عماد الرواشدة
إشارة أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله في آخر خطاباته إلى استقلالية حركات المقاومة وعدم تبعيتها لإيران لم تأت في فراغ سياسي. يقول نصر الله إن هذه القراءة، التي اعتبرها خاطئة، واسعة الانتشار في العالم العربي.
بالفعل، منذ اندلاع الثورة السورية، والعالم العربي يعيش حالة شديد الحدة من الاستقطاب والخلاف حول ما بات يعرف ب”محور المقاومة” وعلاقته بإيران ومدى استقلاليته. تغذت هذه الرؤية بطبيعة الحال على انقسام عربي قديم متجدد بين السنة والشيعة، العلمانيين والمتدينين، وبين مؤيدي ومعارضي بعض احتجاجات الربيع العربي وما آلت إليه.
لكن نفي حزب الله لهذا التصور العربي السائد بتبيعة فصائل المقاومة لإيران لا يبدو محض بروباغندا أو تعمية من فصيل شيعي على الدولة الشيعية الأولى في الإقليم. في الواقع، ما قاله نصر الله أكدته دراسات وأوراق بحثية بعضها عربي، وبعضها الآخر أميركي\ غربي لدول يفترض فيها التأكيد على هذا الزعم بالتبعية بين إيران وفصائل المقاومة وليس نفيه. في نهاية المطاف، تقديم هذه العلاقة في إطار التابع والمتبوع يساعد الولايات المتحدة على نزع أي شرعية يمكن لتلك الفصائل كسبها في الشارع العربي المعبأ ضد طهران، ووسمها، أي تلك الحركات، باعتبارها مجرد أدوات في لعبة إقليمية دولية متجاوزة لقدراتها السياسية.
“أنصار الله” وإيران
اليوم في سياق العلاقة بين إيران وجماعة أنصار الله اليمنية، المسماه بالحوثي، تصر غالبية مراكز البحث (ثنك تانكس) الأميركية شبه الرسمية والداعمة لمصالح الأمن القومي الأميركي مثل “كارنيغي”، و”درو ويلسون”، أو “راند” وغيرهم، أن “الحوثي” مجرد جماعة وكيلة لإيران، لم تكن سوى أداة لتنفيذ مخططات طهران ضد السعودية وبقية دول الخليج وزعزعة استقرار المنطقة. على أن معهد دراسات العلاقات الدولية الهولندي في أحدث دراسة له حول الأمر نشرت في أكتوبر من العام الماضي واعتمدت على بيانات التمويل والدعم العسكري بين الطرفين، يخلص لنتيجة مغايرة تماما.
يقول المعهد في ورقته إن دعم طهران للجماعة لا يرقى لدرجة يجعل من الأخيرة “وكيلة” للجمهورية الإسلامية proxy، ويعتبر الحوثي “شريكا غير رسمي” لإيران، في علاقة بدأت بالتشكل في التسعينيات وانحصرت مذاك في الإلهام الذي قدمته الثورة للجماعة على مستوى تحريك الجماهير وتحشيدهم نحو غاية محددة.
يقول المعهد في ورقته إن دعم طهران للحوثي لا يرقى لدرجة يجعل من الأخيرة “وكيلة” للجمهورية
Proxy، الإسلامية
الدعم المادي العسكري الإيراني للحوثي، وفق الورقة، لم يحدث الإ في ٢٠١٤، لدى تشكيل تحالف عربي عسكري بدعم الولايات المتحدة ضد الجماعة. بدء العمليات العسكرية للتحالف، دفع إيران بدورها لتقديم المساعدة العسكرية والمالية للحوثي. لكن هذا الدعم “لم يؤثر في شعبية الحركة داخل اليمن ولا في أهدافها”، وفق الورقة.
ماليا لم تكن جماعة الحوثي في حاجة للدعم الإيراني. منذ مطلع الألفية شرع الحوثيون ببناء قاعدة مالية صلبة عبر جمع التبرعات والضرائب من السكان لدعم نشاطهم ومؤازرة لفلسطين، تقول دراسة المعهد، وتشير إلى اعتماد الجماعة على إرث ديني متجذر لقرون في المجتمع اليميني مثلته الإمامة، ما سهل نيلها شرعية في أوساط واسعة داخل البلاد.
