عمان، الاردن- روان بيبرس
كأي شاب، أنهى “مراد” متطلبات الشهادة الجامعية في تخصصه، المحاسبة. بحث عن عمل، عثر عليه، وبدا أنه شرع برحلة حياته المهنية لتوه. لم يمض وقت طويل حتى تغير كل شيء.
“مراد”، وهو اسمه المستعار بناء على طلبه حفاظا على خصوصيته، ببساطة لم يكن سعيدا بعمله كمحاسب. الشاب البالغ من العمر ٢٩ عاما، كان بدأ حياته كعازف هاوٍ على آلة الغيتار، يصوّر المقاطع ويحمّلها على قناته في منصة اليوتيوب كوسيلة للتعبير عن الذات. هذا الشغف تحول إلى هاجس بالاستقلال، فكان أن استقال من عمله وتفرغ، كما ملايين الشبان حول العالم، لما بات يعرف ب”صناعة المحتوى” على “يوتيوب”.
حاول “مراد” في السنتين الأخيرتين تطوير أسلوبه على القناة. استثمر في آلات التصوير والصوتيات لإنتاج مقاطع فيديو بجودة أعلى. مع الانتظام في مشاركة المحتوى أسبوعياً، تخطت مشاهدات القناة ٢٠ ألفا في الشهر. كنتيجة، يحصل الشاب العشريني من موقع “يوتيوب” على ٢٠٠ دولار شهرياً مقابل عرض إعلانات في بداية أو منتصف مقاطعه المصورة.
لكن ال ٢٠٠ دولار لا تمثل دخلاً صافياً ل”مراد”، فاليوتيوب تقتطع 45% من هذا المبلغ ليبق له ١١٠ دولاراً.
لحسن الحظ، بدأ مراد بالتعاقد من وقت لآخر مع بعض العلامات التجارية لرعايته أو للترويج لمنتجاتها. الآن، يقول إنه يحصل في الأشهر “الجيدة” على حوالي ٣٠٠ دولار إضافية، ويصل دخله إلى نحو ٤٠٠ دولار في الشهر.
قد يبدو ما يجنيه هذا الشاب مبلغا جيدا كعمل إضافي جانبي، لكن ماذا إن كان ذلك مصدر الدخل الوحيد؟ هل يكفي مثل هذا المبلغ لتأسيس حياة مستقرة دون ادخارات، تأمينات اجتماعية وتأمين صحي؟ هل أصاب مراد ومن مثله باستقالته من عمله الثابت كمحاسب في إحدى الشركات مقابل التفرغ لصناعة المحتوى؟
مع نهاية عام ٢٠٢٢، وصل عدد صناع المحتوى على وسائل التواصل، أو من باتوا يسمون ب”المؤثرين” ٢٠٠ مليون حول العالم وما يزال الاهتمام بالانضمام إلى هذا العالم يتوسع على نحو عابر للأعمار والأجناس، وربما الثقافات والبلدان. في نهاية المطاف، تبدو صناعة المحتوى لوسائل التواصل سبيلا ملائما للثراء السريع والمرونة العالية والاستقلالية في ساعات العمل بعيداً عن محددات الوظيفة والعلاقات المتوترة بالمدراء.
بالفعل، تقدّر قيمة السوق العالمية للمؤثرين بحوالي ٢١ مليار دولار لعام ٢٠٢٣. مجلة فوربس الأمريكية وصفت أرباح صناع المحتوى حول العالم بغير المسبوقة، معتبرة أن جل ما ينتجه الأعلى دخلاً يقع ضمن ما يعرف بصناعة الترفيه.
تبقى نماذج الناجحين والأثرياء هي الدليل الذي يقدمه الداخلون الجدد لقطاع “التأثير” على جدوى هذا النشاط. قناة الطفلة الروسية “ناستيا” البالغة من العمر سبع سنوات والتي يتابعها أكثر من ١٠٠ مليون متابع، مثلا، وصلت أرباحها إلى ٢٨ مليون دولار. واحتل صانع المحتوى الأميركي ذو ال٢٣ عاما والمشهور ب “مستر بيست” المركز الأول عالميا في صناعة المحتوى على “يوتيوب” بعدد مشاهدات لقناته تخطى ١٠ مليارات دولار، وبأرباح تجاوزت ٥٤ مليونا.
عربياً، تبدو الصورة مشابهة إلى حد بعيد.
في الكويت، برز صانع المحتوى حسن سليمان المشهور ب”أبو فلة“، والمعروف بمبادراته الخيرية وأشهرها جمعه مليون دولار لصالح اللاجئين. ثمة أيضا الزوجان السوريان “أنس” و”أصالة” اللذان يتمحور إنتاجهما حول مشاركة حياتهما اليومية في الولايات المتحدة. ورغم أن الفيديو الذي شاركته الزوجة عن جنس مولودها على برج العرب تسبب بكثير من الجدل إلا أنه عاد عليهما بمشاهدات وصلت – حتى كتابة هذا المقال – إلى ٤٤ مليونا.
على السطح، تبدو تلك الأرقام المليونية مغرية بترك العمل، تغيير مسار الحياة والجري خلف حلم الثراء من الإعلام الاجتماعي، على أن نظرة متفحصة على البيانات قد لا تدعو للتفاؤل.
على السطح، تبدو تلك الأرقام المليونية مغرية بترك العمل، تغيير مسار الحياة والجري خلف حلم الثراء من الإعلام الاجتماعي، على أن نظرة متفحصة على البيانات قد لا تدعو للتفاؤل.
حسابات معقدة
بحسب موقع “لينك تري” الربحي المتخصص بالإعلام الاجتماعي، فإن “المبتدئين” في صناعة المحتوى هم ممن لا تتجاوز خبرتهم السنة في هذا المجال. بناء على إحصائيات الموقع فإن ٥٩% منهم لم يجنوا دخلاً بعد، وستة بالمئة فقط منهم يصلون لمردود يناهز ١٠ آلاف دولار سنوياً.
يحتاج صناع المحتوى من حديثي العهد لسنوات في مرحلة التأسيس دون مقابل بغية بناء قاعدة جماهيرية، وستة أشهر كحد أدنى لكسب أول دولار.
بالفعل، تحدثت إلى صانع المحتوى والرحالة الأردني “قاسم الحتو”، صاحب قناة ابن حتوتة المختصة بالسفر والتجوال للاطلاع على تجربته في تطوير محتواه. تضم قناة هذا الشاب أكثر من مليون مشترك وتتجاوز مشاهداتها ١٣٠ مليونا على اليوتيوب فضلا عن أكثر من مليونين ونصف متابع على فيسبوك.
تفرغ “حتو” لصناعة المحتوى عن السفر والترحال منذ عام ٢٠١٨. يقول إنه لم يحصل على أي مردود في عامه الأول، وكان يمّول رحلاته حتى في السنة الثانية، وينبه إلى أن العائد من قناته على “يوتيوب” ١٠٠لم يتجاوز -٢٠٠ شهريا.
في أحيان أخرى، قد يمتد الوقت بصانع المحتوى لأكثر من ثلاث سنوات قبل جني المال. ريم أبو غضيب، المعروفة بكتاباتها النثرية على “إنستجرام”، تقول إنها أمضت أكثر من ثلاث سنوات قبل البدء بتلقي العائد المالي من أعمالها. شرعت “أبو غضيب” بصناعة المحتوى في ٢٠١٦ وغيرت موضوعاتها التي تركز عليها عدة مرات قبل استقرارها على كتابة النصوص في ٢٠١٩. الآن يبلغ عدد متابعيها نحو ١٩٠ ألفا.
لكن تخطي المشاهدات في بعض الأحيان لحاجز المليون قد لا يدر ما يطمح له صانع المحتوى من دخل.
إحدى ما بات يعرف ب”المؤثرات” اللائي التقيتهن لغرض كتابة هذه المادة تقول إنها لا تزال تراوح ما أسمته “مرحلة التأسيس” رغم ملايين المشاهدات على حسابها على “إنستجرام”، ونحو ١٤٠ ألف متابع لصفحتها. لا تجنِ إلا القليل من الدخل المتذبذب، لكن الجهد والوقت والدعايات المجانية التي تقوم بها، على ما ترى، تعد استثماراً تأمل بأن يعود عليها بالدخل المرجو مستقبلا.
في المقابل، يشيع في أوساط صناعة المحتوى أن الدافع الاقتصادي ليس بالضرورة المحفز الوحيد للإنتاج. يصف صانع المحتوى زيد نزال نفسه بأنه “متحدّث” ويرى أن المردود المعنوي مهم جداً بالنسبة له، “فالتأثير وإلهام الناس” محرّك أساسي لمواصلة صناعة المحتوى. على الرغم من جنيه مردوداً من الإعلانات والاستضافات، إلا أن “نزال” يقول إنه يستمتع بالتواصل مع متابعيه على انستجرام الذين يقترب عددهم من مليون متابع.
مضافا لكل ذلك، يبدو أن التواجد المستمر، الظهور، وسعة الانتشار على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت رافعة للمكانة الاجتماعية لبعض صانعي المحتوى. بريق الشهرة والاهتمام له وزنه في منصات يقضي عليها الناس الكثير من الوقت. “شعور جميل أن يسلّم عليك الناس في الأماكن العامة ويعبرون عن استمتاعهم بمشاهدة محتواك” يقول “نزال”.
حلم في متناول القلة
إمكانية الوصول لحلم الشهرة والثراء الناجم عن صناعة المحتوى تبدو فكرة رائجة في أوساط الشباب والمراهقين، إذ يعد إنتاج المحتوى لوسائل التواصل مقابل المال، أو ما يسمى أحيانا ب”التأثير” واحدا من أكثر الأعمال جذبا للشبان، على الأقل في بعض البلدان الغربية. ٨٧٪ من الشبان من جيل الألفية والجيل الذي يليه يقولون إنهم على استعداد لنشر المحتوى على وسائل التواصل مقابل المال.
فجوة كبيرة بين الذين يجدون مسارات مربحة كمؤثرين وبين الغالبية العظمى التي لا يحالفها الحظ.
لكن هذا الانطباع الذي تروجه في الغالب شركات التسويق الرقمي المستفيدة من الجهود الجبارة التي يقدمها صناع المحتوى يبدو في حاجة لمراجعة دقيقة. إذ يبدو أن ثمة فجوة كبيرة بين الذين يجدون مسارات مربحة كمؤثرين وبين الغالبية العظمى التي لا يحالفها الحظ.
بالنسبة لمعظم الذين يحاولون أن يصبحوا مؤثرين، غالباً ما تتحول مشاريعهم الشغوفة إلى عمل مجاني لكبرى العلامات التجارية، تقول “بروك أرين” الباحثة في اقتصاد وسائل التواصل الاجتماعي والتي درست وتتبعت تجارب لمدوني وصناع المحتوى الاجتماعي في مجالي الجمال والأناقة.
وضعت “أرين” كتابا في الأمر يحمل عنوانا دالا: ” أن (لا) تحصل على مقابل لفعل ما تحب”.
في نيسان ٢٠٢٢ أصدرت لجنة الإعلام والثقافة والرياضة في البرلمان البريطاني تقريراً رصدت فيه ظاهرة تفاوت الأجور في صناعة المحتوى على أساس الجنس والعرق، وأوردت اللجنة في تقريرها نتائج بحث قامت به شركة العلاقات العامة MSL في عام ٢٠٢٠ وجدت فيه أن فجوة الأجور بين المؤثرين البيض والمؤثرين الملونين من ذوي الخلفيات العرقية والثقافية المختلفة بلغت ٢٩%. وعند التركيز بشكل خاص على الفجوة بين المؤثرين البيض والسود، وصلت ل٣٥%.
تعتمد الأرباح المليارية لشركات التواصل الاجتماعي على ما ينتجه “صناع المحتوى” بشكل أساسي، فالاخيرون هم الوقود الذي يحرك عجلة الإعلان على مواقع “فيس بوك”، “إنستغرام”، “يوتيوب” وغيرها. لكنهم، أي أؤلئك المؤثرين، قد لا يتلقون عوائدهم من الشركات ولكن من المعلنين، كما أنهم لا يحظون بأي ضمانات وتأمينات لعملهم من قبل تلك الشركات.
“لا استطيع وصفه بالعمل الجيد” تقول “اميلي هد” الباحثة الأكاديمية التي وضعت كتابا مخصصا للظاهرة حمل عنوان “صناعة التأثير“.
“أؤلئك ممن يتلقون عقودا بملايين الدولارات ليسوا سوى عينة مجهرية صغيرة جدا من صناعة هائلة. ثمة الكثير من الديناميكيات الإشكالية عرقيا وجنسيا، وثمة الكثير من انعدام المساواة بين المؤثرين والمنصات نفسها”، تقول الأستاذة في جامعة بنسلفانيا الأميركية.
تشير “هد” إلى أن انعدام الأمان المهني للمؤثرين يتأتى بشكل رئيسي من الخشية الدائمة من خسارة حساباتهم أو تراجع حضورها لأسباب خارجة عن سيطرتهم بالكامل، فالشركات لا تقدم ضمانات لمستخدميها بهذا الخصوص، وتغير الخوارزميات على نحو غير شفاف يظل كابوسا يهدد مجمل الوضع الاقتصادي للمؤثرين، إذ قد ينعكس سلبا على أعداد المتابعين وطريقة اندماجهم مع المحتوى المقدم على نحو مفاجئ.
وليس هذا فحسب، فأجور المؤثرين تتفاوت حسب موقعهم الجغرافي الذي يعملون منه.
وفقًا لتقرير Influencer Marketing Hub في ٢٠٢٠، وصل متوسط تكلفة المنشور للمؤثرين في الولايات المتحدة ١,٦٤٢ دولار، بينما كانت التكلفة لمؤثري الهند ٤٧٦ دولار. كما وجد التقرير أن متوسط تكلفة منشور مؤثر في أوروبا كانت نحو ١٠٠٠ دولار، بينما كانت ٩٠٠ دولار في منطقة جنوب شرق آسيا.
على الرغم من وجود بند “تحديد المنطقة” في حاسبة Google AdSense لاحتساب المردود المتوقع من المشاهدات، يبرر البعض أن الأمر أكثر تعقيداً وأقل عنصرية مما يبدو للوهلة الأولى. فالتسعير يعتمد على العرض والطلب، إذ تزيد نسب الأقبل على الإعلان وتزيد تباعا أجوره في الدول التي يرتفع فيها معدل دخل الفرد، وتقل في الدول التي تنخفض فيها تلك المعدلات.
تختلف تسعيرة اليوتيوب لكل مشاهدة بناءً على عوامل مثل الموقع الجغرافي للمشاهد، ونوع الإعلان، القطاع المستهدف، والتفاعل، وأداء القناة. وتعتمد آلية الدفع على CPM (التكلفة لكل ألف مشاهدة)، أي المبلغ الذي يدفعه المعلنون مقابل عرض الإعلان ألف مرة على يوتيوب.
هناك تنوع واسع في تسعيرات اليوتيوب لCPM، افي المناطق ذات القوة الشرائية والتنافسية الإعلانية، مثل الولايات المتحدة وكندا، يمكن أن تصل عائدات الألف مشاهدة من ٦ إلى ١٠ دولارات فأكثر تماشياً مع القوة الشرائية للجمهور والطلب العالي على الإعلان.
في المقابل، دول مثل الهند وإندونيسيا تتمتع بأسعار CPM أقل، تتراوح بين ٥٠ سنتا إلى دولارين، نظرًا لاتساع قاعدة المشاهدين والتنافسية الإعلانية أقل نسبيًا. تؤثر هذه التباينات على عائدات الألف مشاهدة، لكنها تتأثر بعوامل مثل حجم السوق وتوجهات الجمهور وطبيعة المنافسة في تشكيل عائدات صناع المحتوى.
بهذا المعنى، يتأثر المردود على إنتاج المحتوى بالانقسام الاقتصادي في العالم بين دول غنية وفقيرة، حيث يجني مدونوا وسائل التواصل في الدول الثرية مردودا أعلى بعشر مرات أحيانا من نظرائهم في الدول الفقيرة.
يتأثر المردود على إنتاج المحتوى بالانقسام الاقتصادي في العالم بين دول غنية وفقيرة، حيث يجني مدونوا وسائل التواصل في الدول الثرية مردودا أعلى بعشر مرات أحيانا من نظرائهم في الدول الفقيرة.
قطاع مُجدٍ فعلاً؟
والحال كذلك، لا يعتمد الكثير من صناع المحتوى على وسائل التواصل على إنتاجهم لتغطية التزاماتهم المالية، لذا يلجأون لقنوات دخل أخرى.
لا يحصل أي من “ريم ابو غضيب” أو “زيد نزال” على مردود مباشر من منصات “الانستجرام” و”التيك توك” على الرغم من حصد ملايين المشاهدات، لكن المحتوى الإعلاني sponsered للترويج لعلامة تجارية أو منتج معيّن والإعلانات المدفوعة هي ما يعود عليهم وعلى الكثير من صنّاع المحتوى بالدخل الموسمي. صحيح أن صناعة المحتوى تعد عملا حرا يوفر المرونة والاستقلالية، إلا أن الدخل المتأتي عنها يبقى متذبذبا ولا يشعر صاحبه بالأمان.
بالنسبة ل”قاسم الحتو” فلا يعتمد فقط على عائدات مشاهدات اليوتيوب. يتعاون قاسم مع هيئات تنشيط السياحة الحكومية لبعض البلدان، ويُستضاف استضافات مدفوعة في بعض الفعاليات والأنشطة، كما يقوم بتقديم بعض البرامج التلفزيونية، وتنظيم رحلات سياحية وتجارب مغامرة لمتابعيه.
يذهب البعض لمستوى آخر بتأسيس علامتهم التجارية الخاصة والترويج لها، خاصة في مجال الأزياء والمكياج وتقديم استشارات اللياقة. لكننا نلاحظ في جميع القنوات السابقة أنها جاءت “كنتيجة” لاحقة لوجود عدد كبير من المتابعين وقاعدة جماهيرية يمكن الاستناد عليها.
الصحة النفسية وصناعة المحتوى
ليست صناعة المحتوى لوسائل التواصل بالعمل السهل كما قد يبدو. فلجذب المعلنين والمتابعين معا، يصبح التنافس محموما ليس فقط على الحضور الدائم وعدم الغياب، بل أيضا تجويد الصورة التي يظهر بها “المؤثرون” من الناحية التقنية والصوتية وهو ما يتطلب تفريغ ساعات في التصوير، وإعادة التصوير، اختيار اللقطات والأماكن، تحضير النص ولاحقا المونتاج. كل ذلك يحمل معه متاعب ذهنية ونفسيه تبدو غائبة عن النقاش العام.
أكثر من نصف الكوكب، ٤.٥ مليار إنسان، لديهم حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي. قاد هذا الحضور الطاغي الباحثين إلى محاولة تبين العلاقة بين الاكتئاب، القلق والاحتراق الذهني من جهة واستخدام وسائل التواصل من أخرى. تشير غالبية الدراسات إلى وجود علاقة بين الأمرين، إذ تدفع وسائل التواصل الأفراد إلى مقارنة حياتهم بالآخرين، تكوين صور سلبية عن ذواتهم، أجسادهم، إطلالتهم، ومساراتهم المهنية والعاطفية. المراهقون والبالغون في مراحل العشرين، تقول أرقام مركز الوقاية من الأمراض الأميركي، هم الأكثر عرضة لهذه الأزمات النفسية.
لكن غالبية تلك الدراسات تبحث في أثر الاستخدام على مستهلكي المحتوى المنتج على منصات التواصل، تحديدا الغربيين منهم، وبنسبة أقل بكثير على منتجيه، دع عنك منتجيه العرب أو أؤلئك الموزعين على العالم “النامي”.
منذ ٢٠١٧ على الأقل بدأت بالانتشار تلك المدونات والأخبار التي تحدثنا عن حالة الملل واللاجدوى والاحتراق التي وصل لها بعض المؤثرين. الأميركي “جوش اوستروفسكي” صاحب الحساب المعروف ب The fat jew على إنستغرام بمتابعيه العشرة ملايين، أقر قبل ست سنوات بمعاناته وكثيرين مثله من “الاحتراق” للإيفاء بمتطلبات إنتاج المحتوى على وسائل التواصل، وسعيه نحو الاستثمار بحياة “حقيقية”.
يؤدي التواجد الدائم والاتصال بالإنترنت إلى ما يعرف ب”الاحتراق” حيث تغيب الخطوط الفاصلة بين الحياة الخاصة والعمل، ويصبح صانعوا المحتوى على موعد مع أشغالهم أينما كانوا، أثناء الإجازات، النزهات، في المطاعم وغيرها، تطاردهم الحاجة لإنتاج مادة جديدة لتغذية حساباتهم والإبقاء على زخم المتابعات.
“لسهولة الاتصال وتواجد الهواتف بين أيدينا، قد ينتهي المطاف بصناع المحتوى بالعمل 24 ساعة” تخبرني صانعة المحتوى “ريم ابو غضيب”. بالنسبة ل”الحتو” كان الحل بالانقطاع لشهرين عن حسابه نتيجة “الاحتراق”.
صحيح أن الظهور والشهرة تجلب مردوداً مادياً وتعاقدات مع الشركات والعلامات التجارية، إلا أنها جميعا برسم التعرض للتعليقات المسيئة والتنمر الإلكتروني الذي يتعرض له صناع المحتوى بشكل روتيني مخلفا آثارا نفسية لا يبدو أن الدراسات قد عالجتها بعد بالعمق المطلوب. يشكو بعض المؤثرين من تعليقات جارحة ومهينة يمكن أن تنتهي بالبعض منهم في صراع مع مشكلات صحية نفسية وجسدية، تصل حد الاكتئاب واضطرابات الأكل والنوم.
في حديثي مع “المؤثرين” الذين التقيتهم لأغراض صياغة هذه المادة، كان لافتا إجماعهم على أن العمل في صناعة المحتوى ليس مستداماً. كل من “ريم أبو غضيب”، “قاسم الحتو” و” زيد نزال” ينظرون لمنصات التواصل الاجتماعي باعتبارها محض محطة لتحسين الدخل وبناء قدر ما من الادخار يعينهم على تأسيس مشاريعهم الخاصة.
هذه الاستراتيجية تأتي استجابة للسؤال المؤرق الذي، تقول “ريم”، يشيع في أوساط الغالبية من هذه الفئة: ماذا سنفعل لو اختفت مواقع التواصل الاجتماعي؟ احتمال يراه “زيد نزال” واردا جداً “، ف”الشهرة السريعة قد تعني زوالاً سريعاً أيضاً”.
روان بيبرس مدوّنة وعاملة في المجال الإنساني، حاصلة على ماجستير في دراسات الهجرة والتنمية من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن. مهتمة بالقضايا البيئية والقصص الإنسانية.