النظم العربية في حرب غزة: متفرجون أم شركاء

المراسل

ظهرت النظم العربية جميعا في بداية الحرب وكأنها تسير بشكل واع نحو التصعيد، وساد الظن بأنها بدأت تتلمس طريقها خارج إطار تحالفاتها الدولية التقليدية بحكم التغيرات التي يشهدها العالم وما يبدو من أزمة يعيشها المشروع الغربي الداعم لإسرائيل.

لكن ذلك التصور لم يكن صحيحا فيما هو واضح حتى اليوم.

اليوم، على الأقل في عين الرأي العام، تبدو السلطات العربية وقد أرادت في استجابتها الأولى إخراج نفسها من الحرب وإفساح المجال للاحتلال لإنهاء حركة حماس التي تجتمع في غالبها على خصومتها. لكن إسرائيل لا تنوي فقط إنهاء الحركة، وإنما تفريغ القطاع أو جزء منه، تصفية أي حالة اعتراض عليها وعلى داعميها في أوروبا وأميركا، والتفرد بالإقليم كمنطقة امتياز غربية في إطار عالم بقطب أوحد.

إن كان هناك تفسير آخر للموقف العربي، لدول الشرق الأوسط تحديدا، فهم أنفسهم لم يساعدوا في توفيره.

اليوم، سبعون بالمئة من ضحايا القصف ا لإسرائيلي على غزة أطفال ونساء، نسبة كبيرة من صغار السن جرحى بلا أسر بعد أن استشهد أقاربهم جميعا. سيشب هؤلاء وفي وعيهم، تسبُبُ النظام العربي والدولي في مأساتهم وعطبهم النفسي والجسدي. لو ذهبت دول المنطقة بتصعيد ذو معنى منذ بداية الحرب وبشكل تدريجي، لما كنا هنا اليوم، ولتلافى المدنيون في غزة كل هذا الذبح.

 اليوم وبأريحية غير مسبوقة، تقصف إسرائيل مخيمات اللجوء ومراكز أيواء النازحين، سيارات الإسعاف والمستشفيات والمدارس. لوحدهم، يبحث الغزيون تحت ركام الإسمنت المسلح عن أطفال ونساء مصابين أو مبتوري الأطراف ربما كانوا أحياء أسفل الحطام بانتظار الموت المؤجل.

هذا ما يعدنا به التفوق الإسرائيلي، هذا النموذج في القوة العارية من أي وازع أخلاقي والقابلة للاستخدام ضدنا جميعا متى ما دعت الحاجة يوما. وهذا بالذات ما ينبغي أن يدفع نظم المنطقة نحو إعادة النظر بتحالفاتها الحالية. 

برفضها لأبسط أشكال التصعيد، تضع السلطات العربية نفسها في خانة الشريك في المجزرة الحاصلة، على الأقل في عين رأيها العام. وإن كانت غير مدركة لأبعاد موقفها اليوم، فالمشكلة أكبر.

 مع كم المجازر اليومية ونوعها، جرَّد هذا الجمود في الموقف الرسمي أي تصعيد محتمل، من قبيل استدعاء السفراء والاستنكار والقرارات الأممية، من قيمته السياسية أو المعنوية. مثل هذا النوع من الاستجابة لن يحل المشكلة الرئيسية أو ينجز المطلب الملح في هذه اللحظة من عمر الحرب:

الحد الأدنى لما تحتاجه غزة (فورا) هو وقف غير مشروط لإطلاق النار. نقطة. 

الحد الأدنى لما تحتاجه غزة (فورا) هو وقف غير مشروط لإطلاق النار. نقطة. 

طرق إجبار الغرب على هذا القرار معروفة، أقلها قطع النفط والغاز عن الأطراف الداعمة لهذه المذبحة في أوروبا، وقَسم التحالف الغربي، وعزل الموقف الأميركي؛ إضافة لإلغاء (وليس تجميد) أي مشروع أو اتفاق كان جرى التوافق عليه مع الولايات المتحدة لدمج إسرائيل اقتصاديا في الشرق الأوسط. بدون هذا المستوى من الضغط، لا معنى للحديث عن موقف أي دولة عربية باعتباره “متقدما”، فجميعها اليوم شريكة في المذبحة بذات القدر سواء بقصد أو من غير قصد، لا فرق.

بديهي أن مثل هذه الخطوات التصعيدية ستجر على متخذيها عواقب اقتصادية وسياسية من واشنطن وبقية التحالف الغربي، ذلك أن السيادة والكرامة الوطنية لهما دوما تبعات، وهذان ليسا مفهومين فارغين، بالمناسبة.