رغم أن جماعة الحوثي من الناحية القبلية لا تشكل إلا نسبة بسيطة من سكان اليمن تكاد لا تذكر، لكنها لا تقدم نفسها كفريق قبلي وإنما كامتداد للإمامة الزيدية اليمينية التي تواصل إرثها في البلاد لنحو ألفية كاملة بدأ من ٨٩٩م، مع تولي يحيى بن القاسم الرسي، قبل أن تنتهي تجربتها العميقة عام ١٩٦٢ على يد القوميين في سياق الانقلابات العربية لحقبة ما بعد الاستقلال.
ليس سهلا الحصول على نسبة دقيقة للزيديين في اليمن؛ المعهد الأميركي للسلام، وهو جهة بحثية أميركية محافظة شبه حكومية، يقول أنهم يمثلون ثلث سكان البلاد، ٣٤٪. على أن هذا التقسيم للمجتمع اليميني بين سنة وزيدية ينطوي على مغالطة واضحة؛ فالمذهب الزيدي ليس متمايزا عن السني إلى الحد الذي يضعه في خانة الشيعة الإثني عشرية الإيرانية كما يجري الإيحاء في الإعلامين العربي والغربي. رواج هذه الفكرة عائد في جزئه الأكبر إلى رغبة رسمية، غربية غالبا، بربط التنظيم بإيران على نحو يفت في أي شرعية يستند إليها ليسهل استهدافه في حال الصدام المباشر مع الولايات المتحدة أو أي من حلفائها. نمط دائما ما يتكرر في تقديم واشنطن لحركات التحرر باعتبارها مجرد أدوات بلا إرادة، لقوى دولية عدوة، حماية للمصالح الأميركية؛ منذ حرب فيتنام حين قُدم الفيتكونغ كأدة للسوفيت، مرورا بكوبا وليس انتهاء بدول أميركا الوسطى.
من زاوية مذهبية، لا يؤمن الزيدية ببعض من أساسيات الأفكار الشيعية، مثل الغيبة، العصمة، والإثني عشرية؛ وهو ما يجعلهم في الجوهر أقرب للسنة الحنفية منهم لأي مذهب إسلامي آخر، ويخلق، بالمثل، انفصالا جوهريا من الناحية المذهبية بينهم وبين طهران.
صحيح أن أتباعها يرون بأحقية آل البيت بالخلافة، وهو ما يجمعهم مع المذهب الشيعي، على أن هذه الرؤية تبقى في جوهرها سياسية ضاربة في التاريخ الإسلامي أكثر من كونها عقدية. والحال كذلك، يمكن القول إن توصيف الجماعة بالشيعية، وتباعا إلحاقها بما بات يسمى “المشروع الإيراني”، خدم، على نحو واع أو غير واع، أجندة النظم العربية السنية في صراعها مع “أنصار الله” وتمكنها من تحشيد الرأي العام العربي ضدها.
حماس وإيران
فيما يخص حماس، الأمر لا يختلف كثيرا. عشية عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها الحركة ضد إسرائيل في السابع من تشرين أول\ أكتوبر، سارعت وسائل إعلام عربية وغربية ومراكز أبحاث لربط الهجوم ب”المشروع الإيراني”. على أن الاستخبارات الأميركية وإدارة الرئيس جو بايدن نفسها نفت أكثر من مرة مثل هذا الربط، بل أن مسؤولين في واشنطن تحدثوا عن “تفاجئ” بعض القادة الإيرانيين بالعملية. حزب الله والجمهورية الإسلامية بدورهما نفيا علمهما المسبق بها أيضا؛ لكن ذلك لم يمنع من تواصل تدفق المواد الإعلامية التي تلمح إلى دور إيراني فيها.
أصبحت إشكالية العلاقة بين إيران وحماس حديث الشارع العربي والغربي عقب تفجر الثورة السورية وقمع نظام الأسد للحراك الشعبي هناك، وهو ما دفع الحركة لإغلاق مكاتبها في دمشق عام ٢٠١٢. منطقيا، كان من المفترض لمثل هذا التصرف من قبل حماس أن يهدد مجمل علاقاتها بالجمهورية الإسلامية؛ لكن ما حصل هو العكس.
يقول مؤسس الحرس الثوري الإيراني في مقابلة مع الباحثة في مركز الجزيرة للدراسات فاطمة صمادي، إن طهران لا تتوقع من حماس، لقاء ما تتلقاه من دعم عسكري أقرت به الحركة، أن تدافع عن الجمهورية.
يقول مؤسس الحرس الثوري الإيراني في مقابلة مع الباحثة في مركز الجزيرة للدراسات فاطمة صمادي، إن طهران لا تتوقع من حماس، لقاء ما تتلقاه من دعم عسكري أقرت به الحركة، أن تدافع عن الجمهورية.
“نحنا لسنا بحاجة إلى فلسطين بهذا المعنى، بمعنى أننا لا ننظر إلى فلسطين بشكل وظيفي، بل نعتبرها مدخلًا للدفاع عن مبدأ سام، لا يغادر إطار الدفاع عن المظلومين، ومعارضة لاحتلال أرض المسلمين” يقول كما خرزاي في مقابلته تلك في أكتوبر من العام الماضي.
الحركة نفسها تنفي ذلك أيضا، سواء على لسان خالد مشعل أو مسؤولين أقل درجة.
على أن نفي ارتباط الدعم الإيراني بالمشروطية ليس مجرد وجهة نظر تروجها طهران رفقة حماس، فالبيانات الأميركية تؤكدها أيضا.
يشير معهد “ودرو ويلسون” الأميركي شبه الرسمي إلى تواصل الدعم الإيراني للحركة رغم موقف الأخيرة من نظام الأسد الحليف لإيران خلال الثورة السورية. هذا الدعم ازداد بشكل ملحوظ، في الواقع، بعد حرب إسرائيل على غزة في ٢٠١٤، وفق ورقة للمعهد. بهذا المعنى، لم يمنع اتخاذ حماس موقفا مستقلا عن الجمهورية الإسلامية تجاه الثورة السورية من مواصلة دعم طهران، وهي الحقيقة التي تجعل من الافتراض القائل بالعلاقة التبعية بين الطرفين تبسيطا يشوش القدرة على فهم ملابسات وتعقيد الارتباط بينهما.
تغيرات النظام الإقليمي
تقدم التصريحات الأخيرة للأمين العام لحزب الله تفصيلا نادرا من مسؤول على هذا المستوى عن داينميكيات العلاقة بين فصائل “المقاومة الإسلامية” عموما من جهة وقوة إقليمية وازنة بحجم الجمهورية الإسلامية من أخرى. يقول نصر الله إن إيران انتهجت على نحو واع أسلوبا يقضي باستقلال حركات المقاومة عبر “تطوير قدراتها الذاتية ووقف اعتمادها على الغير”. صحيح أن التثبت من تصريحات الحزب صعب، على أن الشواهد التي تدلل على صحته، ولو في الإطار العام، كثيرة كما سبقت الإشارة.
يكشف الجدل عربيا حول طبيعة علاقة تلك الفصائل بإيران عن حاجة ملحة لتحييد الانحيازات الفكرية، الدينية والمذهبية، قدر الإمكان، عن محاولات التحليل؛ فالتطور الذي شهدته تلك الفصائل في العشر سنوات الأخيرة غير مسبوق في تاريخ المنطقة الحديث، على الأقل، لجهة أثره على عموم الشرق الأوسط، لذا تغدو مهمة فهمه وفق معطياته الموضوعية ضرورة منهجية، وأخلاقية ربما. اليوم يبدو الانقسام الإقليمي متجاوزا لثنائية دول “الممانعة” و”الاعتدال”، أو ال”هلالين” السني والشيعي التقليدية. العشرية الأخيرة تشير إلى انشطار النظام الإقليمي العربي بين نظم رسمية محكومة لحساباتها والتزاماتها السياسية الدولية من جهة، وتنظيمات عسكرية تعلن أن مشروعها هو مقاومة الهيمنة الدولية، مستلهمة مبادئها من تراث ديني تضرب جذوره في تاريخ عمره يتجاوز الخمسة عشر قرنا تأسس على مفاهيم التضحية، القتال، التحرير والتحرر.
يمكن القول اليوم أن تلك التنظيمات فرضت نفسها لاعبا فوق دولتي، أو تحت دولتي (تبعا لزاوية رؤية المراقب الفكرية) سواء في علاقتها مع الدول العربية أو مع القوى الكبرى، وتحديدا الولايات المتحدة. ففي العراق، لبنان واليمن، فرضت تلك الحركات قواعد للاشتباك مع الجيشين الأميركي والإسرائيلي، لم تتمكن الجيوش النظامية لسلطات المنطقة من فرضها منذ تشكل النظام الرسمي منتصف القرن الماضي.