صورة لمظاهرة مؤيدة لفلسطين في لندن. آذار\ مارس ٢٠٢٣. تصوير اليسدير هيكسن.
واشنطن- عماد الرواشدة
في توصيفهم لحركة حماس ب “الإرهابية”، لا يصدر المذيع البريطاني “بيرس مورغان“، مذيعة سي أن أن “كريستيان أمانبور“، أو حتى عضوة النواب الأميركي الديمقراطية الأشد معارضة لإسرائيل “إيلاهان عمر” وغيرهم من إعلاميين وساسة غربيين عن انحياز واستدلال شخصي، بل عن رؤية كلية جامعة يصعب تجاهل حضورها أينما التفتَّ في المشهد الصحافي، السياسي والفكري الغربي. من حيث الجوهر، لا فرق اليوم في النظرة الإعلامية الغربية للصراع العربي\ الإسلامي مع إسرائيل بين اليمين واليسار؛ بين نيويورك تايمز “الديمقراطية” ونيويورك بوست “الجمهورية”، ولا بين ديلي تيليغراف البريطانية اليمينية، أو الغارديان “العمالية”.
تنطلق هذه الرؤية الجامعة من فكرة مركزية قوامها التماثل (المصنَّع غربيا) بين حماس وداعش والإرهاب، والمؤسَس على مزاعم إسرائيلية (حصرا) حول تفاصيل ما حدث يوم السابع من تشرين الأول. غاية هذا التماثل، الذي يراد للرأي العام العالمي الاقتناع به، هو تجريد الحركة من الدافع واختزالها، في الوعي الغربي تحديدا، لجماعة “شريرة” تمارس عنفا عدميا مشحونا بنزوات ذاتية ضيقة أهمها الكراهية.
. غاية التماثل بين حماس وداعش هو تجريد الحركة من الدافع واختزالها، في الوعي الغربي تحديدا، لجماعة “شريرة” تمارس عنفا عدميا مشحونا بنزوات ذاتية ضيقة أهمها الكراهية.
يقع مفهوما “الكراهية” “والشر” في قلب الصورة التي يرسمها الإعلام والساسة الغربيون ليس فقط لحماس، ولكن لأي جماعة أو دولة خارجة عن تصوراتهم. يعطي هذان المفهومان الإرهاب شكله الكامل عبر ربطه بالمشاعر العدمية؛ بالغيرة، الحسد والعنصرية.
لا يمكن اعتبار هذا الربط جديدا أو اعتباطيا؛ “لماذا يكرهوننا” تساءل جورج بوش الابن قبل عقدين تعليقا على هجمات مانهاتن؛ ثم أجاب، “لأنّهم يكرهون ديمقراطيتنا وحريتنا”. واليوم ينهل رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، من ذات الوعاء الذهني لدى استقباله ضيوفه من المسؤولين الغربيين من الداعمين لبلاده ” الحرب اليوم هي بين الحضارة والبربرية، وبين أبناء النور وأبناء الظلام”.
في الرواية الغربية، لا يكتسب العنف مشروعيته ومبرراته “المعقولة والمفهومة” إلا إن مارسته الدول؛ أو للدقة إن مارسته الدول الغربية أو تلك التي أنشأها الغرب. بغير ذلك، لا يعدو كونه إرهابا عدميا ومحض كراهية مرضية. فالعنف الذي تمارسه إسرائيل كمشروع غربي منذ ٧٥ عاما، يواجه بالدعوات لعقلنته فقط لتقليل ضحاياه المدنيين في غالبهم، فيما يدان العنف الفلسطيني بالجملة بمعزل عن تأثيراته أو طبيعة أهدافه بين عسكرية ومدنية.
عادة ما يلتبس المشهد على بعض المتابعين لدى تعاطف الساسة والصحفيين الغربيين مع الفلسطينيين، اعتراضهم على احتلال الضفة والقطاع، أو مطالبتهم بالحق الفلسطيني بدولة مستقلة، تماما كما يعلن “بيرس مورغن” في لقاءاته مع مؤثرين عرب ومسلمين، أو كما يصرح الرئيس الأميركي “جو بايدن”. لكن هذا التعاطف مشروط ضمنا ببقاء الفلسطيني ضحية، وسرعان ما ينقلب إلى ضده بمجرد أن تقرر تلك الضحية الدفاع عن نفسها، وبمعزل عن سلمية الأداة من عدمها أيضا.
اليوم، حماس ” لا تمثل الفلسطينيين” وفق عموم الخطاب الغربي الذي لا يجد حرجا بأن يقرر للغير حدود إرادتهم الحرة في الاختيار.
