، فتسيطر غوغل وفيس بوك وأمازون الأميركية، سواء بالاستئجار أو الملكية، على 50% من السعة النطاقية (bandwidth) لتزويد الإنترنت عبر المحيطات.
بمعنى آخر، لا يسيطر الغرب فقط على البيانات والبرمجيات والأخبار، ولكن على البنية التحتية المساعدة في تزويدها. خلق ذلك ما بات يسمى في بعض الدوائر الأكاديمية «إمبريالية المنصات» كما وصفه الباحث دال يونغ جين في ورقة علمية نشرت في 2013.
تفكيك الاستعمار الصحفي
لكن فهم تلك الجذور الاستعمارية لا يكفي، فحرب غزة أيقظت فيما يبدو شعورًا عامًا لدى الصحفيين والجمهور العربي على السواء بضرورة مراجعة الموقف من عموم الصحافة الغربية.
موجات المقاطعة للشركات الغربية التي اجتاحت البلدان العربية، رافقتها موجات من النقد لانحياز هذه الصحافة سواء على صفحات وسائل التواصل أو من قبل العاملين في القطاع. هل تصح مقاطعة الصحافة الغربية بالنظر لانعدام نزاهتها إذن؟ ماذا عن حريتها بالوصول للمعلومات وحصرية مصادرها في كثير من الأحيان؟ وماذا عن قوالبها وتقنياتها المتقدمة في الكتابة والعرض والإنتاج المرئي والمسموع؟ هل يملك العالم العربي و«النامي» ترف تجاهل الإعلام الغربي؟
يمثل فعل ذلك خيارًا غير عقلاني كما يرى ثوسو. «لا تستطيع تجاهل الإعلام الغربي. ولا تستطيع أيضًا رفض التعاطي معه بوصفه مجرد نفايات، لأن بعض ما نسميه نفايات، في الواقع، يمثل صحافة جيدة».
حتى اليوم، لا تزال كليات الصحافة الغربية هي المثل الأعلى للممارسين والجمهور حول العالم، وتخرج سنويا أجيالًا من المراسلين والمحررين على سوية مهنية رفيعة. إضافة لذلك، لا تزال المعلومات والمواد الخام للصور والفيديوهات والأخبار غربية في الغالب، مصدرها الوكالات الرئيسة للأنباء: رويترز، والوكالة الفرنسية والأميركية. تعتمد معظم وسائل الإعلام الإخبارية على اشتراكات في هذه الوكالات للحصول على الأخبار العاجلة وما يرافقها من مواد صوتية ومرئية.
هذا السعي لما يمكن توصيفه بـ«التحرر» من هيمنة الرواية الإعلامية الغربية بالعموم ليس جديدًا. خلال حقبة الاستقلال العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين، أدركت «منظمة دول عدم الانحياز» الحاجة لخلق نظام دولي للبيانات والاتصال يحقق العدالة في التمثيل الإعلامي لدول الجنوب. لكن هذه الجهود الفكرية المنظمة تبددت تقريبًا عقب انتهاء الحرب الباردة وتراجع الخطاب التحرري في العالم العربي، وطبعًا هيمنة وانفراد الغرب في إدارة العالم حتى وقت قريب، على الأقل.
اليوم، أعادت الحرب الأخيرة على غزة تلك الأسئلة لواجهة الاهتمام الصحفي في العالمين العربي والنامي، على ما يبدو. «من البديهي أنك تحتاج الرجوع للصحافة الغربية، لكن عليك أن لا تكتفي بها وأن تكون مدركا لانحيازها، فتعزز اطلاعك عليها بالاطلاع على مؤسسات أخرى ومن ثم تقاطع ما تقرأه في كل منها للوصول للحقيقة»، يقول كوهين.
ربما كان بوسع معاهد الإعلام العربية لعب دور ما أيضًا. في تلك الكليات، لا تزال الصحافة الغربية هي المصدر الأول للأعمال النموذجية للمهنة. ربما احتاج الأمر لجهد أكاديمي منظم يحفز الكليات على استحداث مساقات في الإعلام المقارن وفي تحليل الخطاب والمضامين الاستعمارية في الصحافة الغربية.
قد تحتاج الصحافة العربية لإعادة النظر في المدونة الأخلاقية الغربية التي جرى تبنيها محليًا، وتطوير مدونات عربية لا تتوقف عند اجترار تلك المعايير وتعريبها، مثل الدقة والموضوعية والحياد، ولكن تصمم معايير أخلاقية جديدة، بما يلائم واقعًا عربيًا يمثل فشل التنمية والاحتلال والقمع السياسي أبرز ملامحه.
