صراع الخرائط: كيف نفهم “جيو بوليتيك” الشرق الأوسط الجديد (١-٢)

واشنطن- عماد الرواشدة 

قبل نحو شهرين، في الثاني من أيلول سبتمبر الماضي، أعلن البيت الأبيض في مذكرة نشرها على موقعه عن إطلاق ما بات يعرف بمشروع كوريدور الهند-والشرق الأوسط. الغاية الأساسية من المشروع المزمع حسب الإدارة الأميركية هي “الإدماج” الاقتصادي بين آسيا، الخليج العربي وأوروبا. تقوم الفكرة على إنشاء شبكة نقل هجينة، أي برية وبحرية في آن، قوامها موانئ وخطوط سكك حديدية عابرة للحدود، تبدأ من الهند وتنتهي بالقارة الأوروبية.

 في القلب من هذا المشروع؟ إسرائيل. 

في تصوره النهائي، سيبدأ “الكوريدور” من الهند، ويمر بالسعودية، الإمارات، الأردن ومن ثم إسرائيل ومن هناك إلى أوروبا عبر المتوسط.

الغاية المعلنة للفكرة تنحصر في نقطة واحدة: توفير طريق للتجارة يقصر الوقت والكلفة للنقل بين القارتين الآسيوية والأوروبية. ويتضمن المشروع أبعادا أكثر تنوعا من مجرد خط الشحن، إذ يقول المسؤولون الأميركيون إنه يشمل مد خطوط الكهرباء، أنابيب الهيدروجين النظيف وخطوط للاتصال الرقمي فائق السرعة عبر أراضي الأطراف المشترِكة. 

عقب الإعلان عن المبادرة، تزاحم خبراء ومراقبون كثر، أميركيون و آسيويون، لانتقاد جدواها وواقعيتها؛ لكن غالبية هؤلاء -فيما يبدو- لم يولوا اهتماما للفكرة المركزية من ورائها؛ فهذا التطور لا يحدث في فراغ سياسي ويبقى فهمه محدودا إذا لم تجر معاينته في سياق الحرب الباردة غير المعلنة بين الولايات المتحدة والصين للحد من نفوذ الأخيرة وتمددها الاقتصادي في الشرق الأوسط وآسيا. كما أنه يأتي في ظل حرب غربية بالوكالة مع روسيا لم تشهدها القارة الأوروبية منذ منتصف الأربعينيات. 

الأهم عربيا، هو أن هذا التدافع بين القوى العظمى يعيد الشرق الأوسط للواجهة كأرضية للصراع بدا أن أهميتها قد تراجعت نسبيا منذ دخول القوات الروسية لأوكرانيا. اليوم، تعيد الحرب على غزة أهمية هذه المنطقة الجيوسياسية إلى النقاش، ليس باعتبارها -أي تلك الحرب- نزاعا موضعيا بين المشروع الغربي الصهيوني وحماس فقط، أو حتى بين محور المقاومة وواشنطن، ولكن بين التحالف الغربي وتوابعه من جهة، ومقابله الصيني الروسي وتوابعه من أخرى.

طريق حرير جديد لكن بلا تركيا ومصر

في تفاصيله، يعيد “كوريدور الهند-الشرق الأوسط” رسم خرائط الجغرافية السياسية والاقتصاد عبر محاولة حرف مسار طريق التجارة التقليدي بين آسيا وأوروبا مرورا بالشرق الأوسط؛ أو ما يعرف تاريخيا ب “طريق الحرير”.

 لقرون، عمل “طريق الحرير” كشريان تجاري يربط الصين بأوروبا وأفريقيا عبر مروره بوسط آسيا، الخليج العربي، بلاد الشام ومصر. لكن “كوريدور” واشنطن الجديد يُجري جملة من التحويرات -إن جاز التعبير- الأساسية على هذا الطريق التاريخي.

 أولى التحويرات الأميركية تتضمن استبدال الصين بالهند، وثانيهما الاستعاضة عن مصر، ممثلة منذ قرن ونصف بقناة السويس، بميناء حيفا الإسرائيلي. يأمل الحلفاء الغربيون تصليب النفوذ الغربي في الشرق الأوسط عبر دمج إسرائيل بوصفها ذراعه المتقدم فيه، كبح التمدد الصيني، وقطع الطريق على محاولة روسيا استعادة مكانتها الجيوسياسية في العالم.

ينقسم مسار النقل لهذا الممر على مرحلتين: الأولى شرقية، وتبدأ بالهند لتنتهي بالخليج. والثانية، وهي استكمال للأولى، وتسمى الكوريدور الشمالي، من الخليج منتهية بالقارة الأوروبية.

 يَفترِض المشروع أن تخرج البضائع من السواحل الغربية للهند، ومن هناك إلى الخليج العربي حيث تنقل برا عبر سكة حديد إلى الأردن، ثم إلى ميناء حيفا الإسرائيلي، فميناء Piraues اليوناني؛ حيث سيجري نقل البضائع برا وبحرا إلى بقية الدول الأوروبية المستهدفة. 

وُقِّع الاتفاق خلال قمة العشرين الأخيرة التي عقدت في نيوديلهي (قبل شهرين فقط) من قبل حلفاء الولايات المتحدة: ألمانيا، إيطاليا، فرنسا كل على حدة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، السعودية والإمارات.

 رغم أن إسرائيل لم تنضم رسميا للاتفاق بعد، وكذلك الأردن، إلا أنهما طرفان أساسيان فيه، جرت الإشارة لهما في البيانات الصحفية الرسمية للبيت الأبيض. قد يُفسر سبب الموقف الأردني باعتباره محاولة لتجنب انتقادات الشارع المحلي المعادي لإسرائيل. بالنسبة للأخيرة، قد يُفهم تجنب المشاركة الرسمية في سياق الحساسيات التي قد يثيرها ذلك في ظل عدم التوصل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية بعد.

مقابل ذلك، وجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -الذي حضر قمة الهند تلك- بلاده وقد استثنيت من المشروع، وهو الأمر الذي يبدو أنه تسبب بغضبه: “لن يكون هناك كوريدور دون تركيا”، قال أردوغان للصحفيين لدى عودته من نيوديلهي.

بالنسبة لمصر، ومن الناحية النظرية للمشروع وفق ما تقدمه واشنطن، سيقلل الطريق الجديد الاعتماد على قناة السويس، أحد أكثر الممرات المائية ازدحاما إلى جانب قناة مالاكا في آسيا، ومضيق هرمز.

صورة توضح مسار كوريدور الهند-الشرق الأوسط وكيفية تجنبه لقناة السويس والاستعاضة عنها بالمرور ب”إسرائيل” ومن هناك عبر ميناء حيفا إلى اليونان. من غير الواضح إن كان المسار سيقلل الوقت والكلف قياسا بالمسار التقليدي عبر مصر.

 نحو ١٣٪ من التجارة الدولية تمر عبر السويس، لتعود على الاقتصاد المصري بعوائد بلغت في ٢٠٢٣ نحو عشرة مليارات دولار، بزيادة قدرها ٣٥٪ عن السنوات السابقة بعد حفر مصر قناة موازية لها.

لم تعلق البلاد مباشرة على هذا المشروع، رغم أنها، مثل تركيا، كانت دُعيت لأعمال قمة العشرين الهندية حيث جرى توقيعه. لكن بالعموم، يبدو أن السلطات المصرية مقتنعة بأن القناة بالفعل لا تضاهى من حيث قدرتها على النقل السريع والكفؤ للبضائع بين آسيا وأوروبا. اثنتي عشرة ساعة تقريبا تأخذها السفن لقطع البحر الأحمر عبر قناة السويس والانتقال للمتوسط، وتحتاج لنحو ٣٠ يوما  لقطع المسافة بين الهند وأوروبا عبر السويس كحد أقصى. في المقابل، لم يطرح القائمون على مشروع الكوريدور على أي نحو سيخفض الكلف والوقت. كل ما هو متوفر عن الفكرة طرحه خبراء محسوبون بشكل أو بآخر على الأطراف الموقعة على الاتفاق ويتلخص بتوفير الطريق الجديد ٤٠٪ من الوقت اللازم للشحن بين الهند وأوروبا مقارنة بالمرور عبر قناة السويس.

