الغرب وإسرائيل: استحضار التاريخ لتبرير القمع

واشنطن- عماد الرواشدة

 “المعجزة في إسرائيل، هي إسرائيل نفسها هي الأمل الذي توحي بها للعالم” يقول بايدن في آخر كلمة ألقاها أمام ممثلين عن المجتمع اليهودي الأميركي، بعد ثلاثة أيام من عملية حماس. 

قد يصلح استخدام خطاب الرئيس الأميركي نموذجا لفهم الكيفية التي ينظر من خلالها العقل الغربي لإسرائيل؛ فالمساندة الأميركية هذه المرة متجاوزة في حدودها وانتشارها كل ما سبقها في العقدين الأخيرين، عابرة للانقسام الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين، حيث هوجمت الأصوات القليلة التي حاولت تحميل إسرائيل (جزءاً) من المسؤولية عما حدث. كما ألغت الأحداث تلك الفروقات الطفيفة في التغطيات الصحفية بين المؤسسات “الليبرالية” “والمحافظة” حتى سيطرت صور الأضرار في إسرائيل على مجمل المشهد، وحضر داعموها وغاب، تماما تقريبا، الصوت الفلسطيني في المقالات واللقاءات الصحفية. 

“لو لم تكن إسرائيل، لما كان هناك يهود.” يقول بايدن ثم يوضح “إنها المكان الوحيد الذي يضمن لهم أن يعيشوا بسلام”. بهذا يقر الرئيس الأميركي أن اليهود خارج إسرائيل، في الأماكن التي جاء جلهم منها، في الغرب، لن يكونوا آمنين. إسرائيل بهذا المعنى هي الملجأ من معاداة العالم الغربي لليهود وكراهيته لهم، فسلامتهم مصانة طالما بقيت فلسطين وطنا قوميا لهم، وفق ما يحمله تصريح بايدن من مضامين. لم يعبر الرئيس الديمقراطي عن قناعة خاصة محصورة به، لكنها الحقيقة التي لا ينكرها الأكاديميون في حقل التاريخ الغربي واليهودي.

إسرائيل بهذا المعنى هي الملجأ من معاداة العالم الغربي لليهود وكراهيته لهم، فسلامتهم مصانة طالما بقيت فلسطين وطنا قوميا لهم

” الوزير بلفور نفسه كان يتملكه خليط من الصور النمطية المعادية للسامية” يقول المؤرخ الأميركي اليهودي جوناثان شنير في كتاب خصصه لوعد بلفور. لم يكن الوزير البريطاني الذي منح هذا الوعد يعتقد أن بالإمكان دمج اليهود في المجتمع البريطاني، على ما يسرد المؤرخ في مؤلفه المنشور في ٢٠١٠. ولدى بدء إجراءات المصادقة على “إعلان بلفور”، يروي شنير، كان الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية حينها “إدون مونتغ” Edwin Montagu معارضا لإعلان بلفور أيضا؛ إذ آمن أنه سيشجع معاداة السامية حول العالم، ويؤدي لطرد اليهود من أوطانهم التي يعيشون فيها؛ “فلسطين ستصبح غيتو اليهود في العالم” تخوف “مونتغ”. 

بهذا المعنى، مثل إنشاء إسرائيل سياسة غربية واعية بالتخلص من العبء الأخلاقي الناتج عن كراهية الأوروبيين لليهود وحشرهم في جيتوهات لاإنسانية على امتداد القارة. 

على أن هذه الكلمات لبايدن لم تتولد في فراغ، إذ احتشد المشهد السياسي والإعلامي الأميركي باستحضار التاريخ منذ اللحظة الأولى، واستدعيت أحداث المحرقة بشكل واع لإقامة تماثل بين حماس والنازيين، وبين مقاومة إسرائيل، وكراهية اليهود. 