يقول ثوسو إن الحل يبدأ بإدراك وجود انحياز أولًا، ومن ثم التعامل معه على نحو نقدي. أحد المسارات للتغيير على ما يقترح، تأسيس غرف أخبار ولو صغيرة تقدم رؤية بديلة للعالم، ونشر مواد تذهب في نفس الاتجاه، أو المشاركة في مؤتمرات وطرح تلك القضايا على الملأ. «كل جهد صغير قد يخلق فرقًا على المدى البعيد».
ربما كان من المهم أيضًا الالتفات إلى أن تلك الرغبة في كسر الهيمنة الإعلامية الغربية قد انطلقت بالفعل منذ سنوات، تحديدًا منذ دخلت الصين للساحة الدولية كلاعب أساسي.
يعد الدخول لسوق البنية التحتية للإنترنت وتدفق المعلومات والتقنية هدفًا رئيسًا لمبادرة «الطريق والحزام» الصينية. تجاوزت استثمارات بكين في هذا القطاع تريليون دولار، تركز على الكوابل البحرية والبنية التحتية للاتصالات وحتى منصات التواصل، وتستهدف بشكل أساسي دول الجنوب. وتعد شركات مثل هواوي، وZte، ويونيكوم رائدة في هذا المجال.
لا يتوقف الأمر على الصين، بل يمتد ليشمل مبادرات مهمة في دول الجنوب أبرزها خط الإنترنت التحت-بحري «نظام كابل غرب إفريقيا» الذي يربط جنوب إفريقيا ببريطانيا، ويسمى WACS، وخط PEACE الذي يربط باكستان بأوروبا، وكلاهما يمران عبر شرق وغرب إفريقيا.
وفي قطاع الصحافة، رغم تواصل الهيمنة على مصادر المعلومة غربيًا، إلا أن المصادر غير الغربية بدأت بأخذ حيز في المشهد الصحفي عبر إنشاء المحطات والمؤسسات التي يحاول جزء منها تقديم رؤية دولية خارج إطار السردية الغربية المعتادة. مثال ذلك الجزيرة الدولية، و«تي آر تي» التركية، و«روسيا اليوم»، وCTGN الصينية، وجميعها ناطق بالإنجليزية. هذا فضلًا عن عشرات المواقع الصحفية المحلية المستقلة في كل قطر عربي ممن تحاول إعادة اختبار الروايات الغربية وتفكيكها بدل الاستسلام لأطرها.
اليوم، تعد قناة روسيا اليوم الأولى في تاريخ يوتيوب، بين سائر القنوات التلفزية، التي وصلت إلى مليار مشاهدة، قبل أن تحذف المنصة صفحة القناة عنها في أعقاب حرب أوكرانيا.
«لا يمكنني تخيل حالنا لو لم تكن الجزيرة الإنجليزية»، يقول كوهين. يخبرني أن ابنته منخرطة في النشاط المؤيد لفلسطين. يعزو هو الفضل في ذلك لمتابعة جموع المعارضين للسياسة الأميركية للمحطات غير الغربية مثل الجزيرة و«تي أر تي» التركية الناطقتين بالإنجليزية.
حتى في سياق تطبيقات التواصل الاجتماعي، يحظى تيك توك الصيني بنسب مشاهدة عالية في دول الجنوب تتخطي المليار. أثبتت تجارب المستخدمين خلال حرب غزة عدم انحياز خوارزميات التطبيق لـ«إسرائيل» أو منعه وحظره للمحتوى المؤيد للقضايا العربية والفلسطينية. كذلك حال تلغرام الروسي الذي بات الوجهة المفضلة لصفحات فصائل المقاومة الهاربة من رقابة تويتر وفيس بوك.
«الأمور تتغير»، يقول ثوسو. برأيه، تمثل الهند، والصين، وتركيا، والبرازيل، وروسيا، وحتى العالم العربي، على الأقل الشق الثري منه، اقتصادات ومجتمعات صاعدة ستغير شكل العلاقات الدولية ومعها الصحافة أيضًا.
«هذه الفكرة القائلة أن واقع الهيمنة الغربي سيستمر، وأننا جميعًا لن يكون بوسعنا سوى مواصلة الانحناء للرجل الأبيض، قد زالت، وتواصل زوالها. أنا متفائل. المستقبل سيكون أكثر إثارة للاهتمام، وأكثر تنوعًا وتعددًا قطبيًا».