ميشيغان-الولايات المتحدة- عماد الرواشدة
هنا في هذه المدينة الصغيرة شرق ولاية ميشيغان يتلاشى شعورك أنك في الولايات المتحدة أحيانا. لوحات المحال من حولك كتبت بالعربية. العبارات الإعلانية تحمل أسماء عربية؛ حامد، علي، مانع، محمد. من سماعات السيارات المارة بجانبك, تستوقفك الأغاني اليمنية أو ألحان المجوز والطبل اللبناني. هذه ديربورن، مدينة بالكاد يتجاوز سكانها المئة ألف لكنها اليوم باتت محط اهتمام الإعلام العربي والدولي.
قبل قرن تقريبا، قبل اشتعال الحرب العالمية الثانية، كانت هذه المدينة موئلا للبنانيين القادمين للعمل في مصانع شركة فورد للسيارات. وصفتها إحدى الصحف المحلية ب”مستعمرة السوريين” حين كان سكان بلاد الشام يوصفون عموما بالسوريين قبيل تقسيم المنطقة في اتفاق سايكس بيكو. وقبل قرن تقريبا كانت هذه المدينة مستودعا للعمالة العربية الرثة، المهمشة والمميز ضدها من الأميركيين البيض.
بعد قرن تقريبا، تربع على عرش بلدية المدينة عربي من أصول لبنانية اسمه عبدالله الحمود، بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره لكنه سيطر على اهتمام الإعلام بتحريضه على التصويت ضد بايدن ونقده الحاد لدعم إسرائيل. وفي مجلس مشيغان التشريعي يحتل الثلاثيني الآخر، إبراهيم عياش، مقعدا. وحده، دفع “عياش” نحو عرقلة بيان إدانة نيابي لحماس والمقاومة جعل ميشيغان من الاستثناءات الأميركية النادرة التي لم تنجر إلى حملة الدعم للمشروع الصهيوني.
بعد قرن تقريبا، باتت تلك الأقلية التي عانت التهميش والتضييق، تتوعد الرئيس الأميركي بالتصويت ضده، تقود حملة “التخلي عن بايدن” في الانتخابات الرئاسية المقبلة عقابا له على تمويله ودعمه الحرب على الفلسطينيين في غزة، وتدعو المصوتين إلى كتابة “غير ملتزم” Uncommitted في بطاقة الاقتراع.
المدينة الصغيرة، التي تعد الوحيدة في البلاد التي يشكل العرب أغلبية قاطنيها المئة ألف تقريبا، تقود مسارا غير مسبوق في تاريخ العرب الأميركيين لصناعة الرؤساء، وإنهائهم في آن، وتجتذب كاميرات التلفزة والمراسلين والخبراء والمحللين لمحاولة فهمها واستيعاب مكانتها الجديدة في الخريطة السياسية الأميركية.
عرب ميشيغان من التهميش لصناعة الرؤساء
على مدى أيام، تحدثتُ فيها إلى قيادات المجتمع العربي هنا، بدا لي تصميمهم على مواجهة بايدن في الانتخابات و”تدفيعه ثمن” مواقفه في الحرب الأخيرة مهمة يحركها شعور عميق بالمرارة.
على الدوام، اعتادت نخبة الحزب الديمقراطي (غالبا من البيض) التعامل مع الأقلية العربية بشيء من الفوقية، والنظر إليها بوصفها كتلة مصمتة ومحسومة لصالحها، خصوصا بعد وصول دونالد ترمب للسلطة في ٢٠١٦، وإعلانه من فوره حظرا على السفر من تسعة بلدان ذات غالبية مسلمة، وتبنيه خطابا عنصريا ضد العرب والمسلمين.
في هذا الموسم الانتخابي، لم يتغير الكثير.
لا تزال النخب الليبرالية تعتقد بأن على العرب واجب التصويت لبايدن بمعزل عن أي شيء آخر. ويضعون مطلبهم في إطار محاججة مسطحة مفادها أن الوقوف خلف بايدن يبقى أفضل من أن ينتهي العرب ومعهم عموم البلاد في قبضة ترمب، كما أشارت حاكمة ميشيغان نفسها، غريتشن ويتيمر.
على أن حسابات العرب هذه المرة ليست بهذا الضيق، ولا تبدو مذعورة من عودة الرئيس السابق إلى الحد الذي يدفعهم للوقوف إلى جانب بايدن، الداعم لواحدة من أبشع العمليات الحربية ضد مدينة محاصرة منذ نحو عقدين. الاحتقار الذي لمسته الأقلية العربية في تعامل الإدارة معها أقنع رموزها بأن على عرب أميركا عموما التوقف عن تقديم أنفسهم كمجموعة تصويتية تحت الطلب متى ما احتاجتها النخب الحزبية.
اليوم تسود القناعة عند المصوتين العرب بأن على الراغبين من ساسة البلاد ونخبها الحزبية الحصول على دعمهم، أن يسعوا في طلب هذا الدعم، ويبذلوا جهدا في إقناعهم والاستماع إليهم واحترام توجهاتهم في السياستين الداخلية والخارجية، تماما كما يجري تقدير رغبات اللوبيات المؤيدة لإسرائيل.
بالفعل، اليوم يعلن العرب أنهم لا يخشون من عودة ترمب في حال حرموا بايدن أصواتهم. وينجح ١٠٠ ألف منهم ومن المسلمين وأقليات أخرى بالإدلاء بورقة كتب عليها “غير ملتزم” ( أي غير ملتزم بالتصويت لبايدن) في الانتخابات الداخلية لاختيار مرشحي الأحزاب ممن سيخوضون سباق الرئاسة. المدهش بالنسبة للمنظمين أن هذا الرقم يمثل ١٥٪ على الأقل من إجمالي من صوتوا في الحزب الديمقراطي. نسبة أكبر بكثير من سائر توقعاتهم التي كانت تدور حول ١٠ الآف صوت “غير ملتزم”.
بالنسبة لهؤلاء، تمثل عودة الرئيس السابق ثمنا مؤقتا واجب الدفع مقابل تمظهر وحدتهم كقوة انتخابية متماسكة ذات وعي مشترك واضح وأهداف وتأثير بالغين في السياسة الداخلية والخارجية. سيصل ترمب هذا الموسم، ربما، يقولون، لكن من سيطرحون أنفسهم للترشح مستقبلا سيدركون محورية الصوت العربي ليس في ميشيغان فقط ولكن في عموم الولايات المتحدة.
تمثل عودة الرئيس السابق ثمنا مؤقتا واجب الدفع مقابل تمظهر وحدتهم كقوة انتخابية متماسكة ذات وعي مشترك واضح وأهداف وتأثير بالغين في السياسة الداخلية والخارجية.
يقول منظم ومؤسس حملة “تخلوا عن بايدن” التي اجتاحت ميشيغان مؤخرا، خالد طرعاني، إن التنسيق قد بدأ بالفعل مع ولايات متأرجحة أخرى ذات حضور عربي وازن من أهمها جورجيا، بينسيلفينيا وأريزونا.
“رياضيا، هناك تسعة سيناريوهات لفوز بايدن. ثمانية من أصل هذه التسعة تقول أنه يجب عليه الفوز بميشيغان” يقول طورعاني. بالمقابل تقترب فرص فوز بايدن بهذه الولاية دون الصوت العربي، من الصفر؛ فالرئيس الحالي كان فاز بها عام ٢٠٢٠ بفارق نحو ١٥٠ ألف صوت، من بينها نحو ١٤٠ ألف صوت قدمها العرب.
قد توحي عبارة “غير ملتزم” بالتهديد فقط، أو للدقة، المساومة والمماحكة السياسية بحيث يعود العرب لدعم بايدن إن هو غير موقفه من غزة. لكن الحديث لبعض العرب هنا يشير إلى عكس ذلك تماما.
يتوجه المصوتون بالعموم لإسقاط بايدن في هذه الولاية الحساسة وإنهاء طموحه السياسي بمعزل عن التطورات على موقفه من الحرب على غزة؛ فالضرر، كما يقولون، قد وقع وانتهى الأمر بعد أن فقد غالبية الغزيين منازلهم وقفز عداد القتل اليومي إلى حدود الإبادة وتجاوزها. لذا، يبدو تغيير الموقف الأميركي الآن ضروريا ومتأخرا جدا في آن. عبارة “غير ملتزم”، بهذا المعنى، تبدو محض محاولة من عرب الولاية للضغط على البيت الأبيض، وإغرائه في نفس الوقت، لوقف إطلاق النار الفوري في القطاع.
العرب في المعادلة الانتخابية
تاريخيا، تعد ولاية ميشيغان غير محسومة لأي من الحزبين في إطار تنافسهما على أصواتها. بكلمات أخرى، الولاية “متأرجحة” كما يقول التعبير الأميركي، وهو ما يعطيها تلك الأهمية الخاصة في أي انتخابات أميركية مؤخرا.
من غير المعروف على وجه الدقة ما هو عدد من يحق لهم التصويت للانتخابات في ولاية ميشيغان من العرب. بعض المصادر مثل مجلس العلاقات العربية الإسلامية، يتحدث عن نحو ١٢٦ ألفا. لكن رموز الجالية العربية وناشطيها ممن عملوا في الانتخابات هنا يتحدثون عن ضِعف هذا الرقم. أيا كان الحال، فالعرب ليسوا الوحيدين ممن أثرت بهم حملة إسقاط بايدن.
اليوم، يقول أسامة سيبلاني ناشر ورئيس تحرير صحيفة عرب نيوز الناطقة باللغتين العربية والإنجليزية والأقدم في مدينة ديربورن، إن الموقف العربي يحظى بدعم المسلمين من غير العرب، من المهاجرين من أمريكا اللاتينية، والآسيويين.
“ماذا يتوقع منا؟ لقد قالها صارحة “أنا صهيويني”. وزير خارجيته ايضا قدم نفسه كيهودي. العرب الأميركيون يتعرضون للمضايقات في جيئتهم وذهابهم من المطارات وأحيانا تؤخذ هواتفهم بسبب انتمائهم وانحيازهم السياسي” يقول سيبلاني.
بدأ عرب ميشيغان بالتنسيق مع أقرانهم في الولايات الأخرى بالفعل لجعل نشاطهم وحضورهم عابرا في تأثيره حدود ولايتهم الضيقة. في جورجيا جنوب البلاد، يكتسي جهدهم أهمية خاصة قد تلحق خسارة مضاعفة ب”جو بايدن” في الانتخابات المقبلة في نوفمبر تشرين الثاني.
كانت جورجيا على الدوام محسوبة على الحزب الجمهوري إلى أن تمكن بايدن من تحويلها إلى قاعدة ديمقراطية في الانتخابات الماضية ضد ترمب. وهكذا ببساطة تحولت الولاية إلى متأرجحة أيضا.
عقب فوزه في جورجيا، خرج بايدن لشكر الأقلية السوداء على وقوفها إلى جانبه. لكن اليوم، تخرج نسب وازنة من هؤلاء لإعلان اعتراضها على سياسته المنحازة لإسرائيل.
في يناير كانون ثاني الماضي، اعترض الف رجل ديني أسود في جورجيا على دعم بايدن لتل أبيب في حربها على غزة داعينه، كما دعاه العرب في كل مكان، إلى تبني وقف فوري لإطلاق النار. لليوم، يصر الرئيس على التمسك بموقفه الرافض لوقف الحرب.
وكما هو حالها في ميشيغان، صعبة تبدو حسابات بايدن في جورجيا أيضا.
في انتخابات ٢٠٢٠، فاز الرئيس الحالي بهذه الولاية المحافظة بفارق نحو ١٢ ألف صوت فقط عن ترمب. فقط ١٢ ألف صوت. يعني الأمر فيما يعنيه أن تحركا عربيا نصف منظم مع الأقلية السوداء هناك قد يقود إلى خسارته بشكل فادح.
لكن ماذا لو خسر بايدن كلا من ميشيغان وجورجيا، هل سيعني الأمر خسارته الانتخابات؟ إلى حد بعيد نعم، يقول منظموا حملة “تخلوا عن بايدن” من العرب.
الفكرة ببساطة تعود إلى شكل الانتخابات الأميركية.
يفوز الرئيس الأميركي في الانتخابات إن تمكن من الفوز بعدد محدد من الولايات. هذا العدد يجب أن يضمن له الوصول إلى ما يشبه الرقم السحري وهو ٢٧٠.
يتوزع هذا الرقم على الولايات جميعا على شكل ممثلين او من يسمون “الكلية او المجمع الانتخابي”. لكل ولاية عدد مختلف من الممثلين. في جورجيا هنالك ١٦ ممثلا. في ميشيغن ١٥.
نظريا، لن يواجه بايدن مشكلة في الفوز بالولايات المحسومة أصلا لحزبه، أي غير المتأرجحة. ستؤمن له تلك الولايات نحو ١٩٠ ممثلا. لكن الوصول إلى ٢٧٠ يتطلب منه كسب عدد كبير من الولايات المتأرجحة. واقع الحال، أيا كانت محاولاته، إن خسر بايدن ممثلي ميشيغان وجورجيا، أي ٣١ ممثلا، فيمكن القول أن مهمته بالوصول إلى ذلك الرقم باتت مستحيلة، وعليه باتت ولايته الثانية في البيت الأبيض غير ممكنة. وهذا تماما ما يعول عليه العرب اليوم.
يبلغ تعداد الأقلية العربية في الولايات المتحدة نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة موزعين على عشرات الولايات وبنسبة تبلغ ٢٪ على الأقل من إجمالي سكان البلاد. لكن النظام الانتخابي الأميركي بولاياته المحسومة والمتأرجحة، واحتوائه على قاعدة “الكلية الانتخابية” تلك، يجعل من العرب، رغم ضائلة تعدادهم، قوة سياسية قابلة للتوظيف بشكل بالغ الأثر في العملية التصويتية والسياسية عموما.
تاريخيا لم يكن للعرب الأميركيين صوت يسمع في الشأن السياسي. وفي الوطن العربي، جرى النظر إليهم بوصفهم إما كما سياسيا مهملا بلا أي وزن نسبي في العملية الانتخابية، أو باعتبارهم منحازين لمصالحهم الخاصة على حساب مصالح الأوطان التي هاجروا منها. اليوم يبدو هؤلاء وقد عزموا على تغيير هذه الصورة النمطية مرة واحدة وللأبد.