غزة في جغرافيا الشرق الأوسط الجديد

تعتقد واشنطن بحساسية هذا الطريق لرؤيتها الكلية في الشرق الأوسط إلى درجة تربطه -على نحو تلميحي- بهجوم حماس الأخير على إسرائيل في السابع من أكتوبر. ” ليس لدي دليل على ذلك، لكن حدسي يخبرني أن أحد أسباب هجوم حماس هو التزامنا بالدمج الإقليمي لإسرائيل، والدمج الإقليمي بشكل عام”، قال بايدن خلال لقائه رئيس الوزراء الاسترالي قبل نحو أسبوع. 

تخشى أوروبا هي الأخرى من تضرر المشروع بفعل هجوم حماس الأخير وما تمخض عنه من حملة عسكرية إسرائيلية على القطاع مرشحة للتوسع لصدام إقليمي، كما عبر عن ذلك ممثل الاتحاد الأوروبي للهند “هيرف ديلفين” في مقابلة مع صحيفة مع هندوستان تايمز الهندية.

من ناحية نظرية، يطرح عبور طريق دولي للتجارة عبر “الأراضي الإسرائيلية” تساؤلات وجيهة عن البعد الأمني، فمرور الخط من حيفا المحاذية للحدود اللبنانية يجعله عرضة لعمليات حزب الله في أوقات الأزمات. 

على أن الهند، محور هذا الفكرة، تبدو أقل توجسا من تأثير حرب غزة على استكمالها. 

“في الوقت الذي قد نواجه ببعض اختلالات قصيرة المدى تسيطر على الأذهان، إلا أننا سنواصل إبقاء قنوات التواصل مع المعنيين بالمشروع مفتوحة. هذه مبادرة مهمة للمصالح المستقبلية وليس فقط قصيرة المدى” قال وزير المالية الهندي، نيرمالا سيثارامان، قبل أسبوع خلال زيارته لحضور الاجتماع الوزاري لقمة العشرين في المغرب.

صحيح أن حماس لم تعلن عن الأهداف التكتيكية المباشرة للعملية التي نفذتها في غلاف القطاع، لكن الحرب التي نتجت عنها ربما أعادت لذهنية صناع القرار الغربيين والعرب المنخرطين في الاتفاق حقيقة بديهية ملخصها أن الازدهار في المنطقة مرتبط عضويا بتصليب الاستقرار الأمني والسياسي الهش بسبب الاحتلال الإسرائيلي. 

إضافة إلى ذلك، يبقى انهيار الوضع الأمني في المنطقة بين حين وآخر، بما يجره من احتمالات اشتعال حرب إقليمية، مقلقا لرأس المال الاستثماري الخاص الذي عادة ما يعتمده الغرب أداة لتمويل هذا النوع من الأفكار.

الصراع على الهند ومعها

اختيار الولايات للمتحدة للهند في مشروع الكوريدور ليس مصادفة، فنيوديلهي تعد شريكا أساسيا في تحالف بريكس الذي يضم الصين وروسيا ويستهدف بوضوح “خلق عالم متعدد الأقطاب” مهددا الهيمنة الغربية في عالم ما بعد الحرب الباردة. تحاول واشنطن، فيما هو واضح، إنجاز اختراق في قلب هذا التجمع الطموح واستغلال التناقض والاختلاف الصيني حول حدود البلدين.

بدأت المحاولات الأميركية الجادة لاختراق بريكس عبر الهند خلال العام الماضي حين فعَّلت واشنطن تحالف “كواد” الذي يضم نيوديلهي، طوكيو، كانبيرا، ولندن “لحفظ الأمن في المحيطين الهندي والهادي والحد من النفوذ الصيني هناك”

 توجت العلاقات الغربية الهندية لدى استقبال الرئيس الأميركي نظيره الهندي بحفاوة غير مسبوقة إلا لقلة من زعماء العالم، دعوته لعشاء عائلي في البيت الأبيض وأتاحة الفرصة أمامه لإلقاء كلمة أمام المشرعين الأميركيين في غرفتي الكونغرس؛ الشيوخ والنواب. 

اقتصاديا، رغم أن حجم الاقتصاد الصيني يفوق نظيره الهندي بست مرات تقريبا فضلا عن كون الصين أكبر دولة في العالم تعدادا، إلا أن التوقعات الغربية ل٢٠٢٧ تتحدث عن تقلص في حجم سكان الجمهورية الشعبية مقابل تزايد في نظيرتها الهندية على نحو سيجعل نيوديلهي الأعلى تعدادا في العالم. كما تذهب هذه التوقعات إلى نمو الاقتصاد الهندي سنويا بواقع اثنين بالمئة على نحو سيجعله متفوقا على الصيني في نهاية هذه المدة.  تجعل هذه الأرقام من نيوديلهي حليفا مثاليا لواشنطن لعرقلة أو تقليل زخم الحراك السياسي-الاقتصادي لدول الجنوب في مواجهة الهيمنة الغربية. 

شرق أوسط في مواجهة الصين

توِّجت التحركات السياسية الصينية في الشرق الأوسط خلال السنتين الأخيرتين بالاختراق الدبلوماسي الكبير الذي دشنته بين الرياض وطهران في ٢٠٢٣. مثلت وساطة بيكين دافعا للولايات المتحدة نحو تبني سياسة سريعة ومضادة لإعادة احتواء المنطقة أو على الأقل ضمان تجديد موقعها المركزي فيها وفي العالم تباعا.

مشروع الكوريدور يعد التجسيد الأوضح لتلك السياسة.

لم تتطور العلاقات الصينية الخليجية لمستوى لافت، ومثير لحفيظة الغرب، إلا العام الماضي حين زار الرئيس الصيني للسعودية في ديسمبر\ كانون ثاني ليلتقي بأعضاء مجلس التعاون الخليجي ضمن ما عرف بـ القمة الصينية الخليجية. 

 “الصين تزداد أريحية في علاقاتها مع مجلس التعاون الخليجي” عنون مقال لمجلس الأطلسي المقرب من الحكومة الأميركية، مشيرا على الدول الغربية  ب”التكيف مع تصاعد نفوذ الصيني” هناك.

بطبيعة الحال، لم تحدث زيارة الرئيس الصيني في فراغ سياسي؛ إذ جاءت في ظل تباعد وبرود بين واشنطن والرياض توَّجه وصف الرئيس الأميركي للمملكة بالدولة الخارجة عن القانون Paraiah عقب اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي. وفي ردها على ذلك، امتنعت الرياض عن الاستجابة لمطالبات أميركية برفع إنتاج النفط وخفض أسعاره لحماية حلفاء واشنطن الأوروبيين في الحرب التي يخوضها حلف “الناتو” بالوكالة مع روسيا بغية إخضاعها لمشروع السيادة الغربي.

أعادت الحرب لذهنية صناع القرار الغربيين والعرب المنخرطين في المشروع حقيقة بديهية ملخصها أن الازدهار في المنطقة مرتبط عضويا بتصليب الاستقرار الأمني والسياسي الهش بسبب الاحتلال الإسرائيلي. 

كما أن زيارة الرئيس الصيني لم تجر في فراغ اقتصادي أيضا.

 خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، نما اقتصاد بيكين المعتمد على التصينع بنسبة تخطت ٥٠٠٪، وتباعا زاد اعتماده على الطاقة الأحفورية من النفط الخام تحديدا. استوردت البلاد ٤٠٪ من احتياجها من دول الخليج خلال العام الماضي. مقابل ذلك، انخفضت الواردات الأميركية من الطاقة الخليجية نتيجة زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، من جهة، وتلبية الطلب المحلي من مخزونات البلاد عوضآ عن الاستيراد. بين ٢٠١٢-٢٠٢٢ تهاوت الواردات الأميركية من النفط الخليجي إلى النصف تقريبا مقاسة بقيمتها، وفق تحليل لأرقام مكتب الإحصاءات الأميركي نشرت نتائجه ورقة للمجلس الأطسلي.

أنتجت زيارة الرئيس الصيني للخليج اتفاقات طموحة وغير مسبوقة ستُستكمل خلال خمس سنوات على أقصى حد. من بين تلك الاتفاقات: زيادة الواردات من النفط والغاز الخليجي، دعم دخول رأس المال من دول المجلس للسوق الصينية، مقابل المساعدة في تمويل مشاريع التصنيع، الطاقة النظيفة، الاقتصاد الرقمي، وتأسيس منتدى للطاقة النووية للأغراض السلمية في بلدان المنطقة. وفي القطاعين الثقافي والتعليمي، ستدخل بيكين في تعاون مع ٣٠٠ جامعة ومدرسة من المراحل المتوسطة والثانوية لتعليم لغتها، تأسيس غرفة صفية ذكية لذات الغرض، و٣٠٠٠ مخيم صيفي للتبادل الثقافي للطلبة الخليجيين في الصين إضافة للمكتبات ثنائية اللغة. 

“علاقات الصداقة بين الخليج والصين تمتد على أكثر من ألف عام، وبقي الطرفان على تواصل مستمر عبر طريق الحرير، وبإلهام من القيم الشرقية المشتركة بالسلام، التعاضد والانسجام” قال بيان وزارة الخارجية الصينية حينها. 

حالة الخواف الغربي الذي تثيره العلاقات البينية الخليجية الصينية تجاوزت مجرد التحليل إلى بث معلومات استخبارية عن بدء بيكين بناء منشأة عسكرية في ميناء حمد بن خليفة في الإمارات، ما ضاعف فيما يبدو قلق الولايات المتحدة من التحركات الصينية في الخليج بوصفها متجاوزة للاقتصاد نحو تعزيز نفوذها الإقليمي على نحو مزاحم للمكانة الأميركية التقليدية في هذه المنطقة الحساسة.

تستخدم الصين الفوائض المالية لاقتصادها للاستثمار في دول الجنوب التي عانت لعقود من العلاقات غير المتكافئة مع الغرب في المرحلتين الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. تتركز مبادرات الصين الاقتصادية في قطاعات البنى التحتية والاتصالات، وتحصل في المقابل على المواد الخام، وطبعا تعزيز قوتها الناعمة حول العالم.

تعد الدول الإفريقية من بين أكثر المجتمعات انفتاحا على بيكين؛ فبعكس التجربة الغربية التي تعاملت مع القارة كمنجم كبير للصناعات الاستخراجية على نحو استنفد مقدراتها، ولا يزال، لا يمثل النشاط الاستخراجي الصيني إلا ثلث استثماراتها هناك فيما تتوزع البقية على البنى التحتية الحديثة. الأهم، أن استفادة الدول الإفريقية من برامج الدَين الصينية الميسرة تجنبها الرضوخ لشروط الدائنين الغربيين في صندوق النقد، المرتبطة عادة ببرامج إصلاح هيكلي لا يناسب أولويات القارة بالضرورة. 

ليس مستغربا، والحال كذلك، ارتفاع الاستثمار الصيني في القارة خلال العقد الأخير بأربعة أضعاف على نظيره الأميركي.  

رغم كل ذلك، وخلافا للشعوب الإفريقية، بقيت مجتمعات الشرق الأوسط  تدور في فلك المشروع الغربي في حقبة ما بعد الاستعمار، عاجزة، باستثناء بعض دول الخليج العربي، عن إحداث قفزات تنموية كالتي حققتها بعض الدول الإفريقية، فيما ظلت اقتصاداتها تعاني الآثار الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية لبرامج القروض والمساعدات الغربية المشروطة بتحرير الأسواق، سياسات التقشف، والخصخصة المنفلتة والمشوبة بقضايا الفساد والتنفع من المنصب. 

على الدوام كانت مكافحة الفساد أداة يستخدمها المانحون الغربيون متى ما دعت الحاجة ويتغاضون عنها متى ما خدمت النظم العربية في المنطقة مصالحهم. لم يَحُلْ انتشار الفساد في جسم السلطات العربية عموما، وفشلها في إحداث التنمية، دون مواصلة تقديم القروض الغربية لها. جزء كبير من ذلك الدين موجه بالأساس لدعم صناعة السلاح الغربية مقابل حماية استقرار الحكم في تلك الدول، فيما تستخدم الفوائد المرتفعة على الديون لابتزاز تلك السلطات وإجبارها على اتخاذ مواقف محددة في الأزمات الإقليمية والدولية. 