يقتل الإسرائيلي ١٠ آلاف إنسان في غزة في أقل من شهر، ويغامر بتجريمه دوليا، على الأقل على المستوى الشعبي، لأنه يبحث عن فرض سيادته على الأرض التي احتلها، والنيل لكرامته الوطنية التي تشظت يوم السابع من الشهر الماضي.

بديهي أن توضع الشعوب تحت العقوبات والحصار إذا ما أرادت فرض سيادتها والحفاظ على كرامتها الوطنية مصانة، لكن عقابها هو بالذات ما يحرر إمكاناتها المقيدة في الاعتماد على الذات ويُنضِج فطامها عن الاتكال على القوى العظمى.

إذا كان من نظرية يمكن صياغتها بالاستناد إلى ما عاشته المنطقة منذ عهد الاستقلال، فهي أن كلفة الاستسلام والانصياع أكبر بكثير من كلفة الرفض والتحدي، وثمن القوة أقل بكثير من ثمن الضعف.

رغم كل ذلك، حتى اليوم، تبدو الدول العربية بلا نية لتحدي الوضع القائم باعتبارها ترى في الأخير خيارا أكثر “عقلانية” على المدى البعيد. والحال أن هذا المنطق في التعامل مع الحرب الحالية قاصر من أي زاوية نُظِرَ له، سواء لجهة مصلحة المجتمعات العربية أو النظم نفسها.

إذا كان من نظرية يمكن صياغتها بالاستناد إلى ما عاشته المنطقة منذ عهد الاستقلال، فهي أن كلفة الاستسلام والانصياع أكبر بكثير من كلفة الرفض والتحدي، وثمن القوة أقل بكثير من ثمن الضعف.

الموافقة الرسمية العربية الضمنية على اختلال توازن القوى في المنطقة مع مشروع غربي كالإسرائيلي على هذا النحو، يضع النظم في مواجهة الرأي العام، ويراكم الشعور بالقهر والعجز عند الغالبية. كل ذلك كان ولا يزال سببا رئيسيا لانعدام الاستقرار السياسي والأمني في الشرق الأوسط. كما أن هذا الاستسلام للتحالف الغربي الإسرائيلي يجعل منظومة الحكم العربية فريسة سهلة للابتزاز السياسي على المدى البعيد، وأحيانا على حساب حاجتها هي بالبقاء، ويقلص قدرتها على المناورة في علاقاتها الدولية حين تعوزها، حتى لو كانت نابعة من الحرص مصالحها بالذات، لا مصلحة شعوبها. 

أثبتت أحداث القرن العشرين والواحد والعشرين أن الأحادية القطبية الأميركية-الغربية ستبقى مصدرا لإنتاج الحروب الأهلية، العرقية والدينية، النزاعات والمظالم على امتداد العالم. البلاد المحكومة لسلطة رأس المال المتجرد من أي قيمة أخلاقية، والباحث عن الربح المتحقق من الديون والحروب عوض الإنتاج، لن تنشر السلام والاستقرار حول العالم، وطبعا ليس في منطقتنا. 

لا مصلحة لشعوب وحكومات دول الطوق، على الأقل، بتعزيز هذا التوجه الدولي.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تحتاج السلطات العربية إلى الدفع بهذا التناقض بين مصالحها والمصالح الغربية للأمام، وبالفعل السياسي والاقتصادي على الأرض، لا بالتصريحات الفارغة والمناورات الدبلوماسية الخجولة التي لا تفعل شيئا سوى منح إسرائيل الوقت اللازم لقتل مزيد من الأطفال ممن يبيتون كل ليلة بانتظار حتفهم. وإلا كيف نقرأ دعوة العرب لانعقاد قمتهم التي سموها “طارئة” بعد أسبوع، في وقت يجهز فيه القصف على نحو ٢٠٠ غزي غالبيتهم أطفال ونساء يوميا.

يراد لهذا العالم أن يتشكل من جديد. حيال ذلك، أمام العرب طريقان: إما أن يكونوا أداة لرسمه قطبا واحدا واضعين أمنهم القومي، اقتصاديا واجتماعيا، رهينة في يد الآخرين، أو يقرأوا المشهد في سياقه الأوسع. يدفعوا باتجاه التعددية، يمارسوا السياسية عوض الحيل الإنشائية، ويوظفوا ما بحوزتهم من أوراق، ولو على نحو تدريجي، للحيلولة دون الهيمنة الإسرائيلية الغربية على منطقتهم بالترويع والتنمر. 

الصمت ليس خيارا.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط