عماد الرواشدة
ها قد مر يومان على انتهاء الإضراب الذي دُعي له على وسائل التواصل الاجتماعي تضامنا مع ما يحدث لسكان قطاع غزة من إبادة. كانت الأردن، الدولة التي تعود أصول نصف سكانها لفلسطين، الأكثر استجابة للدعوة.
لم يتبين حتى الآن ما هو الأثر الموجب لهذا التحرك في (سياقه الأردني والعربي) على الغزيين الذين نزح منهم أكثر من مليون يفتقرون الآن لمقومات الحياة الرئيسة وسط اشتداد القصف الإسرائيلي على جنوب المدينة وتراكم الضحايا.
لم يعرف حتى الآن أيضا أثر هذا الإضراب على آلة الحرب الإسرائيلية\ الأميركية، أو على التخاذل الرسمي العربي والدولي على السواء.
هناك مجموعة من المعلومات حول هذا الإضراب، رغم ذلك. أولها وأهمها في سياق هذا المقال، أنه لم يأت استجابة لدعوى سياسية واعية وقصدية على مستوى أهدافها واستراتيجيتها وتكتيكاتها لمساعدة غزة، مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والوقوف في وجه داعميه الدوليين في الغرب. ثاني تلك المعلومات أن الإَضراب تسبب بالفعل بإلحاق خسائر اقتصادية، لكن ليس بالاحتلال، ولا بالولايات المتحدة أو الغرب، ولكن بالاقتصاد المحلي لمجتمعات تحاول بالفعل دعم شعب شقيق يواجه إبادة جماعية منذ أكثر من شهرين وتطهيرا عرقيا منذ أكثر من سبعة عقود.
الإجابة (الاوسع تداولا) على وسائل التواصل عن السؤال عن الحكمة من الإضراب تلخصها عبارة “دعم صمود إخواننا في غزة”، على أن أننا نعلم بداهة أن خسارتك الصافية، لا يمكن أن تمثل مكسبا لحليفك.
رغم كل ذلك، ليس محور النقاش في هذا المقال إثبات عدمية خيار الإضراب، فهذا، اليوم، من بديهيات القول رغم إصرار الداعين والمتحمسين للتحرك على معاندة المنطق النقدي السليم. مناط اهتمام هذا المقال هو الإشارة إلى أن الإصرار على إقامة الإضراب يحيل على سؤال في غاية الأهمية في السياق المحلي: من يدير العموم؟ وكيف تتشكل القناعات والمواقف في أوساط الرأي العام، وكيف يصار إلى تبني خيارات بعينها؟
كحال التحركات الشعبية العربية في العشر سنوات الأخيرة، منذ الربيع العربي على الأقل، لم تتبن أي جهة بعينها الإضراب، كان الأمر كله تمثُّلا جديدا لحالة من التهييج والتحشيد نشهدها على امتداد الستين يوما الماضية، صنعها وهندسها بشكل أساسي الإعلام العربي شبه الرسمي والاجتماعي.
صحيح أن هذا الهياج الشعبي خلق وعيا خاصا غير مسبوق عن علاقة المنطقة بالغرب، وأحيى روحا جديدة تنظر بنقدية وحدية تجاه مجمل المنظومة القيمية والاقتصادية للغرب وتطرح تساؤلات في منتهى الأهمية تدور حول علاقتنا ب”الآخر” وعلاقته بنا، وهذه مكاسب ثمينة ونادرة للحرب تحتاج أن تُصان وتُصقل نظريا وعمليا لتعظيم عوائدها على مجمل الأوضاع المحلية سياسية كانت أو اجتماعية وثقافية.
لكن الإضراب الأخير يثير قلقا مبررا من غياب التأطير النظري لهذا الغضب الشعبي، ويعيدنا إلى نقاش قديم متجدد حول غياب القوى المثقفة والمتعلمة، الإعلام المستقل والنقدي، أو النخبة إن شئت، عن المشهد المحلي الأردني، والعربي عموما. يبدو غائبا دور تلك النخب في إعادة توجيه الغضب الشعبي وترشيده على نحو يخدم ما تتطلع له المجتمعات العربية اليوم، والأهم غدا، على المدى البعيد بعد أن تضع الحرب أوزارها.
طوال الستين يوما الماضية، غابت تماما وجهات النظر التي كان بوسعها تأطير الزخم الشعبي على نحو أكثر فعالية في مواجهة التحدين الأكثر الحاحا اليوم: التردد الرسمي العربي في مواجهة الخطر الإسرائيلي على الإقليم، وتهديد السياسة الخارجية الغربية لمصالح الأمن القطري والإقليمي العربي.
كان ولا يزال محبطا أن تتوارى هذه الفئات جميعا خلف المنطق الشعبوي وتنحاز لخطاب وسائل الإعلام المسطح وغير المنتج معرفيا أو عمليا.
يلزم الإقرار هنا أن الاحتجاجات والمواقف الشعبية التي شهدناها جميعا طوال أكثر من شهرين الآن، ليست سواء؛ فبعضها بدا أكثر منطقية ووعيا من بعضها الآخر. تناقض يبدو ناتجا عن غياب القوى المنظمة عن المشهد وترك الحراكات الجماهيرية تتفاعل على نحو عشوائي تبعا لما تمليه تغطيات الصحافة والاعلام الاجتماعي.
مثال ذلك، تحركات ودعوات المقاطعة ليس فقط للشركات الداعمة لإسرائيل، ولكن الغربية عموما. هذه الدعوات التي اتكأت على منطق وأدبيات اقتصادية وسياسية وازنة لعموم حركة المقاطعة أثبتت، واقعيا ومنطقيا، صلاحيتها كأداة شديدة الفعالية لدعم غزة ومواجهة الاحتلال وداعميه.
بخلاف الإضراب الأخير، يمكننا قياس أثر المقاطعة على الخصم بقدر كبير من الدقة. صحيح أن تلك المقاطعة ستكلف الاقتصادات الوطنية خسائر على المدى القصير لجهة إغلاق المصالح الغربية وتسريح عمالتها المحلية، لكن ثمرات التحرك على المدى البعيد تخدم جملة من الأهداف الوطنية المهمة في إطار السعي نحو التحرر والاعتماد على الذات. نعرف تماما أن المزاج العام السالب الذي أتنتجه المقاطعة تجاه المصالح التجارية الغربية سيزيد الطلب على البديل المحلي أو يشجع خلقه إن لم يكن متوفرا، وسيزيد من عوائده ويساعده على توسيع نشاطه على نحو يجعله قادرا في نهاية المطاف على استيعاب العمالة الوطنية المسرَّحة.
نستطيع فهم الدورة الاقتصادية، إن جاز تسميتها كذلك، في خيار المقاطعة، ويمكننا رؤية الكيفية التي يؤدي فيها التوظيف لها على إحداث تغيرات جوهرية في الوقائع الاقتصادية والسياسية لصالح المجتمع وصالح حلفائه وجيرانه وبالضد من مصالح عدوه، لكننا لا نستطيع ذلك في حالة الإضراب الأخير.
التصور بأن وعي الجماهير المدفوع بالتغطيات الإعلامية الحماسية مستدام وقابل للحياة بعد انتهاء المؤثر، غير واقعي بحال. ربما كان الأرجح أن تثبت لنا هذه الحرب، كما أثبتت حروب أخرى سبقتها، أن الوعي الجنيني والزخم المحلي الذي يتشكل في الشارع سيبقى عرضة للتفتت والانحسار إن لم يجر تطويره وترشيده من حشود المتصدرين للعمل العام. لم تكن الحاجة لذلك ملحة كما هي اليوم.