لدى حماس عشرات آلاف الأعضاء ممن ينتمون لأسر وعشائر على امتداد غزة، أي أنّ تصور أخذهم القطاع “رهينة”، وفق التعبير الرسمي الأميركي الشائع، لا يمكن أن يستقيم في ظل وجود أهلهم وأقاربهم تحت تهديد القصف والقتل اليومي. ما لا يستوعبه الغرب، أو يبدو غير راغب باستيعابه، ونقلَه بالعدوى لشرائح كثيرة في العالم العربي، هو أنّ حماس تنظيم عضوي وليست كيانا منبت الصلة عن الجغرافيا والديمغرافيا الفلسطينية؛ إذ ولدت من تفاعلات حركة تحرر الداخل الفلسطيني في محاولاتها مواجهة سلطة الاحتلال الحاكمة في الضّفة والقطاع منذ النّكسة. حماس بهذا المعنى ليست، ولا يمكن اعتبارها، مماثلةً للقاعدة في تورا بورا أو داعش في الموصل؛ إذ اعتمد تشكلها التّاريخي على مجموع الشّبان الذين ولدوا ونشؤوا تحت الاحتلال والحصار.
بالتّأكيد، قد يختلف ملايين العرب والمسلمين، وهم يفعلون، حول تكتيكات الحركة، سياسيا وحتى أخلاقيا، لكن وصفها بالإرهاب يبقى خارج نطاق تفكيرهم.
وخلافا للتصور السائد في العالمين العربي والغربي على السواء، لم يعد يتصل العداء لحركة حماس بطبيعة أهدافها، عسكرية كانت أم مدنية، فحتى فلسطينيو الضفة ممّن يهاجمون رجال الشرطة والجيش يعاملون كخارجين عن القانون على نحو يستجلب الرد الإسرائيلي على عملياتهم بالاجتياح والاعتقالات الجماعية أو القتل العشوائي. في ٢٠٢٢ فقط وعلى خلفية تزايد العمليات الفردية ضد جنود الاحتلال، ارتفعت الاستهدافات الإسرائيلية بالقتل لفلسطيني الضفة والقطاع بنسبة ٤٩١ بالمئة عن ٢٠٢٠، غالبيتهم لم ينخرطوا بأي صدامات مع الجيش، حسب المرصد الأورو المتوسطي لحقوق الإنسان.
صحيح أنّ المنظمات الغربية عادة ما تستنكر العنف الإسرائيلي المفرط في ردها على العمليات الفلسطينية، لكن هذا التعاطف لا يعني بحال “تبرير” التحرك الفلسطيني ضده. في الخطاب الغربي تعد كافة أشكال المقاومة للمشروع الإسرائيلي بمعزل عن أدواتها، خلافية أو مرفوضة؛ إذ استدعت انتفاضة الحجارة نهاية الثمانينيات هدم الاحتلال بيوت النشطاء والاعتقالات الجماعية للمحتجين بمباركة ضمنية غربية لخصها استخدام واشنطن حق النقض الفيتو على ثلاث قرارات أممية لإدانة العنف الإسرائيلي.
تتحدد شرعية العنف، والمقاومة تبعا للفهم الغربي، لا بقوة النموذج ولكن بنموذج القوة.
في الخطاب الغربي تعد كافة أشكال المقاومة للمشروع الإسرائيلي بمعزل عن أدواتها، خلافية أو مرفوضة
حتى المقاومة الأكثر سلمية مثل حركة المقاطعة للاستثمارات الإسرائيلية اعتُبرت هي الأخرى معادية للسامية، وفق الموقف الرسمي لواشنطن وألمانيا. وفي فرنسا، منذ ٢٠١٠، أعطت السلطات الحق للنيابة العامة بملاحقة منظمي حملاتها بوصفهم مخالفين لقانون مكافحة التمييز العنصري الذي يجرم الفعل بغرامة تصل إلى ٧٠٠٠ يورو.
إدراج حماس في خانة الإرهاب لا علاقة له بإيديولوجيتها، ليبرالية كانت أم دينية أيضا؛ فقبل أربعة عقود عانت منظمة التحرير من ذات التوصيف رغم تنوع طيفها السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، هذا طبعا دون الإشارة إلى كون إسرائيل نفسها قد تأسست على إيديولوجيا وميثولوجيا دينيتين.
من جيفارا، لنيلسون مانديلا الذي بقي على قوائم الإرهاب حتى ٢٠٠٨، لحركة فتح وحماس، لم يكن هذا التصنيف سوى أداة لخلق الانطباع بلاجدوى وعدمية الكيانات المعارضة أو المقاومة لمشاريع الهيمنة والقمع العنصري الغربية أو المدعومة غربيا.
مقابلات موجهة
تحتاج طبقات الحكم في الدول الغربية إلى تغذية نشرات الأخبار والصحف والبرامج الأكثر مشاهدة، مثل برنامج “بيرس مورغن” “كريستيان أمانبور”، أو “فريد زكريا”، بخطابها ورسائلها الموحدة عن تعرض قيمها ووجودها الحضاري للتهديد كلما استشعرت حراكا جادا مقاوما لنهجها. الغاية هي إنتاج “التوافق المصنَّع“، بتعبير نعوم تشومسكي في كتابه المؤسس عن تلاعب وسائل الإعلام بتشكيل الرأي العام عبر انتزاع موافقته الضمنية والمعلنة على السياسات الرسمية المنفلتة في المجالين المحلي والدولي.
لم يتوقف هذا النمط عن تكرار نفسه منذ الحرب الأميركية على فيتنام، على الإرهاب، على العراق، وصولا للحرب على غزة وعملية حماس الأخيرة التي وصفت بالفعل باعتبارها متفوقة على هجمات البرجين التي نفذتها القاعدة في ٢٠٠١.
لكن تلك السردية “المصنَّعة” لا تكتسب كامل مصداقيتها في ذهن الرأي العام الغربي إن لم تدعمها أصوات المنتمين للقضية محل النقاش أنفسهم، وهم هنا الفلسطينيون، العرب والمسلمون، وهو ما يعطي الظهور في برامج الحوار الغربية حساسيته في المعركة الدائرة بين الشرق والغرب على تحديد ملامح الرواية لما حصل في السابع من تشرين الأول.
بمجرد تحول مجموعات المقاومة لتنظيمات إرهابية، ستغدو طبيعة الرد الإسرائيلي على عملياتها وجهة نظر
لا يحرص مقدمو تلك البرامج على استضافة المؤثرين من أصول عربية أو مسلمة رغبة في توفير الحقيقة للمشاهد الغربي؛ فجل تغطيتهم تُخصص للإسرائيليين مقابل تهميش الرأي المقابل، وداخليا يجري التضييق على الموظفين والتحقيق في ميولهم الفكرية كما فعلت بي بي سي. ينشغل هؤلاء الإعلاميون أكثر بمحاولة انتزاع إقرار من ضيوفهم العرب والمسلمين بصحة الثيمة المؤسسة للرواية الغربية عن حماس كتنظيم “إرهابي” وإدانة هجومها الأخير دون تردد.
تكمن خطورة التساهل بتجريم حماس أو حتى بالموافقة الضمنية على تجريمها في مستويين: الأول استناد هذا التجريم بكامله للرواية الإسرائيلية التي يثبت كل يوم زيف تفاصيلها، بدءاً من بيان البيت الأبيض الذي زعم الاطلاع على أدلة تثبت قطع رؤوس الأطفال وعاد واعتذر عن عدم صحة الزعم، وليس انتهاء بتصريحات بعض الإسرائيليين ممن شهدوا ما حصل. هذا دون نقاش الإشكالية الأخلاقية والمنطقية الكبيرة باعتماد رواية قوة احتلال وفصل عنصري وتطهير عرقي ( على الأقل وفق منظمة العفو الدولية) ضد شعب تحت الاحتلال.
المستوى الثاني يتعلق باحتمال انسحاب هذا التجريم لهجوم الحركة يوم السابع من تشرين الأول على ما أسماه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن “طريق حماس” Hamas’s path. في حين ينظر غالبية العرب والمسلمين لطريق حماس كما ينظرون لطريق بقية الفصائل، أي باعتباره نهجا لمقاومة احتلال، يقدمه بلينكن بوصفه عدميا، بلا غاية يمكنه تعريفها. “هدف حماس الوحيد هو تدمير إسرائيل وقتل اليهود”. واعتبار حماس هنا مجموعة مقاومة ليس محصورا في العرب والمسلمين بحال، وليس الأمر رأيهم وانحيازهم مقابل رأي الغرب، فبعض من أبرز المؤرخين اليهود يعتبرون الحركة جماعة مقاومة، على رأسهم إيلان بابي. وفيما “يتردد” أستاذ التاريخ في أكسفورد آفي شلايم وصف الجناح العسكري، عز الدين القسام، بالتنظيم الإرهابي بالمطلق، مفضلا معاينة عملياته كلا على حدة وحصر استخدام المصطلح في العملية فقط لا في التنظيم نفسه، نجده يرفض تماما وصف الجناح السياسي لحماس بالإرهابي.
يقود التساهل في اعتبار حماس مجموعة إرهابية ضمن رواية جامعة، أو على الأقل يأمل الغربيون أن يقود، إلى تسييل المأساة الفلسطينية ككل في وعي المتلقي الغربي. فبمجرد تحول مجموعات المقاومة لتنظيمات إرهابية، ستغدو طبيعة الرد الإسرائيلي على عملياتها وجهة نظر تحتمل الرأي والرأي الآخر حتى لو شمل ذلك الرد قطع الماء والغذاء والدواء عن مليوني إنسان بين طفل وعاجز وعجوز لثلاثة أسابيع، فيما تقصفهم طائرات الإف ١٦ والصواريخ الموجهة “بدقة”.