-المراسل
نستكمل في مجلة المراسل اليوم آخر حلقات البودكاست الخاص بسجن غوانتنامو بعد أن أتم عقدين على تأسيسه العام الماضي. في الحلقات السابقة حاولنا استعراض تاريخ تأسيس السجن والسياق السياسي الذي أنتجه. كما حاولنا استعراض التجاوزات القانونية والحقوقية التي أحاطت به منذ نشأته. عمدت الحلقات السابقة جميعا إلى الإتكاء على قصتين لمعتقلين سابقين: اليمني منصور الضيفي، الذي دخله فتى بالكاد أتم التاسعة عشرة وخرج منه على مشارف الأربعين، والبريطاني من أصل باكستاني معظم بيج.
كان الضيفي قد اختطف من أفغانستان حيث كان يعمل على بحث لصالح المركز الإسلامي في صنعاء. اختطافه لم يكن مصادفة، بل جزأ من سياسية أمنية ميزت الحرب الأميركية على الإرهاب. في بداياتها، اعتمدت هذه الحرب على نظام العطايا المالية لمن يقدم معلومات أمنية عن مشتبه بصلتهم بهجمات نيويورك. المتسابقون على جني هذه الأموال كانوا أمراء الحرب في أفغانستان وأجهزة الأمن في المنطقة.
تبين لاحقا أن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن لم تكن في غالب الأحوال تعلم من هم أؤلئك الذين جرى اعتقالهم، وفي غالبية الحالات كانت المعلومات الاستخبارية المقدمة حولهم مختلقة تماما، دافعها فقط الحصول على أموال العطايا التي تقدمها السي آي ايه.
لم يحظ أي من معتقلي السجن بفرصة الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء المدني، وهو أمر آخر لم يكن ناجما عن مصادفة أو سوء طالع، فتصميم غوانتنامو كان واعيا إلى ضرورة حرمان المعتقلين من حق التقاضي أو الدفاع عن أنفسهم، لذا جرى تأسيسه خارج الأراضي الأميركي وبعيدا عن سلطات قضاء البلاد، تحديدا في جزيرة تابعة لكوبا ضمتها الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين دون أن تعتبرها جزءا من أراضيها.
كان جورج بوش الإبن رافضا تماما اعتبار المعتقلين سجناء حرب طبقا لاتفاقات جنيف، رغم أنهم اعتقلوا بالفعل في ساحة حرب الولايات المتحدة على الإرهاب. المانع الأميركي يتعلق، كما عبر بوش حينها، بحماية أفراد الجيش والمخابرات من اعتبارهم مجرمي حرب.
الغالبية الكاسحة من معتقلي غوانتنامو، كما تشير حلقات هذا البودكاست، لم تثبت صلتهم بالقاعدة أو هجمات نيويورك، لكن ذلك لم يمنع من مواصلة مصادرة سنوات عمرهم دون سند قانوني. قبل انتقالهم إلى غوانتنامو، مر المعتقلون بمسيرة ترحيل طويلة من سجن سري إلى آخر في باكستان، أفغانستان ودول أخرى، وفي كل واحد منها تعرضوا إلى تقنيات حديثة ومبتكرة في التعذيب النفسي والجسدي والذهني.
رغم كل ذلك، لم يحاسب أي مسؤول أميركي على إنشاء معتقل على هذا النحو يجري فيه الاعتقال والتعذيب على هذا النحو. بل إن مسؤولين أميركيين، مثل ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، نفى وصف تقنيات المعاملة القاسية المستخدمة ضد السجناء، والتي عرض البودكاست لأبرزها، بالتعذيب. إجبار السجناء على التنفس تحت الماء، او التعليق في سقوف الزنازين ورطم الرؤوس المنهجي بالحائط، التعرية، الحرمان من النوم والضرب المبرح كل ذلك من وجهة نظر المسؤولين الاميركين لا يرقى لمستوى التعذيب.
اللافت، أن هذا الموقف الأميركي الرسمي جرى استبطانه من قبل الإعلام والوسط الثقافي والغربي.
على امتداد السنوات التي أعقبت الكشف عن مستويات التعذيب في غواننامو والسجون السرية الأميركية حول العالم، انجرت وسائل الإعلام الغربية، مثل بي بي سي، والمثقفون الغربين، وأبرزهم كريستفور هيتشنز، لمحاولة التفكر والجدل حول ما إذا إذا كانت أساليب التعذيب الأميركية تعذيبا!
كانت سوريالية متابعة القنوات الغربية والشخصيات الليبرالية المعروفة وهي تتساءل إن كان حبس الإنسان في صندوق بعرض وطول نحو نصف متر فيما تعلو حوله أصوات صراخ الأطفال، كما أوضحت الحلقة الثانية من البودكاست، أو إغراقه بالماء وإجباره على التنفس، إن كان كل ذلك تعذيبا بالفعل.
هذه الحيرة الأخلاقية التي عمت المشهد الأوروبي والأميركي حول فكرة التعذيب وحدودها، وذاك التنصل من المسؤوليات الأخلاقية عما حصل من اختطاف واعتقالات وتعذيب وأحيانا قتل لأبرياء تحت التحقيق، كل ذلك لم ينل بعد نصيبا كافيا من التحليل والنقد في العالم ككل، وفي المنطقة العربية على وجه التعيين.
وحتى لحظة كتابة هذه السطور، يبقى السؤال معلقا، إن لم يكن كل ذلك تعذيبا، فما هو التعذيب إذن؟
في هذه الحلقة الختامية من بودكاست المراسل في موسمه الأول، سنمر على كيفية انتهاء هذه الرحلة الأليمة للمعتقلين. أو لعل الأدق، سنحاول معرفة إن كانت انتهت بالفعل.
ثمة الكثير ليقال حول غوانتنامو، وأكثر منه ليقال حول الحرب الأميركية، الغربية والعربية على الإرهاب. هذا البودكاست هو بداية لمشروع بحثي ستتواصل أشكاله في المستقبل.
يمكن الاستماع للحلقات عبر منصات البودكاست المعروفة في غوغل، أبل، سبوتيفاي وساوند كلاود كما يمكن الاستماع لها مباشرة عبر المشغل أدناه.
هذا البودكاست من إعداد وإخراج عماد الرواشدة. هندسة صوتية، لوركا محمد، ومن إنتاج مجلة المراسل.