عن إدوارد سعيد: الكلمة الأغبى

تأمّلات “كريستوفر هيتشنز” حول صديقه وخصمه

كريستوفر هيتشنز، عمران قريشي

ترجم المقابلة للعربية: تقوى مساعدة


مقدمة المحرر:

نشرت هذه المقابلة في ٢٠٠٥ في العدد الخامس من مجلة “بدون” وأجراها “عمران قريشي”.

كان الصحفي البريطاني “كريستوفر هيتشنز” قد غادر بريطانيا أواخر الثمانينيات واستقر في الولايات المتحدة صحفيا يعمل لصالح جريدة “الأمة” The Nation، الصحيفة الوحيدة التي يمكن اعتبارها تمثيلا للمعارضة الجذرية في البلاد. 

عرف عن “هيتشنز” فصحاته، جزالته الإنجليزية في التعبير عن أفكاره، مهارته في الجدل والإفحام، سعة اطلاعه وثقافته، والأهم جذريته في نقد السياسات الأميركية والإسرائيلية، إذ كان من القلة في الغرب التي تجرأت على معارضة عموم المشروع الصهيوني.

لكن “هيتشنز”، وهذه إحدى تلك الزوايا المثيرة للاهتمام في مسيرته، انقلب بشكل شبه كامل على غالبية أفكاره بعد هجمات أيلول في “نيويورك” والحرب على الإرهاب، انخرط فيما يشبه الحملة ضد المسلمين وثقافة المنطقة العربية، دافع عن حرب العراق الثانية رغم معارضته الشرسة للأولى بداية التسعينيات، وتردد في إدانة الانتهاكات الأميركية من تعذيب وسجون سرية خلال حقبة الحرب على الإرهاب. وصفه كثر لاحقا باعتباره من المحافظين الجدد، لكنه بقي مصمما، إلى ما قبل وفاته بالسرطان في ٢٠١١ على كونه يساريا أمميا internationalist علمانيا تنويريا. 

ل”هيتشنز” تراث فكري يميني بالقدر الذي يمتلك فيه تاريخا يساريا شرسا في معارضته لسياسات واشنطن والغرب في علاقتهم مع الوطن العربي ودول الجنوب. 

صادق إدوار سعيد في حقبته اليسارية، ثم تدهورت معرفتهما عقب ميله نحو المحافظين الجدد. 

رغم ذلك، بالنظر لعلاقته القريبة، في بعض المحطات، من “سعيد” وجدنا في “المراسل” أن من المفيد إعادة نشر هذه المقابلة بحكم الإضاءات التي تمنحها على بعض الجوانب المثيرة للاهتمام في مسيرة الرجلين.

تقدم هذه المادة فرصة للاطلاع على بعض أفكار “سعيد” من زاوية رؤية الرجل الأبيض، بقدر ما تتيح النظر في بعض منطلقات مثقف غربي (هيتشنز) في تحوله لأقصى اليمين في مناخ دولي كان أبرز سماته تشظي اليسار وحركة الممانعة الدولية لاقتصاد السوق الاحتكاري، سياسات التوسع العسكري والحروب، وهيمنة الليبرالية الجديدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


التقى “كريستوفر هيتشنز”، كاتبُ المقال في مجلّة “فانيتي فير” وعاشقُ الشّرق الأوسط بـ”إدوارد سعيد” لأوّل مرّة سنةَ 1976.

يناقش “هيتشنز” في هذه السطور صداقتَهما اللّدودة مع “عمران قريشي”. 

عمران قريشي: إذن هذا عددٌ خاص يتناول الأيقونات و …

كريستوفر هيتشنز: أهو كذلك؟ حسنًا. إذن يجب أن أقول أولاً إنني أعتقد أن كلمة “أيقونة” هي الكلمة الأغبى في خطابنا الحالي، ولن يخسر أحدٌ شيئًا إذا تخلّينا عنها. إنّها كلمةٌ سخيفةٌ، إنّها تنازلٌ يقدّمه المثّقفون لـ”ثقافة المشاهير” (celebrity culture)، ومن الأفضل حظرها. ولكن إن افترضنا أن لها أيّ معنى على الإطلاق، وإن كان من الممكن استخدامها على صديقي الرّاحل “إدوارد”، سيكون المعنى أنّه كان كاتبًا عظيمًا عن الثّقافة الغربية، وخاصةً عن الأدب الإنجليزيّ. كانت يتمتّعُ بروح الدّعابة والسّخرية التي أتاحتْ له المشاركةَ في مناقشاتٍ أدبيّةٍ رفيعةِ المستوى في الغرب مع أنّه كان ينتمي إلى شعبٍ لم يكن مكانه آمنًا على الخريطة.

