من نحن في عصر الحداثة السائلة؟

واشنطن- عماد الرواشدة


في واحد من مشاهده الساخرة الطريفة، يتصفح الممثل الأميركي “وودي آلن” كتيبا إعلانيا صغيرا لأحد المعسكرات الصيفية المدرسية. وفي تفاصيل المواد التي سيجري تدريسها يستعرض مساق النظرية الاقتصادية. تضمن المساق موضوعات من قبيل: “التضخم والاكتئآب: كيف تختار ثيابا مناسبة للأمرين.” في مساق الأخلاق كان الموضوع الأبرز “الإلتزام القطعي وستة طرق لتجعله يعمل لصالحك” فيما احتوت مادة الفضاء تعريفا مختصرا يقول: “الشمس، المكونة من الغاز، يمكن لها أن تنفجر في أي لحظة وتدمر معها سائر نظام كوكبنا. في هذا المساق سيتعرف المشاركون على ما يمكن للمواطن العادي فعله في هذه الحالة.” 

صورة ساخرة ولكنها قاتمة وسوداء للحال الذي وصلت إليه المجتمعات في بحثها عن الخلاص الفردي كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني زيجمونت باومن قد فصلها في مؤلفه “الحداثة السائلة”.

 ليس مبالغة القول أن قراءة “باومان” تعد لازمة على المستوى الجماهيري غير المتخصص قبل العلمي أو الأكاديمي لما لكتاباته حول الحداثة من ارتباط بتفاصيل حياتنا اليومية، إحباطاتنا، شعورنا العام بانعدام الأمن، اللاتوازن، الخوف من المستقبل، والأهم انعدام قدرتنا على الإحساس بالرضا والسلام الداخلي.

يوفر كتاب باومان مرآة تعيننا على إدراك أحوالنا كأفراد وحيدين و منعزلين ضمن مجتمعات ودول فقدت صلابتها وتوازنها وتخلت عن روابطها معنا، لتتركنا في محصلة الأمر بلا يقين، مسلوبي القدرة على إدراك هويتنا أو الوصول إلى حالة من الطمأنينة.

 تسعى هذه المقال لتعريف القراء بهذا العمل الكاشف لأحوال المجتمعات المعاصرة في القرن الواحد والعشرين. السبب وراء اختياره بالذات دون سواه عائد لمركزيته بين أعمال باومان، أولا، إذا أنه يشكل المادة الخام لسائر كتبه اللاحقة التي نوعت على ثيمته الرئيسة: الحداثة السائلة. وثانيا لقدرته المدهشة وربما المقلقة على وصف وتحليل المجتمعات الغربية الحديثة، وهو ما يعنينا في العالم العربي والنامي ونحن بصدد التفكير بالسبل الممكنة لإنجاز مشروع نهوضنا الخاص، والموقع الفلسفي الذي تحتله مسيرة الغرب الاقتصادية والسياسية من أي جهد فكري أو نشاط سياسي بهذا الصدد.

الفروقات بين الأجيال

يستعرض “باومان” في مطلع الكتاب الفرق بين مرحلتي ما قبل وما بعد الحداثة، والاخيرة هي التي يسميها “الحداثة السائلة.” يعتقد أن المرحلة الأولى، التي سبقت الحرب العالمية الثانية، غلبت عليها صفة الصلابة في كل نواحي الحياة، “الرأسمالية الصلبة” كما يسميها، حيث التصنيع وعلاقات الإنتاج الواضحة بين أرباب العمل والعمال، وحيث علاقات الدولة بالمجتمع و المواطنين تباعا أكثر صلابة مما أعقب تلك الحقبة. يرى “باومان” أن تلك المرحلة تميزت بسعة المساحة التي تحتلها الدولة والمجتمع في حياة الأفراد. إنه النموذج الذي يمثله مصنع رجل الأعمال الأميركي هنري فورد والذي طبع تلك الحقبة بطابعه حتى سُميت بالفوردوية، “فورديزم”. 

كانت المجتمعات الغربية “حرة” حينها، يرى باومان، وكان المصنع، حفاظا على ولائها وبقائها، ملتزما بدفع مرتبات مواطنيها مع تحمله مسؤولية أمنهم وسلامتهم الجسدية. وكما المصنع، كانت الدولة حاضرة في حياة الأفراد على نحو واضح في حقبة الحداثة الصلبة. كانت هي قاطرة التحديث التي تتولى تنظيم العلاقة بين مواطنيها ومشغليهم من مالكي رأس المال وأصحاب الشركات. وكان المواطنون يمارسون النقد والرقابة على نشاط كليهما بشكل أكثر فعالية بوصفهم الجمعي، مجتمعات تبحث عن الأفضل. لم يكن النقد طبعا جذريا، موجها لشكل السلطة وأساسيات العلاقة معها، ينبهنا الكاتب، بقدر ما كان منصبا على آلية عملها وكفاءة تنفيذها لغاياتها التنظيمية.

وفي حقبة الرأسمالية الصلبة تلك، كانت الدول الغربية، أفرادا ومجتمعات، أكثر حرية منها الآن، يقول باومان. الاعتماد على المجتمع كان يعني ضمان التحرر من  العوائق الفكرية، وصيانة الرعاية الصحية وصناديق التقاعد. كل ذلك كان معتمدا على علاقة صلبة بمجتمع ودولة ومصنع يتطورون جميعا على نحو بطيء كان من السهل التكيف معه. “كنا نمتلك اليقين.”

على أن هذا الواقع تغير في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.

انتقلت المجتمعات الغربية إلى “الرأسمالية الخفيفة،” حسب توصيف باومان، حيث اختفى المصنع بشكله التقليدي، مهاجرا إلى حيث العمالة الرخيصة الموسمية وآخذا معه رؤوس الأموال والأرباح عبر الحدود. تباعا أختفى البناء الاجتماعي القديم؛ تلاشى دور القائد/ الدولة، ومعه اضمحلت طبقة العمال التقليدية في المصانع، البروليتاريا بشكلها التقليدي، وتحورت لما بات يعرف بالبريكاريات من precarious، الطبقة المتداعية والآيلة للسقوط. طبقة لا يجمعها المصنع ولا تتمتع بالضرورة بأي ضمانات أو رواتب جيدة ومستقرة. 

 من توصيف باومن، لا يملك الفرد، حتى في العالم العربي والنامي، الذي عاش فعليا لحظة الانتقال للحداثة السائلة بفضل سياسات الليبرالية الجديدة، إلا مقارنة ما عاشه جيل الآباء والأجداد من رخاء في وظائفهم المستقرة مع منافعهم الصحية وصناديق تقاعدهم ومستقبل يبدو واضحا، مقارنة كل ذلك مع تلاشيه بالنسبة للأجيال التي ولدت لاحقا بدأ من مطلع السبعينيات.

تبدو تلك الأجيال الجديدة وقد تحولت إلى جيوش من العاطلين عن العمل، أو العاطلين موسميا عنه، الموظفين بالقطعة، الفري لانسرز، المسرحين، أو من يعيشون شبح التسريح، إضافة للمستثمرين الصغار ممن يعيشون شبح انقطاع التمويل، أو العاجزون عن الاستمرار في وظيفة واحدة لأكثر من أربع سنوات، دائمي اللهاث خلف رغباتهم اللامحدودة بتحقيق الذات أو الاستقرار المادي والنفسي.

كثيرة هي الدراسات والتقارير التي أشارت إلى الاختلافات الاجتماعية بين جيلي “البيبي بومرز” أو من ولدوا أثناء وعقب الحرب العالمية الثانية من جيل الآباء وربما الأجداد، وجيل الشبان “جينيريشن واي” ممن ولدوا بدايات عقد الثمانينيات. أبرز ما تجمع عليه غالبية التقارير الغربية هو انعدام الشعور بالاستقرار والأمن لدى الأخير، سعيه الدائم خلف تحقيق الذات يبدو صعب المنال إلى الحد الذي أفقد أفراده القدرة على الاندماج في بيئات العمل التي يعمدوا إلى تغييرها خلال فترة قصيرة وعلى نحو بات يكلف بلدا مثل الولايات المتحدة أكثر من ثلاثين مليار دولار سنويا، وفق دراسة لمركز غالوب للأبحاث. المعدل العام لاستقرار جيل الشبان في وظائفهم لا يتجاوز الثلاث سنوات، فيما اعتاد الأباء على الاستقرار في وظيفة واحدة حتى سن التقاعد.

ومع غياب المصنع وانتشار الشركات المتعددة الجنسية وتباعد أماكن العمل، غابت المساحات المتاحة للاتصال والتلاقي اكثر وأكثر. وفِي سياق ذلك، تغير شكل المجتمع ليغدو مجموعة من الأفراد عوض أن يكون حاصل جمع أفراده مجتمعين.

في مجتمعات الحداثة السائلة يحيى الأفراد في جزر معزولة، معتقدين بأن خلاصهم هو مسؤوليتهم الخاصة؛ مهمة تنفذ على نحوً فردي خالص. الفشل، إلى ذلك، يغدو عائدا لعجز الفرد، بما هو فرد، لا بوصفه عضوا في مجموع، عن تطوير قدراته ومهاراته بما يلائم حاجات السوق الرقمي المتغيرة بسرعة الضوء. و على الدوام، هو الملام.

“لم يعد هناك مجتمع” كما بشرت بذلك رئيسة الوزراء البريطانية “مارغريت تاتشر” نهاية الثمانينيات، يذكرنا باومان. هنالك أفراد، ذوات منفصلة في مواجهة السوق والسلطة. وبموت المجتمع بوصفه مجموع أفراده واضمحلال دور الدولة، ماتت السياسة ولم تعد السبيل لإصلاح حياة الأفراد. فكرة الإصلاح الاجتماعي بحد ذاتها، أصبحت مسعى بلا معنى؛ فالمطلوب في عصر الحداثة السائلة أن يصلح كل فرد من شأنه الخاص على نحو منفصل، بمعزل عن المجتمع والدولة والسياسة. أن يصلح “سياسته اليومية” وفق باومان. 

انت ما ستصبح لا ما انت عليه!

وفِي ظل غياب الدولة وتشظي علاقة المجتمع بالفرد وانكفاء الأخير على ذاته بوصفه محور التغيير، تبلورت فكرة “المثال”، أو المستشار الشخصي، التي تقدمها وسائل الإعلام كنموذج حي يجسد قدرة الفرد على تخطي عوائقه الذاتية، قصور إمكاناته المالية وتدني مرتبته الاجتماعية. بكثير من التصميم، والإيمان، والطاقة الموجبة، بوسع أي منا صنع مجده الذاتي ورواية قصته، يخبرنا المستشارون، أو من بتنا نسميهم خبراء التنمية البشرية، المحفِزون.

يمكننا من وحي قراءة باومن أن نستدعي شخصيات مثل أوبرا وينفري، روبرت كيوساكي، أو توني روبنز، وغيرهم من “الرياديين” والمشاهير أو من نجوم وسائل التواصل الاجتماعي، فجميعهم يلعبون ذات الدور في توجيه الأفراد في عصر الحداثة السائلة نحو الممارسات (الفردية) الفضلى لامتلاك السعادة. 

في حديثهم معنا، لن يخاطبنا هؤلاء النجوم بوصفنا جماعة بشرية ومجتمعات كما كان حال الخطاب في عصر الرأسمالية الصلبة. عوض ذلك، ستحل ال”أنت” و “أنتِ” محل ال “أنتم”. السبيل للترقي ليس بمعالجة اختلالات المجتمع، بل بمعالجة اختلالات الفرد الذي تقع عليه مسؤولية بؤسه.  

يلفتنا “باومن” إلى أن هوية الفرد لم تعد “معطى” مسلما به. فهو ما سيصبحه، ما سيصير إليه. الفرد بهذا المعنى، “مهمة في طور الإنجاز”، وإنجازها يتطلب جريا لا نهائيا خلف تحصيل مزيد من الخبرات والمهارات والمصادر المعرفية والمالية للالتحاق بسوق لا يتوقف هو الآخر عن التقدم ولكن بخطوات أسرع. “لا نمتلك النَفس اللازم للحاق به” ينبهنا “باومان”. وببدو أننا سنظل متأخرين عنه دائما، وسنبقى أبدا.

“ما ينتج عن غياب القواعد والتفاهمات الاجتماعية ليس سوى ذات (ego) عدوانية وخائفة في بحث مستمر عن الحب والمساعدة. وفي بحثها هذا عن ذاتها وعن هذا التعاطف والحب من قبل المجتمع، تضيع بسهولة في مجاهل النفس/ الذات (…) من يتلمسون طريقهم وسط ضباب أنفسهم، ليسوا  قادرين على ملاحظة أن هذه العزلة، هذه الزنزانة الانفرادية للذات (الايغو)، ليست سوى عقوبة جماعية.”

سؤال الحرية

الحقيقة أن “الديستوبيا” التي يقدمها “باومان”، هذا العالم المظلم الذي يصفه، ليس مقرونا بحلول مقترحة. إنه تماما كتوصيف طبي لحالتنا الصحية لا يحمل معه أي نصيحة محددة بالعلاج. على أنه يناقش، على الأقل في الفصول الأولى، إمكانيات العلاج/ التحرر، محاولا مقاربة الإجابة عن سؤال التغيير الذي أرق الباحثين: لما تبدو المجتمعات، رغم الظلم والعسف، عاجزة عن الخروج للمطالبة بحريتها؟ يمر باومان على نظريات متعددة في هذا السياق لكنه يبدو أقرب لنظرية عالم الاجتماع الفرنسي “ايميل دوركهايم”.

يرى دوركهايم أن الفرد يكتسب حريته بالاعتماد على المجتمع، على السائد والطبيعي وليس العكس، ليس بالتحرر من كل ذلك. التخلي عن المجتمع، وفق “دوركهايم” الذي يوافقه “باومان”، يعني التخلي عن تلك الوسادة التي نضع رأسنا عليها متخففين من قصورنا، وخوفنا من الغد. المجتمع سيتكفل بكل ذلك. الروتين، يوفر لنا هذا الشعور العام بالرضى والطمأنينة بأن الأمور ستسير على النحو الذي اعتادت السير عليه أبدا. أنه الشعور الذي جربه جيل الآباء والأجداد. خارج هذا المجتمع، ليس ثمة سوى قلق أزلي من الغد وشعور عام بالخفة وعدم الاتزان أو اليقين. 

الاستهلاك والتسوق، بمفهومه الواسع الذي يتجاوز السلع التقليدية ليشمل العمل، العلم، الحب، الرضى، السعادة، الطمأنينة، يبدو عملية لا نهاية لها تشكل ملمحا أساسيا لهوياتنا كأفراد في هذا العصر السائل.

ورغم اتفاقه مع هذا التوصيف، إلا أن “باومان” ينبهنا إلى أن هذه الخلاصة تنطبق فقط على الأجيال السابقة ممن عاشت في ظل الرأسمالية الصلبة. الآن، يجادل، اختفى المجتمع، لم يعد حاصل جمع أفراده. هو الآن مجموعة من الأفراد. كل على حدة، يجمعهم المكان، فقط المكان، وتفرقهم مساعيهم الخاصة للشعور بالأمان والطمأنينة وتحقيق الذات. إنهم مشحونون الآن بملايين القصص الفردية التي تخاطبهم على نحو خاص كذوات معزولة عن بعضها البعض. تخاطب إحباطهم، وشكهم الذاتي، وتعدهم بأن بوسعهم “الوصول” رغم أن ميزة هذا العالم هي النقص. الان، “اللايقين هو اليقين الوحيد” بتعبير “باومان”. 

الاستهلاك والتسوق، بمفهومه الواسع الذي يتجاوز السلع التقليدية ليشمل العمل، العلم، الحب، الرضى، السعادة، الطمأنينة، يبدو عملية لا نهاية لها تشكل ملمحا أساسيا لهوياتنا كأفراد في هذا العصر السائل. تلك “السلع” باتت متوفرة بما لا يمكن تخيله، فيما نقف نحن أمام الرفوف غارقين في عملية ذهنية عسيرة ومرهقة من المفاضلة بينها. نتطلع إلى موازاة ما سندفعه مقابلها من جهد، مال، أو توقعات بما سنحصل عليه من “سعادة”. نريد أن نشعر بالرضى، لكن وفرة الخيارات المعروضة أمامنا تحرمنا من اليقين بأن ناتج عملية اختيارنا سيرضينا فعلا. حتى بعد اختيارنا، ستلاحقنا الشكوك بصوابية ما فعلناه، وسنبقى نفكر بكل تلك الخيارات الضائعة وما إذا كانت سترضينا أكثر. إنه الشقاء الأزلي؛ اللهاث خلف اللامتحقق الذي لن يتحقق. في عصر الحداثة السائلة، يبدو البشر عطاشى ليقين لن يوقنوا به حتى لو امتلكوه. 

الغرباء والاغتراب

 ولأننا، يقول “باومان” فقدنا وسادة المجتمع، تلك التي جرينا على إلقاء قلقنا عليها، توجهنا للبحث عن أكباش فداء نحملها عنتنا، فلم نجد أمامنا سوى الغرباء، “الآخرون” ممن لا نعرفهم، لا يشبهوننا، لا يتكلمون لغتنا، أو لا ينتمون لطبقتنا أو خلفيتنا الاجتماعية. 

الخوف من الغرباء، حسب باومن، هو ما دفع نحو استحداث نوع جديد من البناء والتخطيط الحضري يقوم على فكرة المجتمعات السكنية المغلقة، “gated communities” ببواباتها الضخمة وكاميراتها ورجال أمنها لمنع “الغرباء” من الاختلاط بنا. “مأسسة الخوف الحضري”، كما يسميها “باومان”، إذ تتحول المدن بالنسبة للمهمشين إلى مساحات لا يسمح لهم بارتيادها. إنهم “مجَرَّمون” على نحو ما.

الفردية التي تعد الملمح الأساسي للحداثة التي نعيشها ويصفها لنا “باومان” على نحو فني مدهش وبقدر كبير من الحساسية العاطفية تجاه أوضاع المجتمعات والأفراد من حوله، تلك الفردية باتت تعبر عن نفسها، أو أريد لها أن تعبر عن نفسها وتتحرك وتمارس نشاطها، ضمن طرز حديثة من التخطيط يتجاوز حتى أماكن السكن المغلقة على نفسها، إلى الأماكن العامة.

محل الفضاءات العامة التي جرى الأفراد “المتمدنين” على التقاء فيها، حلت المولات التجارية بديلا ليعبر الأفراد فيها عن هوياتهم بوصفهم مستهلكين فردانيين وبأقل قدر من الاحتكاك مع الآخرين من حولهم من باعة ومشترين آخرين. 

في تلك المولات سنمتلك شعورنا “بالانتماء”. فالجميع هناك لديهم غاية واحدة هي الشراء. انه مجتمعهم. لكنه مجتمع يقوم على تجاهل الاختلافات بينهم عوض التعامل معها. 

 في المدينة بشكلها السابق، قبل المولات والأحياء المسيجة بالبوابات وكاميرات المراقبة، جرى الناس على التحلي بما يسميها “باومان” المهارات “المدنية”، إذ يطورون قدراتهم على الظهور في شخصية عامة، تخفي خلفها ذاتهم الخاصة. وفق ذلك، كان الفرد المتمدن، يقول “باومان”، يحسن التعامل مع الذات العامة “public persona” في وقت يخفي فيه ذاته الخاصة.

امتاز إنسان  عصر الحداثة الصلبة (البائدة)  “المتمدن”، بقدرته على فتح النقاشات وبناء العلاقات العابرة والعيش المشترك مع الآخر دون الولوج، بالضرورة، الى ذات ذاك “الآخر”  الخاصة، همومه وقلقه. اليوم، في المول، يتجاهل المشترون كل ذلك لأنهم لا يمتلكون المهارة “المدنية” لفعله، يرى “باومان”. مجتمع اليوم “السائل” حداثيا، الضحل، لا يحتاج أفراده إلى التعاطف، التفهم، المفاصلة، أو إبرام التسويات ولن يتمكنوا من فعل ذلك حتى لو قرروا فعله.

صممت أماكن مثل المولات فقط لتجنب الغرباء وإلغاء التحدي الذي يواجه ساكني مدن الحداثة السائلة للاحتكاك بهم وتقبل غرابتهم. في المقابل، توفر هذه الأماكن للغرباء فرصة أن يكونوا “لامرئيين” بدورهم. أن يضيعوا بين الجموع. 

“الفكرة الأساسية للمدنية، تكمن في القدرة على التفاعل مع الغرباء دون توجيه غرابتهم ضدهم، ودون الضغط عليهم للتخلي عن كل أو عن جزء من الخصائص التي جعلت منهم غرباء في المقام الأول”.

كثير مما يقدمه “باومان” يمكن تلمسه ليس فقط في إيقاع الحياة في المجتمعات الغربية، بل حتى في العربية المتراجعة تقنيا. مرد ذلك، ربما، عائد لتلك السيولة التي يصفها “باومان” والتي  تميز عالم اليوم اقتصاديا وسياسيا. ففي القرية التقنية الصغيرة التي يعيش فيها أفراد القرن الواحد والعشرين بوصفهم أفرادا لا بوصفهم مواطنين، تبدو الاختلافات بين الشرق والغرب أقل حدة مما مضى وتبدو أزماتهم أكثر تماهيا.