“لم آت إلى هنا كمواطن أميركي” افتتح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خطابه في إسرائيل، “ولكن كيهودي”. عاد الوزير  في خطابه بالذاكرة إلى هروب أجداده من المحرقة اليهودية معتبرا أن عملية حماس رجعت بأصداء ما فعله النازيون لليهود خلال الحرب العالمية الثانية. “ما حصل ليس اعتداء على يهود إسرائيل، ولكنه اعتداء على سائر اليهود في العالم”، قال بيلنكن. في أسئلة الصحفيين لا يبدو أن حقيقة المقاومة حاضرة بأي شكل؛ الهجوم يبدو محض فعل عدمي بلا دافع حين يتساءل مراسل نييورك تايمز حائرا عن “أهداف حماس”، وفي تناغم مدهش يرد بلينكن “لا أعرف، لدي تفسير واحد، شر مطلق”.

هذه التصريحات تبدو وكأنها تمهيد لخلق تحالف دولي ليس ضد حماس فقط، ولكن ضد أي فكرة معادية لإسرائيل بحد ذاتها. الأخيرة هنا ليست فقط “غيتو لليهود” يحميهم من عسف اللاسامية الغربية، ولكنها الآن غدت تجسيدا للقيم الديمقراطية كما يفهمها الغرب فقط، وتباعا في الخطاب الغربي، تحاكي إسرائيل في ٢٠٢٣ الولايات المتحدة في ٢٠٠١ عقب هجمات أيلول، بل هجمات حماس “تفوق هجمات أيلول بثماني مرات” كما ينبه بلينكن في مؤتمر صحفي مع نتنياهو.

لم يبق إذن سوى إعلان الحرب. 

بالفعل، في الساعات الأولى من الأحداث، تداعت أربع دول تمثل أبرز قوى حقبة الاستعمار: الولايات المتحدة، إيطاليا، فرنسا والمملكة المتحدة لإصدار بيان دعم قاطع النبرة في دعم إسرائيل. ثم أرسلت واشنطن القطع البحرية العسكرية للبحر المتوسط، ولحقتها بريطانيا، تماما كما أرسلتها للخليج العربي عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. الولايات المتحدة التي ظن العالم أنها بدأت بالانسحاب من المنطقة، لم تفوت الفرصة باستعادة مكانتها وحضورها العسكري مجددا. 

صحيح أن الأحداث لا تزال في بداياتها والجزم بالأبعاد الدولية لما حدث لإسرائيل لا يزال صعبا إلا أن التوظيف الممنهج لهذه السردية وكل هذه الاستدعاءات من التاريخين القريب والبعيد تبدو مقلقة بالفعل. ففي ظل مثل هذا الخطاب التبسيطي المشيطن للمخالفين تمكنت الولايات المتحدة بعد هجمات مانهاتن من تكثيف وجودها العسكري في الخليج العربي، وإجبار دول العالم على الانخراط في حملة لمحاربة الإرهاب أدت لمصادرة الحريات الفردية ليس فقط في الدول “النامية” ولكن حتى في المجتمعات الغربية نفسها، وهو ما جسده قانون الوطنية الذي سمح لأجهزة المخابرات بالتجسس على الحياة الخاصة للأميركيين.

في الأثر المباشر، ومع تصنيف حماس باعتبارها حالة “إرهابية”، يصبح مقتل آلاف الأطفال، العاجزين، كبار السن، وعموم الغزيين “أضرارا جانبيا”  Collateral damage كما يصفه المحللون الاستخباريون على قنوات التلفزة الأميركية في تهيئة نفسية للرأي العالم ليتقبل سلفا حجم الخسائر البشرية للعملية التي ستنفذها إسرائيل

 في الأثر المباشر، ومع تصنيف حماس باعتبارها حالة “إرهابية”، يصبح مقتل آلاف الأطفال، العاجزين، كبار السن، وعموم الغزيين “أضرارا جانبية”  Collateral damage كما يصفه المحللون الاستخباريون على قنوات التلفزة الأميركية في تهيئة نفسية للرأي العام ليتقبل سلفا حجم الخسائر البشرية للعملية التي ستنفذها إسرائيل. شر لا بد منه للتخلص من “الشر المطلق”، وهو هنا حماس وفق تصنيف الرئيس الأميركي جو بايدن. ومفردة الشر Evil بحد ذاتها، لها حضور في المخيال والبنية الفكرية الأميركية والغربية عموما، من قصص الأطفال، إلى الروايات والأعمال السينمائية ينقسم العالم على نحو تبسيطي مسطح في ثنائية الخير والشر. 

استحضار “الشر” والربط بين ما حدث لإسرائيل وما حدث في الحادي عشر من سبتمبر، ليس سوى استعارة من المعجم اللغوي لإدارة جورج بوش الإبن حين أعلنت عن “محور الشر” وانقسام العالم بين من هم معها ومن هم ضدها، والفارق هنا هو الديمقراطية الليبرالية كما يفهمها الغرب وحده. 

“الدول الديمقراطية ليست كالمنظمات الإرهابية” يقول بايدن، ثم يعود بلينكن ويستخدم نفس التعبير في زيارته الأولى لإسرائيل عقب الهجوم. بوش أيضا كان اعتبر هجمات أيلول اعتداء على نمط الحياة الأميركية الغربية. “لقد هوجمت أميركا لأنها منارة الحرية والفرص في العالم” قال بوش حينها. وبالفعل، لا يضيع نتنياهو الفرصة اليوم فيعلن من فوره أن “حماس عدوة للحضارة الإنسانية”. 

يدرك العرب والمسلمون أكثر من غيرهم خطورة توظيف اصطلاحات الإرهاب، ففي ظل هذا التصنيف تمكنت الولايات المتحدة من استباحة العالمين العربي والإسلامي طولا وعرضا، بالاختطاف والسجون السرية والضربات الجوية بالطائرات من دون طيار في اليمن وأفغانستان، باكستان، سوريا، وغيرها للقضاء على “إرهاب” آخر و “شر” آخر خلال حقبة الحرب على الأرهاب. فقط في ضربات الطائرات الأميركية من دون طيار منذ ٢٠٠٢ حتى ٢٠٢١، قتلت الولايات المتحدة نحو ٤٠ ألف مدني حول العالم.

لا تطمح الولايات المتحدة لإعادة خلق الشرق الأوسط بالقوة كما فعلت في حربي العراق وأفغانستان، فيما يبدو. لكنها تبدو متحمسة لإعادة رسم منطقة تقع إسرائيل في قلبها ككيان غير منبوذ من جيرانه عبر التلويح بالقوة. تبدو أحداث اليوم مفتوحة على احتمال إدخال العالم العربي ككل، أو إجباره على الدخول، في مسار التطبيع مع تل أبيب. تقريبا هذا ما يعنيه الخطاب الرسمي الأمريكي اليوم: هنالك طريقان فقط، السلام أو حماس، وفق تعبير تكرر على لساني بايدن ووزير خارجيته. تصريحات تأتي وسط كل هذا المناخ من الشيطنة، وتقريبا تحت تهديد البوارج الأميركية. 

السياق التاريخي لنشأة إسرائيل، والتداعي الغربي الحالي لحمايتها والدفع لإدماجها غصبا في المنطقة يشير بوضوح إلى أنها كانت وستبقى مشروعا غربيا بالكامل وقاعدة شرق أوسطية للنظام الدولي الغربي كبقية قواعد هذا النظام في الصين وأوراسيا وإفريقيا. “لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان على الولايات المتحدة إيجادها لحماية مصالحها في الشرق الأوسط” كما قال بايدن قبل عقود؛ “انها أفضل ثلاثة مليارات دولار نستثمرها على الإطلاق” يقصد المساعدات السنوية لتل أبيب. وتماما كما وظف ذلك النظام الدولي على امتداد القرون الخمسة الماضية سياسات الاستيطان الإحلالية، القتل الروتيني للبشر، وسحق وإعادة هندسة المجتمعات اقتصاديا وثقافيا وقيميا، تتبنى إسرائيل الأدوات ذاتها ليس فقط في تعاملها مع الفلسطينيين ولكن مع عموم المنطقة وإن بدرجات متفاوتة. 

Like

Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط