دروب المتاهة: من نحن في المهجر، من نحن في الوطن

واشنطن\عمان- مجدولين حسن

ترجمتها للعربية تقوى مساعدة

  “الشاطئ يعلو ويهبط ودوي النهر يغور ويطفو. كنت أرى أمامي نصف دائرة. ثم أصبحتُ بين العمى والبصر، كنت أعي ولا أعي. هل أنا نائمٌ أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ … وفجأة، رفعتُ قامتي في الماء، تلفّتُّ يمنة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضيّ ولن أستطيع العودة.”

الطيب صالح

موسم الهجرة للشمال


أستذكر شهر كانون الثاني\ يناير للعام ٢٠١٣ عندما حظينا أنا وأسرتي بفرصة الهجرة من مدينتنا، عمّان، إلى العاصمة الأميركية، واشنطن. عقد عملٍ صحفيٍّ في إحدى المؤسسات  الإخباريّة، بدا لنا نافذة على عالم جديد.

قبل المغادرة، بعنا سيّارتنا وأثاثنا، جمعنا مدّخرات حياتنا الزهيدة وانتقلت انا وطفلي، ذو السنة ونصف حينها، للإقامة في بيت أهلي طمعا في بضعة أيام إضافية من دفء كان يفصلني شهر عن افتقاده مع إقلاع طائرة باتجاه واحد إلى ما وراء الأطلسي.

دافئة كانت ليالي الشتاء، وداعمة كانت عائلتي لقراري بالرحيل، فاحتضنت إقامتنا المؤقتة. وسعيدا كان ابني الصغير طوال الوقت الذي امضاه مع أبناء خالته.     

تلك الغبطة الطفلوية ستستحيل لاحقا إلى هاجسٍ لم يفارقني لسنوات.

منذ اللحظة الأولى على متن الطّائرة التي أقلعت فجر يوم شتوي بارد، أخذ ابني يناجي أبناء خالته بالقليل من الكلمات التي تعلمها للتو. يلح بالبكاء: “بدي انزل، بدّي زكي وعبود وتيتة”. تبادلنا أنا ووالده نظرات الحسرة والحيرة. كأننا أدركنا للتو فداحة السير في طريق باتجاه واحد. مذاك، لم أستطع الوصول إلى إجابة تخفف من وطأة الارتباك الذهني: هل كانت هجرتنا تلك نعمةً أم نقمة؟

دعونا نعود إلى أصل القضيّة: لما يهاجر النّاس؟ لما تقرّرٌ امرأةٌ مثلي، عند أحد منعطفات دروب العمر أنّ من الأجدى أن تمضي، مخلفة وراءها بيت عائلتها الذي احتضن سني عمرها التي جاوزت الثلاثين، البيت الذي تزوّجت فيه، شوارعَ الطّفولة في حيها، إخوتها وأخواتها. تودع أصدقاءها وتتنازل عن شبكة دعمها الاجتماعية بعد عقود من تشييدها، ظنًا أن الحياة على بعد آلاف الأميال ستبعث على رضى وامتلاء، تصورت انها تحتاج المزيد منه؟  

هل نحن المهاجرون أشجع من غيرنا ولذا نعثر على فرص من هذا النوع؟ أم أننا حمقى نلقي بأنفسنا للمجهول؟ هل نتمتّع بميزة حصرية، أو جينات تصّنفنا في فئة الرّاحلين أو المغادرين أو الجوّالين؟  أم أنّنا وجدنا بكلّ بساطة أرواحًا وأجسادًا، وآفاقًا للمستقبل في شتاتِ الهجرة؟ وجدتُ أن الأمر يتلخّص بثلاث كلمات: “الدّافع” و”الهدف” و”السبب”، أي منها كفيل بدفعنا نحو البحث عن حيز جديد على هذه الأرض.