خلال العامين الماضيين فقط أعلنت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة المبادرة تلو الأخرى للقطع على التقدم الصيني، لكن دون جدوى. 

في قمة الدول الصناعية السبع في ٢٠٢١ قدمت واشنطن مبادرة “بناء عالم أفضل” أو Build Back Better World، B3W والتي تضم ٤٠ دولة “ديمقراطية” لضخ أزيد من ٤٠ تريليون دولار في مشاريع للبنية التحتية للدول التي عانت بعد الجائحة. 

لكن الخطة لم يكتب لها النجاح حتى الآن. 

خلال العامين الماضيين فقط أعلنت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة المبادرة تلو الأخرى للقطع على التقدم الصيني، لكن دون جدوى. 

سميت الخطة على غرار أخرى محلية بعنوان Build Back Better واعتبرت امتدادا دوليا لها غايته القول بأن “أن الديمقراطية قادرة على تحقيق النتائج “Democracy can deliver” على المستوى الاجتماعي والاقتصادي. عزز النموذج الصيني في الإدارة هذا التوجه، فقدرة الأخيرة على مكافحة الفقر، تطوير البنى التحتية وتوفير برامج الرعاية الاجتماعية، مقابل تراجع الاوضاع الاقتصادية في البلدان الغربية جعل الديمقراطية نفسها موضع تساؤل.

 تراجعت طموحات خطة بايدن المحلية نتيجة الاستعصاء السياسي الداخلي والانقسام الايديولجي بين اليمين واليسار، وهو ما أضعف الفلسفة المؤسِسة للمبادرة الدولية.

 في ٢٠٢٣، تبعت هذه المبادرة أخرى تحت اسم “الشراكة من أجل الاستثمار الدولي في البنية التحتية” والتي أخذت هي الأخرى اختصارا أطول قليلا Partnership for Global Infrastructure Investment، PGII، لتدشين فرص استثمارية جديدة طبقا للقيم “الليبرالية” كما تفهمها الدول الغربية: الشفافية، مكافحة الفساد، المساواة الجندرية وغيرها، أو بتعبير بيان البيت الأبيض حينها، “دول ذات تفكير متشابه”. 

مشاريع متعثرة 

تحت مظلة هذه المبادرات يأتي كوريدور الهند-الشرق الأوسط المزمع. لكنها جميعا لم تر النور بعد، وثمة شكوك حول جدواها وإمكانية تنفيذها في ظل الاستقطاب الداخلي في دول الغرب بين يمين ويسار، وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي تعيشها دول التحالف سواء بفعل الجائحة أو الحرب على أوكرانيا.

 تروج الصحافة الغربية أن المشروع سيقلل الوقت اللازم للشحن بنسبة ٤٠٪، وتباعا ستنخفض الكلف بنسبة ٣٠٪. لكن انتقادات كثيرة وجهت لواقعية التصور، إذ ستؤدي المزاوجة بين النقل البري والبحري إلى تحميل وتنزيل البضائع بين المسارات البرية والبحرية في الموانئ التي سيتوقف فيها الخط، ما يرفع من الوقت المطلوب للشحن ويرفع الكلف المترتبة على ذلك تباعا. 

فضلا عن ذلك، توحي المبادرات الأميركية لكثرتها، وسرعة الإعلان عنها (خلال عامين تقريبا أعلنت واشنطن والدول الغربية عن أكثر من أربع مبادرات إقليمية ودولية بمئات المليارات من الدولارت) توحي بتصميمها على عجل دون كثير من التروي لمعاينة آثارها وجدواها، والأهم إمكانية تنفيذها. خلافا للنهج الصيني الدولتي في الاستثمار، تقوم المشاريع الأميركية، والغربية عموما على تمويل القطاع الخاص البنكي، مثل “سيتي بانك”، أو الأممي مثل البنك الدولي إضافة إلى قروض المؤسسات الحكومية كالوكالة الأميركية للتنمية “يو أس أيد”. لم تعلن الولايات المتحدة حتى الآن عن مصدر تمويل مشروع كوريدور الهند-الشرق الأوسط.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط