عماد الرواشدة
في الإطار الأوسع، يراد للمنطقة ان تكون أميركية خالصة. هكذا يمكن فهم ما يجري منذ اندلاع الحرب على غزة وصولا إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله الذي قاد الجماعة لثلاثين عاما.
ربما لم يكن واضحا مدى ما حدث في أكتوبر الماضي لدى اقتحام مقاتلي حماس للسياج الأمني ومن ثم تداعي البوارج الأميركية والأوروبية للبحرين الأبيض المتوسط والأحمر. لم يكن مفهوما تماما لما يبادر الغربيون لتصعيد خطابهم الإعلامي إلى حدود غير مسبوقة ردا على عملية، حتى وإن كانت نوعية نسبة لغيرها، إلا أنها لم تكن معزولة وجاءت في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني القديم المتجدد ذو السبعين عاما.
اليوم بعد مرور نحو عام، يبدو واضحا أن ما يجري ليس سوى حدث متدحرج سيظل يتوسع إلى أن يبلغ مداه. غايته النهائية تتجاوز الجغرافيا السياسية للمنطقة وتتصل بشكل أكبر بالجغرافيا السياسية للعالم بأكمله كما تراه الولايات المتحدة.
قراءة ما يحدث باعتباره صراعا موضعيا يروم “خلق مشروع إسرائيل الكبرى” كما علق الزعيم اللبناني وليد جنبلاط في رد فعله الأولي على اغتيال نصر الله، يغامر بفقد البوصلة اللازمة لاستيعاب وفهم دوافع الدور الأميركي الغربي المدهش في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل.
كيف وصلنا إلى هنا؟
لم يحدث كل ما حدث منذ أكتوبر في فراغ سياسي. لم يسارع الأميركيون لتجنيد إسرائيل للأسنان، ويرسلوا أحدث قطعهم العسكرية للمنطقة لتحقيق نبوءة توراتية ما. ولا هم فعلوا ذلك تحت ضغط حساب انتخابي ضيق لهذا المرشح أو ذاك في انتخاباتهم الرئاسية.
منذ بدأ الألفية والأميركيون يحاولون إعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يلائم حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة. تماما كما سعوا جاهدين لإعادة ترتيب البلقان وعموم أوروبا الشرقية طوال عقد التسعينيات. في اللحظة التي بدا أن الأميركيين فرغوا من أوروبا، التفتوا من فورهم للشرق الأوسط دون كثير من التخطيط.
منتشين بإنجازاتهم في أوروبا الشرقية، ظن الأميركيون أن إسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين سيتعبه سقوط لمجموع الأنظمة التي تدور خارج الفلك الأميركي الغربي، والتي وضعها الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن فيما أسماه “محور الشر” مع إيران وكوريا الشمال، بشكل معلن، ومع سوريا وليبيا وغيرها بشكل مضمر.
لكن مغامرة العراق كانت أصعب مما تخيله البيت الأبيض في حينه. وأدرك القادة الاستراتيجيون أن استخدام القوة العسكرية الأميركية بشكل مباشر يعيق تحقيق الأهداف الاستراتيجية للبلاد أكثر مما يخدمها.
لم يغير الأميركيون غاياتهم في المنطقة، لكنهم انتهجوا سياسة جديدة في الحروب تقوم على إيكالها للحلفاء والأصدقاء والتابعين عوض التورط فيها مباشرة. يحقق ذلك ثلاثة أمور مهمة للأميركيين: أولهما تجنيب السلطات الأميركية عناء الظهور بمظهر المعتدي أو الطامع بالهيمنة على الساحة الدولية سواء أمام العالم أو رأيها العام. وثانيا، يحرف أنظار خصومهم عن إدراك مرامي تحركهم في الساحة الدولية، وأخيرا يجنبهم توريط القوات الأميركية في صراعات مباشرة تكلفهم عددا وعتادا وميزانيات تريليونيه كما هو الحال في حرب أفغانستان.
اليوم بعد نحو عقدين على حرب العراق، تبدو الأهداف الأميركية أكثر وضوحا حول العالم. يمكن تلخيص تلك الأهداف بإنهاء أي نفوذ روسي/صيني موجود أو مرتقب ومتوقع ليس فقط في منطقتنا العربية ولكن أيضا في المحيطين الهندي والهادي وأوروبا.
ستكمل الولايات المتحدة، عبر إسرائيل، إسقاط وكلاء روسيا والصين واحدا تلو الآخر إلى أن تنتهي في طهران.
بهذا المعنى، ما يحصل اليوم في الشرق الأوسط ليس سوى واحد من تجليات مشروع أميركي كبير تنفذه إسرائيل بالوكالة، كما تنفذه أوكرانيا وبولندا وبقية دول البلطيق في أوروبا، أو تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند في محيط الصين.
