المراسل- افتتاحية
فاجأت ما اصطلح على تسميتها عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في محيط قطاع غزة المسمى ب”الغلاف” ثلاثة أطراف قد تكون مفاجأتهم مقصودة: إسرائيل، حلفاءها الغربيين، وبعض الأقطار العربية، ولا يزال سياقها القريب غامضا، رغم علمنا بسياقها التاريخي منذ ١٩٤٨ وليس انتهاء ببدء العقاب الجماعي الذي يتعرض له سكان القطاع الأشبه بأحد معسكرات اعتقال الحرب العالمية الثانية.
يميل كثير من المتابعين للنظر لما حدث بوصفه تحركا موضعيا فرضته شروط الصراع بين غزة وإسرائيل وانحصرت به، متجاهلين أو متجنبين الالتفات لدور تفاعلات الإقليم والعالم فيما حدث. لكن فلسطين عموما، عبر تاريخها، لم تكن يوما بعيدة عن حسابات المنطقة المعقدة.
نظريا على الأقل، لا تحتاج غزة المحاصرة مبررا لتفسير المبادأة ضد القوة التي تحاصرها منذ عقدين. لذا غالبا ما يبدو سؤال “لماذا الآن” ملغوما. في غالب الحالات هو كذلك؛ إذ ينطلق طارحه من اعتراض مبدئي على فكرة المقاومة وجدواها.
رغم ذلك، بالإمكان دائما، ومن الواجب أيضا، أن يجري طرح السؤال بغرض الفهم، فالمواجهات بين حماس وإسرائيل في غالبها لها منطقها الخاص الذي يمكن استقراؤه. نعرف من كل اعتداء ورد فلسطيني مقابل أن هناك ديناميكيات لكيفية بدء الهجوم والهجوم المضاد بين الطرفين، تقضي ببدء الاعتداء إسرائيليا في الضفة أو في غزة ومن ثم رد حماس عليه.
على أن الديناميكية هذه المرة تبدو مختلفة؛ فالعالم يستيقظ على هجوم كاسح ومفاجئ لحماس. كاسح بكل مقاييس توازن القوة بين الطرفين. وهو فوق ذلك هجوم في العمق الاسرائيلي، أيضا تبعا لموازين القوة المعروفة، وغير مسبوق حتى بالمقارنة النسبية مع حرب رمضان ١٩٧٣.
تفاخر إسرائيل بتصديرها تكنولوجيا التجسس والمراقبة والاعتراض التقني للعالم أجمع، وتتلقى الى جانب ذلك دعما شبه مفتوح لتمتين دفاعاتها الجوية والأرضية من الولايات المتحدة، أعظم إمبراطورية عسكرية في العالم، ضد فصيل مقاوم محاصر جوا وبحرا وبرا. رغم ذلك تستيقظ الدولة المدججة بالسلاح حتى الأسنان على نكبة استخبارية وعسكرية لم تحدث على هذا المستوى في سائر حروبها مع العرب.
الثابت فيما يبدو أن ما جرى لم يكن وليد الصدفة، أي أنه ليس نتاج تطورات غير متوقعة في الميدان حولت عملية صغيرة محدودة لما يشبه الحرب والاجتياح والسيطرة الميدانية في قلب الضواحي الإسرائيلية. وحتى الآن، لا تزال غامضة تلك الكيفية التي مكنت حماس من فعل ما شهدناه. هل امتلكت تقنيات ساعدتها على تعطيل سائر أجهزة الإنذار والرصد الإسرائيلية؟ كيف استطاعت معرفة مواقع تواجد قادة كبار في الجيش الإسرائيلي من بينهم قائد ما يعرف بلواء “نحال” وهي كتيبة نخبة في سلاح المشاة، وقائد ما يسمى بوحدة “النخبة متعددة الأبعاد” المعروفة ب”الشبح”، تصفيتهم وأسر عشرات آخرين؟ هل وصل اختراقها الأمني والاستخباري للجبهة المعادية الى حد تجنيد مصادر إسرائيلية استمدت منهم ما يكفي من معلومات ليس فقط لتنفيذ العملية، بل والنجاح المدهش في إتمامها؟ لافتا كان شكل التحضير الإعلامي لحماس، وهو ما يشي، بدوره أيضا، بأن الحركة كانت بالفعل على دراية مسبقة وتحضير متأن ومتقن لكل ما شاهده العالم على الشاشات.
