واشنطن- عماد الرواشدة
واضحا يبدو الموقف الإسرائيلي في مسألة التطبيع، لكنه لُخِّص بوضوح أكبر في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخير في الامم المتحدة.
معظم جهود السلام فشلت لأنها بنيت على “فكرة خاطئة”، قال نتنياهو. أي تطبيع عربي يستوجب أولا التوصل لتسوية مع الفلسطينيين، وهؤلاء الفلسطينيون يشكلون ٢٪ من العرب لكنهم يملكون “فيتو” على سعي بقية دول المنطقة للتسوية مع إسرائيل لأنهم، يخبرنا رئيس الحكومة الإسرائيلية، يأملون بأن يؤدي الحفاظ على حالة العداء العربية إلى “خنق الدولة اليهودية”. يتذمر نتنياهو في كلمته من أن هذه الفكرة السائدة لم تفلح بإنجاز أي اتفاق سلام على مدى العقدين الماضيين، في حين أدى منطقه هو لتوقيع عدة اتفاقات تطبيعية مع دول خليجية بمباركة دونالد ترمب.
وفيما يبدو محاولة لاستمالة الإدارة الأميركية الحالية، يصرح نتنياهو بأمله أن يؤدي نهجه هو إلى عقد اتفاق سلام تاريخي مع السعودية وتحت إدارة “جو بايدن” هذه المرة.
منطق نتنياهو المبسط لخصه بعبارات قليلة: ينبغي أن لا تسمح تل أبيب بأن يحول الفيتو الفلسطيني دون التطبيع مع دول المنطقة. إذا ما طبع العرب ورأى الفلسطينيون ذلك، “سيتخلون عن حلم تدمير إسرائيل ويسلموا أنفسهم لمسار السلام الحقيقي”. الأقلية، وفق المسؤول الإسرائيلي ستتبع الأغلبية، دع عنك أنه لم يشر إلى الأسس التي بنى عليها افتراضه أن الأغلبية العربية مستعدة وراغبة بالتطبيع مع إسرائيل وأن الفلسطينيين مجرد كم مهمل معزول.
بعد هذه المقدمة، أبرز نتنياهو خارطة رسمت عليها اسرائيل باللون الاسود وسط محيط عربي ملون بالأصفر. وصف الخريطة بأنها تعكس حال “الدولة اليهودية” لدى تأسيسها عام ١٩٤٨ حين كانت محاطة بالعرب المعادين. قلب رئيس الوزراء الإسرائيلي الخريطة عقبها، وإذا بالدول المحيطة بالكيان، بما فيها السعودية، قد تلونت بالأخضر. “هكذا ستبدو المنطقة حين تتمكن إسرائيل من التطبيع مع الدول العربية؛ سيعم السلام، وسيخدم هذا الوضع ازدهار بلادي”.
لكن ما لم ينتبه له نتنياهو أنه في الغالبية الكاسحة من خطابه كان يتحدث عن “دولته”. عن حاجتها للسلام والازدهار والاتفاق مع جيران يبغضونها. والسؤال البديهي هنا، ما حاجة هؤلاء الجيران للسلام مع إسرائيل ابتداء؟
في نهاية المطاف لا تعاني البلدان العربية حصارا من محيط معاد كما هو حال تل أبيب. سكانها ليسوا قادمين من بروكلين أو بولندا تتملكهم الحاجة الماسة لتقبلهم في منطقة لا ينتمون لها ثقافيا. ولا يملك غالبية العرب جوازات سفر أوروبية جاهزة للاستخدام متى ما انهار الوضع اقتصاديا وأمنيا كما هو الحال في إسرائيل. وبهذا المعنى، دول الخليج، وتحديدا السعودية، ليست في حاجة ملحة لاستيعاب دولة صغيرة بحجم إسرائيل، غريبة تماما عن النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي للمنطقة، ومنبوذة شعبيا على امتداد العالمين العربي والإسلامي، لتهرول نحو التطبيع معها.
الحقيقة البسيطة، وغير التبسيطية بالضرورة، أن الخليج لا يحتاج لإسرائيل كمصدر للنفط أو الغاز أو الغذاء أو الماء. وفي وضع عربي أفضل قليلا، بقدر أكبر من التضامن، الأصل أن لا تحتاج دولة صغيرة بحجم الأردن لا للغاز ولا للماء الإسرائيلي؛ دع عنك أن تضطر للتطبيع الدبلماسي معها والمغامرة بدفع كلفه السياسية الداخلية الباهضة. هذا إن سلمنا جدلا بصحة القول أن الأردن محتاج للموارد الإسرائيلية حصرا.
نعم من الطبيعي لرئيس الوزراء الإسرائيلي أن يبحث عن ازدهار إسرائيل، لكن منطقه الالتفافي في إنجاز الاختراق السياسي مع الدول العربية لعزل الفلسطينيين يبدو عقيما تماما.
يأمل ويعمل نتنياهو على دفع الرئيس الأميركي جو بايدن نحو إقناع السعودية بالتطبيع. من جانبها، تسعى إدارة البيت الأبيض لفعل ذلك بالفعل، لكن ليس حبا في نتنياهو الذي وقفت ضده في أزمته الأخيرة مع القضاء، ولكن ببساطة لأن بايدن الذي تتهاوى معدلات قبوله في أوساط الناخبين ويبدو فاقدا للسيطرة على ذاكرته وصحته وردود أفعاله، بحاجة ماسة لأي إنجاز كبير في السياسة الخارجية. الرئيس الثمانيني كما نعلم لم يفلح بعد بإحياء الاتفاق النووي مع طهران (الذي انسحبت منه بلاده منفردة) كما أنه بات عرضة للهجوم المتكرر من مناوئيه الجمهوريين خصوصا عقب تدخل الصين للوساطة بين المملكة وإيران، وعودة النظام السوري للجامعة العربية.
لمواجهة هذه الخيبة السياسية، يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية مقتنعة بأن المخرج لا يجب أن يقل عن إنجاز اتفاق تاريخي يفوق ما أنجزه ترمب والصين سويا، وليس أقل من أن يكون هذا الاتفاق بين الدولة الحاضنة لأقدس الأماكن لمليار وثمانمئة مليون مسلم من جهة، وإسرائيل من أخرى.
لكن، لما ستحتاج الرياض تحديدا التسليم لرغبة الرئيس الاميركي بالتطبيع؟ فقط لتعطيه فرصة استعراض إنجازه أمام مصوتيه في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ أم لتمنحه مادة للدعاية السياسية قابلة للتوظيف في سباقه الانتخابي بوصفه ندا لترمب الذي وقع اتفاقات ابراهيم، وللصين التي توسطت في حل النزاع الايراني السعودي؟
الحقيقة أن الرياض ليست فقط بغنى عن تل أبيب، لكنها بوسعها في المدى المنظور الاستغناء عن واشنطن نفسها. بعد إبرام الاتفاق مع إيران بضمان دولة بحجم الصين، لا يوجد ما يمنع، نظريا على الأقل، من انزياح الرياض أكثر نحو الشرق. بوسع المملكة ابتياع السلاح من الصين وروسيا إن اضطرت لذلك، وهذا بالفعل ما لمح له ولي العهد السعودي في لقائه الأخير مع قناة فوكس نيوز الأميركية. أكثر من ذلك، لا تمثل الولايات المتحدة باقتصادها القائم على الدين والخدمات شريكا مهما فعلا للسعودية التي تسعى نحو الولوج لمرحلة التحديث والتصنيع، يلحظ أستاذ الاقتصاد السياسي والباحث السابق في معهد هدسون، مايكل هدسون. الصين تبدو الوجهة الأكثر ملائمة للرياض اليوم، يرى هدسون.
تحاول واشنطن وتل أبيب الاستثمار في العداء العربي الإيراني لإنفاذ سياساتهم في المنطقة. والحال كذلك، يبدو ذلك العداء بأمس الحاجة اليوم إلى قدر كبير من العقلنة بعيدا عن الهوس الأميركي بتأجيج الصراعات وإدارتها لمنفعة حفنة من شركات المجمع الصناعي العسكري وجماعات الضغط الأخرى. لا يبدو أن من مصلحة العرب، وتحديدا السعودية، الإبقاء على هذا المستوى من العداء لإيران. وغني عن القول أنه ليس من مصلحة إيران المحاصرة أيضا. هذا النهج العدائي جربه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، مدعوما من أصدقائه الأميركيين أيضا، من دونالد رامسفيلد تحديدا، وقد رأينا عيانا أين انتهى منطقه.
الحقيقة الأخرى التي ينبغي التنبيه لها دائما، أن السياسة الخارجية الأميركية تُرسَم في جزئها الأكبر من خلال مجموعات المصلحة في المجمع الصناعي العسكري الذي ينفق كل عام عشرات الملايين من الدولارات في أروقة الكونغرس على أنشطة الضغط. ليس هناك من خطر أكبر على مصالح الشركات الخاصة المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأميركية من المساعي السعودية لإطفاء الصراعات في المنطقة من اليمن، إلى سوريا، العراق وإيران.
يقول بن سلمان إن نهوض المملكة يحتاج نهضة عربية موازية وشاملة، وهو محق. التاريخ يخبرنا بذلك.
منذ النصف الثاني من القرن السابع الميلادي وحتى بداية عصر الاستعمار، مع استثناءات في محطات تاريخية معينة، وهذه المنطقة (الجزيرة والمشرق والمغرب) تتصرف دوليا ككتلة واحدة، وقد كان ذلك على الدوام مصدر قوتها والضامن لمكانتها. لكن نهوض السعودية ومعها المنطقة، على الأقل وفق منطق العهد الجديد في الرياض، لا يمكن له النجاح دون إيمان موازي من شعوب تلك المنطقة ليس فقط بالمسعى، لكن بالقائمين عليه.
يصعب الاعتماد على شعوب مستسلمة مهزومة في مشروع تاريخي للنهوض. لذا، لنتفق أن فلسطين ليست مجرد قطعة أرض محتلة في الوعي العربي المسلم والمسيحي، القصة أعمق بكثير. ثمة سردية عمرها أكثر من عشرة قرون تشكلت فلسطين في داخلها كرمز ديني، روحي وحضاري للسواد الأعظم من سكان المنطقة. هذه حقيقة لا يبدو تجاوزها ممكنا، وبالتأكيد لا يمكن محوها بمبادرة هنا أو هناك، ولا باتفاقات تطبيع تخدم بالدرجة الأولى زعماء أجانب يجهدون للحفاظ على مكانتهم السياسية الهشة.
كلفة السير بالضد من هذه الإرادة الشعبية في عموم العالم العربي والإسلامي، هي خسارة الرصيد السياسي للساعين في مثل تلك المبادرات. إن كان ينبغي للرياض استنهاض المنطقة كما تعلن في خططها للتحديث، فربما كان عليها الحفاظ على مثل هذا الرصيد والاستثمار فيه، لا تبديده.