هل نحن المهاجرون أشجع من غيرنا ولذا نعثر على فرص من هذا النوع؟ أم أننا حمقى نلقي بأنفسنا للمجهول؟ هل نتمتّع بميزة حصرية، أو جينات تصّنفنا في فئة الرّاحلين أو المغادرين أو الجوّالين

بداهة، يهاجر الناس لأسباب اقتصادية، نفسية، اجتماعية وسياسية، تخبرنا الدراسات. أدرك أنا الآن حجم سذاجتي إذ تصورت قدرتي على الإنجاز فيها جميعا، والامتلاء بها جميعا؛ على أكل الكعكة كاملة. لكننا فريدون أيضا، كل حسب سياقه، في اللجوء للهجرة. “كل إنسان عالم مختلف، كل إنسان يفكر بطريقة مختلفة” تقول استاذة علم الاجتماع في جامعة كورنيل الأميركية جاريب فيليز في كتابها “في الترحال“.

اصطفّ المسافرون (الذين يحملون التأشيرة) في طابور طويل بانتظار أن يختم لهم موظّفُ الجمارك جوازاتِهم ويسمح لهم بالدّخول إلى “العالم الجديد”. حدّثتني نفسي بأن لكلّ واحدٍ سببه للمجيء أو المغادرة أو الرّجوع أو الهرب، وتبعا لكل من تلك الأسباب قد يقدم بعضنا على خيارات جذريّة. فاحش الثّراء قد يغادر طامحًا للمزيد منه في سوق رأسمالية حرة. الأسرة الفقيرة قد تبحث عن فقر أقل وطأة. السعيدة الموسرة ربما أمِلت بقدر أفضل لأجيالها القادمة، وقد يهرب كسير الفؤاد لمهجره طالبا النسيان، أو مفتشا عن الحب.

أمّا أنا فقد كنتُ في المنتصف بين كل ذلك.

لم أكن جاهزةً بعد للتخلي عن كل ذكرياتي من أجل المغامرة. لم امتلك أحلام الجوّالين المتطرّفة، ولا تطلعت لما ترجوه القلوب الوحيدة. نعم، كنتُ مستعدةً لحياة جديدة، ولكنني كنتُ أعرفُ أنني تركتُ خلفي قطعًا أخرى من قلبي.

نظرتُ إلى نفسي وإلى رفيقي  وإلى ابني؛ كان شكلنا مختلفاً

كنا غريبين، منهكين وشاحبين. ظننتُ أنّها وعثاء السفر الطّويل، على أني سأدرك لاحقاً أنها الصِّبغة التي ستلون أجسادنا منذ خطواتنا الأولى على هذه الأرض.

كان ابني لا يفضل الجلوس الا في أحضاني رغم إلحاح والده على أخذه. اقتربنا من نقطة التّفتيش وهو بين ذراعي، أشار الضابط على زوجي بأخذ الطفل ليريحني. لم أكن أحتاج تدخله، لكن إشارته أسعدتني لسبب ما. تفاءلت بالقادم، ثم سرعان ما تبخّر تفاؤلي عقب مغادرتنا المطار صفر اليدين إذ بقيت حقائبنا عالقة في أحد المطارات لأسبوعين. 

قضيت عشرة سنوات في الولايات المتّحدة في حالة من الإنكار أنني هاجرتُ بالفعل جسديًا واجتماعيًا وعاطفيًا. تركتُ بلادي، حصلتُ على الجنسيّة في هذا البلد الجديد، كان ابني في السّنة الثانية من عمره حين غادرت، وبات عمره الآن إحدى عشرة سنة. اشترينا بيتًا برهنٍ عقاري ستنتهي دفعاته بعد ثلاثين عام. عملت في الولايات المتحدة، درست الماجستير في جامعتها، وعشتُ ما كنتُ أحسبه حياةً أمريكيّة “طبيعية”. كان من الممكن أن أنجز أكثر لو كان بوسعي أن أنجو من أمواج الاكتئاب والغمّ والعزلة التي كانت تغلبني بسببٍ أو بدون. قضيتُ ساعات كثيرة في حزنٍ مكتوم، غير قادرةٍ على الاستمتاع بجمال الطّبيعة وسهولة الحياه الأمريكية الممنهجة؛ أكابد الشّوق المستمرّ لبلاد تركتها طائعة. كنت أنا تماما كالقادمين الجدد الذين حدثتنا عنهم الكاتبة المصرية المهاجرة إيمان مرسال في ديوان” جغرافية بديلة” :

هنا أيضاً أشجار خضراء تقف تحت ضغط الثلج وأنهار لا يتعانق بجانبها عشاقٌ خلسة

بل يجري بموازاتها رياضيون مع كلابهم في صباح الأحد، دون أن ينتبهوا للمياه التي

تجمدت من الوحدة. ومهاجرون لم يتدربوا على محبة الطبيعة ولكنهم يصدقون أن نسبة

التلوث أقل وأن بإمكانهم إطالة أعمارهم بمضغ الأوكسجين قبل النوم عبر كبسولاتٍ هوائية.

  في كل زيارة لعمان، كنت أمازح معارفي المفتونين بجمال شمال فرجينيا -حيث أقيم- الساحر بإن ” الجنة بدون ناس ما بنتداس”. طالما أطلقت العنان لخيالي واستسلمت لأحلام يقظتي اللذيذة باجتثاث عائلتي، معارفي وأصدقائي، سياقي التاريخي بمراحل الطفولة والشباب ومشارف منتصف العمر من عمان، وزرعهم جميعا هنا، بحرص المزارع في وضع الفسيلة الصغيرة في تربة جديدة. هنا إلى جانبي في وطني الجديد.

لا شك أنني أخذت نصيبي الوافر من الشك الذاتي في قدرتي على التحمل، فربما كنت، كما يقال لمن هاجر  وكابده الحنين المزمن، ” مش خامة غربة”. بحثت، قرأت، وخلصت إلى ان التبعات النفسية للهجرة ليست مشكلتي وحدي، ولكنها سمة تجمعنا نحن القادمون من الشرق الأوسط، بالتحديد من أنتمي لهن، النساء، على ما تشير الأوراق العلمية المتراكمة حول الأمر. القلق والاكتئاب والكرب العاطفي أبرز ما تعانيه هذه الفئة. تقول الأرقام إن احتماليّة الإصابة بالاضطرابات النّفسيّة بين المهاجرين من الشرق الأوسط، هي أكثر من ضعف احتماليّة الإصابة بها بين بقية الأمريكيين على المستوى الوطنيّ.

إحدى الأوراق الأكاديمية تخبرني بوضوح أن الكرب النفسي في صفوف المهاجرات من الشرق الأوسط هو الأعلى مقارنة  بالنساء الأمريكيات من العرق الأبيض، وحتى المهاجرات من أصول أخرى، يعزي حيدر حيدوري كاتب الدراسة السبب الى “الخاصية العاطفية للنساء التي تجعلهن أكثر تأثرا بالانفصال عن الأهل والأصدقاء. ”

أعترفُ أنني لطالما أثنيت على مفهوم “البوتقة” التي تصهر المهاجرين للعالم الجديد Melting Pot وددتُ لو أنني أذوب، وتمنّيتُ أن تتبخّر كل اختلافاتي وتختفي. صدّقتُ الكذبة التي قيلت لي: “السنوات الثلاثة الأولى هي الأصعب، وبعدها ستتسهّل الأمور”. عملتُ باجتهاد لتحسين لغتي الإنجليزية أملا بالانتماء لمجتمع “البوتقة”، العثور على عمل وانتازع حيزي داخل النّظام. لم تداخلني هذه الرّغبة نتيحة أيّ ضغطٍ خارجيّ، كنتُ فقط مؤمنةً حقًا أنني كلما تأمركت كلما صارت أميركا وطني الثّاني. على أن مفهوم “البوتقة” ذاك كان يتجلى لي كل يوم ك”وهم”، وفق تعبير روبرت تيمينسكي في كتابه حول آثار الهجرة والانتقال إلى مكان جديد.

حالما يصل المهاجرون إلى بلادهم الجديدة، يقول “تيمينسكي”، سيجدوا أنّهم مطالبون بالغوص حتّى العمق في ماء المهجر والتشبع ب”رغوته الثقافية” ليدركوا لاحقا أن محاولتهم تلك ستنتهي إلى الغاء خلفيّاتهم وعزلهم عن جذورهم.

بالفعل، بدأت أنا أرى اندماجي المزعوم أكثر هشاشة في كلّ مرةٍ أزور عمان فيها. في منتصف الليل أصل، ثم أنام في سرير طفولتي لأستيقظ في صباح اليوم التالي على صوت والدتي تسألني إن كان لدي بعض الوقت لفنجان قهوة معها قبل بدأ العمل.

بضع سنوات، ثم تنازلتُ تمامًا عن فكرة المكان البديل. تقبّلتُ كوني نصف وجود في الولايات المتّحدة ونصفا آخر في الأردن. لي هويتي المختلطة، ولن أفلح أن أكون أميركية يوما. العودة إلى الأصل، بالمقابل، باتت بدورها مستحيلة. على أنني أملت أن يكون هذا البلد الجديد وطنًا لطفلي؛ قبل أن أعرف أن الارتباك الذي تزرعه تجارب الهجرة في أرواحنا وأذهاننا ينتقل، بالعدوى ربما، من جيل إلى التّالي. 

كلفنا أستاذنا، في إحدى محاضرات الماجستير، بقراءة رواية “جوان بخير”. تدور الحكاية حول صراع البطلة، جوان، المهاجرةٌ من الجيل الثاني، مع هويتها كصينيةٍ أمريكية تعيش خارج بلدها الأم. بدا لي صراعها عاصفًا وعميقًا إلى الحد الذي بعث في القلق من مكابدة ابني له كأردنيّ أمريكيّ مهاجر من الجيل الثاني.

تعمّق خوفي حين بادرني هو قبل أسابيع قليلة من هجرتي العكسية من الولايات المتحدة للأردن: “بتعرفي لأيش بشتاق بعمّان؟ بشتاق أصحى الصبح أشوفك أنت وخالتو سناء والتيتة بتشربوا قهوة وبتحكوا “. هي القهوة ذاتها التي  أكدت لي استحالة استبدال الوطن بموطئ الهجرة.

السّاعة تدقّ. بقي أسبوعان على يومي الكبير: يوم هجرتي المعاكسة. إن فعلا من أفعال الولاء المقدَّس، لا يوازيه شيء. كنتُ واثقة بصحة القرار، وموقنة أن لا سبيل للتّراجع، حتى وصلتني رسالةٌ زعزعتني.

مديرة  الموارد البشرية في شركتي تسألني: “مرحبًا مجد، لدي ثلاث أسئلة يجب أن تجيبي عليها:

متى ستنتقلين؟

هل ستعودين؟

هل تريدين الإبقاء على عنوانك في الولايات المتّحدة؟”

أجبتها باختصار: “لا أعرف. ربما بعد سنة أو سنتين. لا يمكنني أن أتخذ قرارًا بخصوص عنواني. ما تزال كل الأمور مبهمة”. 

أنا نصف إنسان هنا، ونصف إنسان هناك. فهل يمكن للمرء الازدهار بنصف تكوينه.

مجدولين حسن، صحفية حاصلة على درجة البكالوريوس في الصحافة والماجستير في العلوم السياسية وتكمل الآن درجتها الثانية في الماجستير في الكتابة الواقعية الإبداعية من جامعة جون هوبكنز الأميركية.

الولايات المتحدة