حتى الآن لا يزال غامضا كيف تمكنت حماس من فعل ما شهدناه.
إن كان ذلك صحيحا، وكانت حماس قد بدأت هذه العملية ودرست بالفعل أبعادها ومداها وتفاصيلها الدقيقة مسبقا، فالسؤال عن “لما الآن” يصبح أكثر معقولية.
لم يتضح في أي من تصريحات الحركة ما يوضح سبب التحرك الآن، لكن التوقيت لا يمكن تجاهله، فهو متزامن مع التسخين للتطبيع السعودي الإسرائيلي الذي زادت الأنباء عنه زخما عقب اللقاء الأخير لولي العهد محمد بن سلمان مع قناة فوكس نيوز وحديثه عن “الاقتراب كل يوم أكثر” من الاتفاق.
يحاول الأميركيون وبعض المؤسسات الإعلامية العربية وإسرائيل جميعا الربط بين تحرك حماس من جهة، ومسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، لكن ليس بغرض الفهم والتحليل وإنما بدافع التجريم والشيطنة. متابعة التصريحات الغربية وآخرها تحذيرات البيت الأبيض والخارجية الأميركية لقوى إقليمية من مغبة “محاولة استغلال الأزمة” والتنويه إلى اعتراض إيران على التطبيع في سياق الإشارة للدافع وراء العملية، كلها تصب في هذه الخانة. في الصحافة الليبرالية والمحافظة على السواء، السؤال عن الدور الإيراني كان ثيمة أساسية على امتداد اليومين الماضيين، آخرها جزم صحيفة “وول ستريت جورنال” المحافظة بأن مجمل العملية جاءت بضوء أخضر إيراني.
حتى في بعض الصحافة العربية لا يختلف الأمر كثيرا، إذ ينقسم المشهد بين مؤسسات إعلامية تحاول جاهدة تفادي هذا الربط ظنا بأنه قد يشوه العملية، وأخرى تحاول المحاججة بوجود مثل هذه العلاقة لنزع المصداقية عن التحرك.
على أن هذه الحلقة الجهنمية من فرض الأطر والمرجعيات الغربية أساسا في مثل هذه المحاكمات وإدخال العالم العربي في حمى الدفاع عن النفس يحتاج إعادة نظر جذرية، وعوض ذلك بالإمكان مقابلة الإجابة عن السؤال حول الدور الإيراني بطرح آخر على نحو مقلوب: ما المعيب والمجرم إن كانت حماس بالفعل قد تحركت بعد درجة ما من التنسيق مع إيران؟ ماذا في ذلك من حيث المبدأ؟
من غير المفهوم كيف لمثل هذا التعاون مع طهران، إن صح، أن ينال من زخم التحرك الأخير لحماس، وهي الحركة التي تواضع الغرب على تصنيفها بالإرهابية، وانجر الإعلام والرأي العام الغربيين خلف هذا التوصيف إلى حد إقامة التناظر بين الحركة وتنظيم القاعدة وبين الهجمات على إسرائيل وتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر كما تابعنا على شاشات الإعلام الغربي في الساعات الماضية. ماذا ستخسر حماس أكثر مما تخسره بالفعل بوضعها في خانة تنظيم الدولة الإسلامية؟ وماذا سيخسر القطاع من مثل هذا الربط بكل الأحوال، وهو الذي لا يحظى بكرم التعاطف الغربي إلا إن كان ضحية للقصف الإسرائيلي، وتنزع عنه صفته الإنسانية حالما قرر سكانه المقاومة.
نعم يمكن، بل من المرجح، أن مصالح الحركة المحاصرة تقاطعت مع مصالح إيران في لحظة ما، وهو من نوافل السياسة والمقاومة على امتداد التاريخ، تماما كما تقاطعت مصالح السعودية وإيران في محطة ما.
موضوعيا، بالنسبة لحماس والفلسطينيين كل وقت هو وقت ملائم للتحرك، يبقى أن هذا التحرك قد يأخذ فعالية أكبر أن دعمته قوة إقليمية ما. وبمعزل عن شكل ودوافع حسابات تلك القوة، لا ينبغي أن ينال مثل هذا التعاون من شرعية الدافع الفلسطيني بكل الأحوال. لا يغير ذلك أيضا في واقع أن التحرك ضد الحصار والاحتلال سلوك إنساني طبيعي غير مقيد بزمان ومكان ملائمين إلا ما تفرضه المعطيات الموضوعية على الأرض بالنسبة للخاضعين للاحتلال أنفسهم.
عربيا وغربيا على السواء، تقدم محاولات الوقوف في وجه التطبيع باعتبارها عدمية، وينظر للعملية الأخيرة واحتمالات ارتباطها بإيران بوصفها إحدى تلك المحاولات. لكن من يحدد أن كانت معارضة إقامة العلاقات العربية مع إٍسرائيل قبل حل القضية الفلسطينية فعلا عدميا؟ بالنسبة لحماس، إيران وفي إطار أي متابعة موضوعية للتطورات في المنطقة، ربما كان العكس هو الصحيح.
عربيا وغربيا على السواء، تقدم محاولات الوقوف في وجه التطبيع باعتبارها عدمية، وينظر للعملية الأخيرة واحتمالات ارتباطها بإيران بوصفها إحدى تلك المحاولات.
بالمجمل، تقوم فكرة التطبيع على افتراض مركزي عرضه نتنياهو في خطابه في الأمم المتحدة وتحدث عنه أيضا وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن في لقاءاته الصحفية: تسوية العلاقات العربية مع إٍسرائيل يجب أن تأتي متقدمة على أي حل النزاع مع الفلسطينيين، وعليه ينبغي فصل المسارات عن بعضها على نحو يدفع الفلسطينيين نحو اللحاق بالعرب والقبول بتسوية (لم تحدد شروطها بعد) وليس العكس.
بديهي أن من الطبيعي لحماس وعموم الفلسطينيين الخشية من إضعاف هذا المنطق، أن جرى تبنيه، لقدرتهم التفاوضية على إنجاز تحررهم.
بالنسبة لإيران، لا يحتاج الأمر الكثير من الدراية والذكاء لإدراك مبرراتها في معارضة التطبيع، فغاية الأخير ليس فقط عزلها عن بقية المحيط العربي المطبع، ولكن أيضا إعادة تعريفها كعدو أساسي للعرب (بدل) تل أبيب، وهو تكتيك أميركي اسرائيلي في الجوهر.
بالعموم، تروج واشنطن وتل أبيب لمنطق بسيط يرتكز على تقديم إيران باعتبارها أشد خطرا على المنطقة العربية من إسرائيل، وأن الخيار الأكثر “عقلانية”، والحال كذلك، هو الانحياز لتل أبيب وللمعسكر الأميركي الغربي لتأمين الحماية ضدها.
من ناحية موضوعية، ربما أملت مجمل القوى المعارضة للتطبيع، بما فيها حماس، أن تدفع العملية الأخيرة بالأطراف المقتنعة بمثل هذا المنطق لإعادة النظر في خلاصاتهم. في نهاية المطاف، ما هو الحافز لطلب الحماية من تل أبيب إن كانت الأخيرة عاجزة عن حماية نفسها من فصيل مقاوم بمعدات بدائية؟
على أن من المحتمل أيضا أن تؤدي عملية حماس للعكس؛ فقد تراها السعودية سعيا إيرانيا “تخريبيا” مناقضا لمصالحها، وتتعزز فناعتها تباعا بالاقتراب أكثر من المعسكر الأميركي. خطوة إن حدثت قد تهدد، إن لم تنه، على نحو مؤسف، كل الترتيبات التي حصلت في المنطقة خلال العام ونصف الماضية، بدأ باتفاق المصالحة بين الرياض وطهران، وصولا إلى محاولة إنهاء الخلاف في اليمن وسوريا.
هذا الاحتمال الأخير هو لب ما تريده الولايات المتحدة على ما يبدو. فالعملية وإن كانت تسببت بهز صورة إسرائيل كرأس حربة للمشروع الغربي في المنطقة، إلا أنها أيضا قد تعيد عقارب الساعة للوراء قليلا، وتجذب السعودية مجددا إلى دائرة النفوذ الأميركي بعد ما بدا أنها تنزاح ولو ببطء نحو الشرق بدأ بمبادراتها المتتالية لإطفاء الصراعات مع إيران في سوريا واليمن، تقوية العلاقة مع الصين وروسيا، بالتوازي مع رفض الطلبات الأميركية المتكررة بخفض أسعار النفط لدعم حلفائها الغربيين في مواجهتهم لروسيا.
فالعملية وإن كانت تسببت بهز صورة إسرائيل كرأس حربة للمشروع الغربي في المنطقة، إلا أنها أيضا قد تعيد عقارب الساعة للوراء قليلا، وتجذب السعودية مجددا إلى دائرة النفوذ الأميركي بعد ما بدا أنها تنزاح ولو ببطء نحو الشرق
ثمة أمال معلقة على هذه العملية يصعب التكهن بواقعيتها، كأن تخلخل ثقة التحالف الغربي بإسرائيل التي أظهرت ترهلا أمنيا غير مسبوق رغم مليارات الدولارات التي تنالها سنويا من أموال دافعي الضرائب في الولايات المتحدة وأوروبا.
لكنه يبقى احتمالا ضعيفا. فالعلاقة الغربية الإسرائيلية متجاوزة للبعد البراغماتي، وتشمل فيما تشمل جملة من المشتركات الثقافية والعقائدية أيضا. يدلل على ذلك مسارعة واشنطن لتأكيد التزامها بأمن إسرائيل وإرسال المعدات العسكرية، القطع البحرية والذخيرة لتل أبيب بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على بدء الهجوم، رغم أنها، أي واشنطن، غارفة في دعم صراعين عسكريين كبيرين في أوكرانيا وأذربيجان، دع عنك الدعم والنشاط الاستخباري لصراعات أخرى في أفريقيا، وحربها الباردة مع الصين. يدلل عليه أيضا مسارعة الاتحاد الأوروبي لتجميد المساعدات المالية ليس فقط عن غزة، بل والضفة الغربية أيضا.
إن كان ثمة نتيجة مؤكدة حتى الآن “لعملية الغلاف” فهي تعزيزها القناعة لدى الشارع العربي أن بالإمكان ليس فقط نظريا، بل عمليا وواقعيا إرباك هذا المارد المدجج بأرقى صنوف التكنولوجيا الحربية والكشف عن نقاط ضعفه وهشاشته.
تاريخيا، ربما انضم هذا الإنجاز العسكري إلى مجمل الانتصارات العسكرية العربية المتفرقة في الصراع الممتد مع إسرائيل منذ بدايات القرن العشرين من معركة الكرامة إلى حرب العبور إلى الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني. لكن التحدي الأساسي الذي يواجه مثل هذه التحركات العسكرية هو القدرة على نقلها من عتبة الإنجاز العسكري إلى أفق الانتصار في المضمار السياسي، فالتجارب السابقة تشير إلى أن الجانب الإسرائيلي يعرف، ويحسن، تفريغ الانتصارات العسكرية من مضمونها عبر الحيلولة دون تحولها لرافعة لانتصارات في حقل السياسة.