في الشرق الأوسط، كما في أوروبا وآسيا، يمارس الأميركيون نفس التكتيك. يقفون جانبا كرجل مسن حكيم زاهد فيما حوله، وغايته نشر الاستقرار والسلم والحيلولة دون النزاع والحرب. وسطاء كما في الشرق الأوسط، أو حلفاء نبلاء يدعمون أصدقاء ضعاف في مواجهة قوى شريرة تريد ابتلاعهم، كما يجري في محيط الصين وروسيا.
ماذا عن الروس؟
في أوروبا، يبدو رد الفعل الروسي على التحرك الأميركي أوضح منه في الشرق الأوسط. لعل السبب يعود لبعد المنطقة عن المجال الحيوي لموسكو. يبدو الروس وكأن لديهم مقاربة (أو توهم؟) بأن مصالحهم لن تتضرر بكل ما يحدث منذ السابع من أكتوبر، ومنها مثلا قاعدتهم على الشواطئ السورية، ولعل ذلك ما يفسر عدم تحركهم لمنع الانهيار الشامل والدرامي لحلفائهم.
تريد واشنطن لهذه الحرب أن تنتهي بقطع “أذرع” إيران وصولا لإسقاط حكمها أو إعادة انتاجه على الصورة الأميركية وإنهاء النفوذ الروسي مرة واحدة وللأبد.
يقول الأميركيون على جانبي الانقسام الحزبي أن الحل للمنطقة، أي لتبقى في دائرة النفوذ الأميركي، هو أن تسلم إدارتها لتحالف سني إسرائيلي، كما يعلن جي دي فانس، المرشح لمنصب نائب الرئيس في حملة المرشح الجمهوري دونالد ترمب. وهي رؤية عبر عنها رموز الإدارة الديمقراطية الحالية أيضا. يخلق مثل هذا التحالف على المدى البعيد مجالا حيويا جديدا للأميركيين كما هو حال المجالات الحيوية الأخرى لهم شرق أوروبا أو جنوب شرق أسيا.
في المحصلة، لا معنى للحراك الأميركي كله أن لم يتوج بتغييرات لنظم الحكم التابعة لروسيا والصين والمساعدة بإنتاج حكومات قريبة من الغرب، تنهي بشكل سياسي دبلوماسي العلاقات السابقة مع الروس وتنهي اتفاقات أسلافها الدفاعية مع موسكو.
من يتابع كيف يدير الاميركيون سياستهم الخارجية يعرف أن هو هذا اسلوبهم الأكثر شيوعا بعد مغامرة العراق. آخر تجل واضح له كان في زعمهم في فبراير ٢٠٢٣ أن لا صلة لهم بحرب أوكرانيا سوى دعم حليفهم “الضعيف” ولكن ” الشجاع” في كييف. تداعى مسؤولوا الإدارة وأقلامها للقول أن لا مصلحة لواشنطن في هذه البقعة من العالم، ولا يجب النظر لاستهداف المصالح الاقتصادية والعسكرية الروسية، باعتباره مقصودا لذاته. خطاب، وإن بدا ناجحا إعلاميا لهذا الحد أو ذاك، إلا أنه لا يساوي أي قيمة في العلاقات الدولية. فالهوس بالجغرافيا السياسية لا يزال هو المحرك للسياسة الخارجية للبلاد على ما جادل أكاديميون وساسة أميركيون من وزير الخارجية السابق هنري كيسينجر إلى أستاذ العلاقات الدولية جون مارشيماير، أو المفكر اليساري نعوم شوميسكي.
ما التالي؟
فيما يبدو، ستكمل الولايات المتحدة، عبر إسرائيل، إسقاط وكلاء روسيا والصين واحدا تلو الآخر إلى أن تنتهي في طهران. تريد واشنطن لهذا القرن أن يكون أميركيا، وتريد تجديد نفوذها وإعادة إنتاجه بصور جديدة في الشرق الاوسط كما في أوروبا والمحيطين الهندي والهادي. شغلها على تلك الغاية ليس محصورا في الدعم العسكري لإسرائيل، والذي، للمفارقة، زاد بواقع ٥.٢ مليار دولار قبل أيام، في عز “وساطتها” المزعومة للتهدئة في لبنان؛ بل يتعدى ذلك لكل الاتفاقات التي أجبرت دول عربية، أو هي في طريقها، على قطعها مع الصين وروسيا.
الإطار التفسيري الأقرب للواقع بالنظر للحرب الدائرة هو ذاك الإطار الذي يقرأها بوصفها جزءا من استراتيجية أميركية خالصة تتعلق بشكل العصر المقبل، وليست مجرد جشع إسرائيلي بالهيمنة مدفوع ببعض الرؤى التوراتية، أو أزمات فساد تعيشها حكومة “تتخبط” كما يحلو للإعلام العربي القول.