عمران قريشي: صحيح.

كريستوفر هيتشنز:  يمكننا القولُ إنْ أردتَ أن هذا هو الجزء الأيقوني منه. أمّا  كشخص، فقد كان أيقونيًا أكثر بكثير لكونه ساحرًا جدًا وإنسانيًا جدًا ومفعمًا بالحيوية وصعبًا جدًا.

عمران قريشي: كان صعبًا بأيِّ معنى؟

كريستوفر هيتشنز: حسنًا، كان هنالك جانبٌ فيه شهدَ على وجوده جميعُ أصدقائه المقرّبين، لعلّه نابعٌ إلى حدٍّ ما من كونه شخصًا يتمتّعُ بامتيازاتٍ وينتمي لشعبٍ محروم. أتذكّر أنّه قال لي ذات مرّة عندما كنتُ أجري مقابلةً معه إنّه لم يذُق بنفسه مرارةَ كونه لاجئًا أو فلسطينيًا طُرِدَ من دياره قسرًا. وبالرّغم من أنّه فقدَ منزله، وفقدتْ عائلته أملاكها، إلّا أنّه في الواقع لم يُطرد شخصيًا بركلةِ حذاء أو تحت تهديدِ بندقيّة، لذلك يشعر بغموضٌ يلفّهُ غموض. كان يشعر، باعتباره صاحبَ امتيازاتٍ ينتمي لهذا الشّعب المضطهد والمشتَّت والمنسيّ والمفرَّق، أنّه ملزمٌ بأن يجهَر بالقول. إلّا أن هذا قد عرّضه بالطّبع لانتقاداتٍ مفادها أنه كان يضخّم القضيّة، أو أنّه كان في الواقع يقلّلُ من شأنها. لذلك كان يشعر أنّه خارج المكان، على حدّ تعبيره، في السّرد من ناحية، وأنّه خارج المكان لعيشه في الغرب من ناحيةٍ أخرى، ولكونه ناجحًا جدًا ومَثارًا للإعجاب هنا.

على أيّة حال، فإن الشّفقة على الذّات التي كانت تبدو عليه في بعض الأحيان، والتي اعتاد عليها جميع أصدقائه، كانت من أشكال الحساسيّة المفرطة النّاجمة عن التّعرُّض للنّقد. لم يكن يقبل أبدًا، أو يجدُ صعوبةً في أن يرى أن أيَّ انتقادٍ يُوجَّهُ إليه، مهما كان خفيفًا، ليس انتقادًا شخصيًا بطريقةٍ ما، أو مبنيًا على ذلك التّحيُّز المشؤوم، وأعتقد أن هذا كان أكبر مثالبه.

عمران قريشي: متى قابلت “إدوارد” لأوّل مرّة؟

كريستوفر هيتشنز:  التقيتُ به سنةَ 1976 في قبرص في نيقوسيا، في مؤتمرٍ حول حقوق الدّول الصّغيرة ذات الشّعوب الصّغيرة. تكلّمتُ باسمِ القضيّة القبرصيّة اليونانيّة، وتكلّم هو باسم القضيّة الفلسطينيّة. التقينا، واندمجنا على الفور. كنتُ في طريقي إلى إسرائيل والضّفة الغربيّة فاقترح عليّ بعضَ الأشخاص ممّن يمكنني التّواصل معهم، وبعضَ الأشخاص في جامعة بيرزيت الذين قد أستشيرهم، وما إلى ذلك. في تلك المرحلة لم يكن على استعداد للذّهاب بنفسه لأنه لم يكن يريد أن يرى جنوداً إسرائيليين أمام منزله القديم. التقيتُ به مرّةً أخرى بعد ذلك بسنة في نيويورك، عندما ذهبتُ لرؤيته في كولومبيا، وأعتقد أنه دعاني بعد ذلك إلى منزله. أظنّ أنّه كان قد نشر “بدايات” في ذلك الحين.

عمران قريشي: متى بدأتما تتواصلان وتلتقيان بشكلٍ اعتياديّ؟

كريستوفر هيتشنز:  حسنًا، كان كثير التردُّد على لندن، وكنتُ ما أزال مقيمًا فيها، لم أنتقل إلى الولايات المتّحدة حتّى عام 1981. أذكرُ أنّني عرّفته في تلك المرحلة على محرّري مجّلةِ New Left Review الذين كانوا مهتمّين جدًا بلقائه. يخطر ببالي “بيري أندرسون” و”روبن بلاكبيرن”. بوسعي أن أتذكّر غداءً رائعًا تناولناه جميعًا في لندن لمناقشة اهتماماتنا المشتركة. ثم عرّفتُه على “ألكسندر كوكبيرن” في نيويورك سنةَ 1981 عندما انتقلتُ للسّكن هناك. حاولت باستمرار أن أعرّفه على أشخاص لينشروا له في إنجلترا. في أواخر عام 1977 وأوائل عام 1978، أذكر أنني أقنعته بأن يكتب للصّحيفة التي كنتُ أعمل فيها آنذاك.

عمران قريشي: هل ترى أن “إدوارد” كان رمزًا لنظامٍ عالمي باعثٍ أكثر على الأمل، هل تراه كشخصٍ اجتاز الحدود؟

كريستوفر هيتشنز:  طبعًا! كان “إدوارد” بالنسبة لي تصوّرًا مسبقًا لما كان يأملُ المرء أن تكون عليه فلسطين، الدّولة الفلسطينيّة المستقبليّة: أن تكون متعلّمةً وديمقراطيّةً وعلمانيّة وأمميّة. كان يجمع كلَّ الصّفات التي كان المرءُ يأملُ أن تلتزم بها الدّولة أو تلازمها. ولهذا السّبب كان يحظى باحترامٍ كبيرٍ، لفترةٍ على أيّة حال، كمتحدّثٍ باسم القضيّة الفلسطينيّة في التّلفزيون وفي وسائل الإعلام، لأنه بدا عكسَ الانطباعِ العامّ الذي كان يعطيه “عرفات” كشخصٍ مريبٍ، ديماغوجيّ، فاسدٍ، مشرقي، أيّاً كان الافتراء الذي تريد الأخذ به.

اسمح لي أن أذكر شيئًا آخر أشعرُ أنّه يتعيّن عليّ ذكره، وهو أن أسعد حالات “إدوارد” كانت عندما يتحدّث عن الموسيقى (وهي ليست موضوعي المميّز على الإطلاق).

عمران قريشي: فيما يتعلق بحسّه الموسيقيّ، شاركَ في نهاية حياته بتأسيس أوركسترا الديوان الغربي الشّرقي. هل سبقَ لك أن حضرتَ عرضًا لها؟

كريستوفر هيتشنز:  لم أحضر، لكنني شعرتُ أنني كنتُ حاضرًا هناك بروحي. أنا لستُ موسيقيًا، ولا أذهب إلى هذه الأشياء، ولستُ مؤهّلاً للحكم. ولكنني لاحظتُ أن اسمها مستوحى من مقالة “غوته” الشّهيرة عن الاستشراق، وأعجبني ذلك، على سبيل المزاح، وأعجبني الكثيرُ مما كتبه “إدوارد” عن الاستشراق. لا شكّ في أنّه فتح بابًا مذهلاً للنّقاش في كتابه العظيم ذاك. لكن مع مرور الوقت، استطعتُ أن أرى أنّه عانى، كما تعاني كلّ الكتب العظيمة من تناقُص الأثر، وقد أدّى هذا، للأسف، إلى خلافٍ أكبر معه.

عمران قريشي: عمَّ كان هذا الخلاف؟

كريستوفر هيتشنز: لقد لاحظتُ عدّة مرّات خلال الثّمانينات والتّسعينات أن “إدوارد” كان منزعجًا قليلاً من التّأثير الذي كان يُحدِثه في عالم الأكاديميا. صعودُ ما نسمّيه عادةً الصّوابيّة السّياسيّة، والتّركيز الصّريح على النّوع الاجتماعيّ أو الإثنيّة أو العرق، واستخدام هذه المعايير لتقييم الأدب، كنتُ أعرفُ أنّها أمورٌ تزعجه. وكنت أعرف أن ذلك كان يزعجه أيضًا لأنه كان يشعر أحيانًا أن من يفعلون ذلك – إن لم يكونوا أبناءه – فقد كانوا ممن يودّون لو كان أبًا لهم. كنتُ أعلمُ أنّه يشعر بذلك الاستياء، وقد حدّثني عن الكثير من مواقفِ الدوغماتيّة البائسة التي واجهها في عالم الأكاديميا نتيجةً لذلك. عندما حان وقت إعادةِ نشرهِ لكتاب ” الاستشراق” في ذكرى صدوره الخامس والعشرين، وحان وقت إعادةِ تقييمه، وكتابة مقدّمةٍ جديدة، لم يؤكّد علنًا بشكلٍ أو بآخر، أو لم يسمح حتّى، بما أقرَّ به أمامي على انفراد. لقد دافع بقوّةٍ نسبيًا عما كان الناس يحسبون خطأً أنّه موقفه، وهو أن كلّ شيء إمبرياليّ أو ما بعد استعماريّ، وأنّه لا يوجد استقلالٌ للمساحات المختلفة التي يمكن فيها تقييمُ تأثيرِ الشّرقِ والغرب. وكان عليّ أن أراجعَ تلك الطّبعة الجديدة من مجلّة أتلانتيك الشّهريّة، وكان عليّ أن أشير إلى ما رأيته قصورًا فيها، (طبعة كتاب الاستشراق) وكنت أعرف أن “إدوارد” سيتحسّس من ذلك، وهذا ما حدث بالفعل.

عمران قريشي: كتبتَ في  مقال مجلة الأتلانتيك أن سعيد كان طفلَ الامتيازات العالميّ، ولعلّه كان المفسِّرَ العظيم، لكنّه اختار نهجًا أحادي الجانب واستخدم منظورًا إجماليًا إلى حدّ ما. ماذا قصدتَ بذلك؟

كريستوفر هيتشنز:  قصدتُ أنّه بالنّسبة لشخصٍ مسيحيّ فعليًا، ولديه خلفيّةٌ أنجليكانيّة في القدس، ولا يتعاطف أبدًا مع الإمبرياليّة التركيّة، أو مثلاً مع الأصوليّة الإسلاميّة، والذي اعترف لي في كثير من الأحيان أنه ما كان ليستطيع  على المستوى الشّخصيّ أن يعيش في دولةٍ إسلاميّة، ناهيك عن العيش في دولةٍ أصوليّةٍ إسلاميّة، أنه مع ذلك كان يشعر أن العيش في الغرب، كما كان يعيش هو، جعل من الحريّ به أن ينقلَ الانتقادات من ذلك العالم إلى الغربيين، الذين كانوا بحاجةٍ إلى تنفيسِ رضاهم المنفوخ عن أنفسهم، أكثر من استخدامِ سلطته لتوبيخ الإسلاميين، والشّموليين الكامنين في الجزء الشّرقيّ من العالم، إذا جاز التّعبير. بدأتُ أفكّر مع مرور الوقت أن الخلل يشوب توازناته بشكلٍ متزايد، وبدلاً من أن يكون مترجمًا رائعًا، ومترجمًا متبادلاً، ومُفسِّرًا، فقد آثَرَ ترديد وجهاتِ نظرِ قوىً غالبًا ما تكون متعصّبةً وخطرةً للغاية. سيكون المثال الدّقيق الذي أعطيه هنا هو  كتابه الأسوأ حتّى الآن وهو كتابٌ يُسمّى “تغطية الإسلام” كتبه بعد الثّورة المضادّة، كما أصفها، التي قادها الخميني في العراق، حيث شعرَ أن واجبه الرّئيسي هو أن يُظهر ببساطة للصّحافة الغربيّة أنّها قلّلتْ من حقيقة أن الخميني كان يعتنقُ فكرًا أصوليّاً، وقد فعلت ذلك لأسبابٍ ما بعدِ استعماريّة مشكوكٍ فيها عرقيًا ومتحيّزة ثقافيًا. وبقدر ما كان ذلك صحيحًا، لقد كان صحيحًا، ولكن كان هناك بلا شك موافقةٌ غير مباشرةٍ على ثورة الخميني المضادة. وفكّرت …

عمران قريشي: كيف يمكنك أن تقول ذلك …

كريستوفر هيتشنز: … شعرتُ بذلك منذ ناقشنا هذا الأمر لأوّل مرّة، والتي كانت في أمسية كارنيغي سنة 1980 أو 1981 في نيويورك، شعرتُ أن هذا  سيؤدّي ذات يومٍ إلى شجارٍ أكبر بيننا، وهو ما حدث بالفعل.

عمران قريشي: لكن هذا يبدو متناقضًا مع قراءتي له. كلُّ ما قرأته من كتابات “إدوارد” كان ينتقدُ الأصوليّة بشدّة. في أعقاب التّقديم الجديد لكتاب “الاستشراق”أعرب عن أسفه لاستيلاء الإسلاميين عليه حيث كنت ترى الكتاب في معارض الكتب الإسلاميّة، وأمور من هذا القبيل. فكيف شعرتَ أنّه كان …

كريستوفر هيتشنز: آه، حسنًا، هذا هو الفرق، هنا بالضّبط …

عمران قريشي: لكن، لكنّك…

كريستوفر هيتشنز: … لهذا السّبب بدأ الخناق يضيق، فبالرغم من أن “إدوارد” كان يقول في كلّ تصريحاته الرّسميّة، سواء كانت عن الرّقابة في العالم العربيّ، أو تخلُّف الجامعات العربيّة، أو قمعيّة النّظام العربيّ أو الإسلاميّ، أو قبحِ وغباءِ حكمِ الشّريعة الإسلاميّة، أو التّخريب الإرهابيّ الإسلاميّ، إلا أنه كان دائمًا على صوابٍ رسميًا. كان يقول دائمًا ما يتوقّعه المرء من شخصٍ إنسانيّ وعاشقٍ للأدب ومحبٍّ للتّعدديّة، لكنني بدأتُ ألاحظ – بات من المستحيل ألّا ألاحظ – أنه بينما كان يؤمن بتلك الأمور، إلا أنّه لم يستطع أبدًا أن يوافق على أن هنالك ما يبرّرُ أيَّ سياسةٍ مقاوِمةٍ لهذا من قِبل الغرب، وخاصّةً من قِبل الولايات المتّحدة.

عمران قريشي: ربما كان ينظر إلى العالم من خلال منظور الوعي الفلسطينيّ، وكان مشكِّكًا بالدّور الذي رأى الولايات المتّحدة والقوى الإمبرياليّة تلعبه هناك، وكان مشكِّكًا به بشكل عام في أماكن أخرى.

كريستوفر هيتشنز:  حسنًا، ليس لديّ شكٌّ في أن هذا صحيح، لكن الحجّة النّابعة من الكيل بمكيالين ليستْ حجةً يمكن للمثقّف أن يقحم نفسه فيها. يمكن لأيِّ أحمقٍ أن يقول: حسنًا إذا كنت مستعدًا للوقوف في وجه “صدّام حسين”، لماذا لا تريد في الوقت نفسه أن تقف في وجه “روبرت موغابي”. إنّها طريقةٌ لتغيير الموضوع. بالطّبع هؤلاء النّاس لا يؤيدون أبدًا الوقوف في وجه كليهما. وليس الأمر كما لو أن قضيّةَ فلسطين مُهمَلةٌ من قِبل أي شخص يكره “صدام حسين” مثلاً أو “أسامة بن لادن” أو طالبان. أعتقد أن للأمر تأثير مؤسف يعزّز في أذهان النّاسِ الفكرةِ القائلةَ أن جميع الأشخاص غير البِيض الذين يعيشون في منطقة الشرق الأوسط الكبير متشابهون، وأن دينهم دينٌ للسُّودِ أو السُّمر، وبالتّالي لا يمكن فصلُ سؤالٍ عن الآخر. ولا يتعيّن عليّ أن أثبت لك لماذا هذا خطأ.

عمران قريشي: أتذكّر أنّك شاركتَ في مناظرةٍ مع “برنارد لويس” و”ليون ويسلتير” إلى جانب “سعيد” سنة 1986، ويبدو أنك و”إدوارد” كنتما تدعمان الرّأي نفسه. ومع ذلك، اختلفتْ آراؤك السياسيّة اختلافًا حادًا عن آراء “إدوارد” بعد أحداث سبتمبر. كيف اختلفت، إلى أي اتّجاهٍ ذهبت؟

كريستوفر هيتشنز:  حسنًا، ليس مهمًا ما كانت عليه آرائي السّياسيّة.

عمران قريشي: أحاول أن أفهم الخلافات بينك وبين “إدوارد”.

كريستوفر هيتشنز:  كانت هذه الخلافات نسخةً أكثرَ حدّةً من خلافنا حول البوسنة، حيث تدخّلت الولايات المتّحدة لتَحُول دون الفتك التّام بأقلّيّةٍ مسلمةٍ عثمانيّةٍ رسميًا، وهو ما رأيتُه أمرًا ضروريًا ومرغوبًا. في الواقع كنتُ سأنتقد الولايات المتّحدة لوقوفها مكتوفة اليدين، ولقد انتقدتُها. قد يبدو ذلك تجاهلاً للآثار المترتّبة على ذلك التّدخُّل، وعندما فكّر في المنطقة التي يتمتّع فيها بثقةٍ أكبر أو سلطة أكبر، بدا أنّه يعاني من نفس المشكلة. سيجيب: نعم، “صدّام حسين” طاغيةٌ وقاتلٌ فظيع، لكنّه لن يوافق على أيِّ مسار عملٍ للإطاحة به إذا انبثقَ مسارُ العملِ هذا من الولايات المتّحدة. بعبارةٍ أخرى، قال إن الولايات المتّحدة ليس لها الحقُّ في اتّخاذ موقفٍ حيال هذا الشّأن. أدهشني هذا الرّأي آنذاك، ويذهلني الآن، باعتباره موقفًا عقيمًا تمامًا، حتّى لا أقول المزيد عنه.

عمران قريشي: لقد ظهرتَ ذات مرّةٍ على المنصّة مع إدوارد سعيد، لكنني أراك الآن على المنصّة مع “ديفيد هورويتز”، الذي يصفُ “إدوارد” بأنّه إرهابيٌّ حقيقيّ. ماذا حدث؟

كريستوفر هيتشنز:  لقد وقعتْ عدّة مشاجرات بيني وبين “ديفيد هورويتز” و”دانيال بايبس” وآخرين – ماذا يجب أن نسمّيهم؟ محافظون جدد جزئيًا (Neo-Con)، وصهاينة جزئيًا، وقد نسميهم ببساطة منتقدين يمينيين – سواء في منشوراتي أو وجها لوجه، حول تشهيرهم بـ”إدوارد”، وإيمانهم بأن الفلسطينيين لم يتعرّضوا لأيّ ظلمٍ أساسًا، وأنه لم تكن هناك محاولةٍ لإعادة كتابة تاريخ عاميّ 1947 و 1948. على كلِّ شخصٍ يريدُ تشويه سمعةَ “إدوارد”، أو يريد القول إنّه فبركَ قصّة حياته، أو أنّه ركّبَ قصّةَ معاناةِ الشّعب الفلسطيني أو بالغَ فيها، أن يعرفَ أنّني سأكونُ عدوّه اللدود دائًما.

عمران قريشي: هل تعتبر نفسك من المحافظين الجدد؟

كريستوفر هيتشنز:  أنا لست محافظًا من أيّ نوع. لم أكن محافظًا قطّ، ولن أكون محافظًا أبدًا. هذه هي الإجابة البسيطة، والتّسمية المغلوطة للمحافظين الجدد Neo-Con صاغها، على ما أعتقد ، صديقي القديم “مايك هارينجتون”…

عمران قريشي: هذا صحيح، “مايكل هارينجتون”.

كريستوفر هيتشنز:  في الواقع، يقول البعض إن “بيتر شتاينفيلد” هو من أشاعَ استخدامَ الكلمة، ولعلّه فعل، لكنّني متأكّدٌ من أنّها كانت صياغة “مايك هارينجتون” الذي كان للأسف شخصيّةً حزينةً، كان فاشلاً ومؤيّدًا لـ”دوروثي داي” – شبه اشتراكيّة من جماعة لاهوت التّحرير الكاثوليكي التي لم تعدْ منظّمتها موجودةً الآن.

عمران قريشي: لو كان “إدوارد” على قيد الحياة اليوم، فما الذي كان سيعمل عليه، وماذا كان سيفعل؟

كريستوفر هيتشنز:  حسنًا، لو كان “إدوارد” على قيد الحياة اليوم، وهو ما أتمنّاه لأسباب عديدة، لأنني كنتُ أبتهجُ دائمًا برفقته، وأستمتعُ دائمًا بنقاشاتنا حتّى عندما باتت… حتى لو غضبَ أحدنا. ولهذا أشتاق إليه. أتمنّى لو كان ما يزال على قيد الحياة لكلّ هذه الأسباب، لكنني أتمنّى أن أعرف، ليتني سمعتُ منه ما كانت ستكون ردّة فعله حيال إنهاء الهيمنة السّوريّة المباشرة ،على الأقلّ، في لبنان وهو أمرٌ كنت أعرفُ أنّه يهمّه كثيرًا. كان يحبُّ بيروت. كرهَ رؤيتها تحت الاحتلال السوري. كنت أتمنّى لو أرى ردّةَ فعله على ذلك. كنتُ أودّ بالطّبع أن أرى ردّه على الانتخابات العراقيّة، وعلى جميع التّطورات الجارية في المنطقة، وخاصّةً في مصر، إذ يقول القضاة الآن إنهم لن يستمرّوا في المصادقةِ على انتخاباتٍ مزوَّرة. كانت هذه هي الأشياء التي كان يدعو إليها ويلفت الأنظار إليها. أودّ أن أعرف منه، وأودُّ أن أناقشه علنًا: أيمكنك أن تقول فعلاً يا “إدوارد” أن ليس لهذا علاقةٌ بالسّياسة الأمريكيّة في المنطقة؟ أترى حقًا أن هذه الأشياء كانت ستحدث على أيّة حال، أو ما كان ينبغي أن تحدثَ إذا انطوتْ على استخدامِ القوّة العسكريّة الأمريكيّة؟ فقد كان هو الموقف الذي أصرّ عليه حيال البوسنة. وأتساءل كم كان بإمكانه الاستمرار في الجدال معي ومع “عزمي بشارة” ومع آخرين.

عمران قريشي: أيخطر ببالك اليوم أيُّ شخصٍ آخر قادر على تجاوز الحدود والتّخوم ببراعةٍ كما تجاوزها هو؟

كريستوفر هيتشنز:  لا، لا أعرف المرشّحين المخفيين أو الممكنين، لكنني أعلم أنه لا يوجد أحدٌ ولن يكون هنالك أحدٌ تصغي له آذان النّاس في الغرب، أقصدُ أن أقول في أوروبا – حيث يمكننا أن نتحدّث على الأقلّ بضع لغات – وفي أمريكا، لا يوجد، من سيكون التّرجمان،  المترجم، جالب الأخبار والتّفسير. لا يوجد أحدٌ مثله يمكنه القيام بذلك الآن في اتّجاهٍ واحد، أمّا القيام بالمهمّة في الاتّجاه الآخر، فهي المهمّة التي رفضها بعض الشّيء – المهمّة، المسؤوليّة التي رفضها في النهاية – فلن يأتي غيره، إلّا إذا كان شخصًا يتمتّعُ بنفس الخبرة والسُّلطة. لذلك أشعرُ بوجود عنصر مأساويّ في حياته وعمله. كانت هنالك فرصةٌ كبيرةٌ أضاعها ليكون المفسِّر، المترجم، ليكون شخصًا يحقّق التبادليّة، شخصًا يريدُ إمبرياليّةً أقلّ في الغرب ومزيدًا من الديمقراطيّة في الشرق، حتّى نبسّط الأمر بشدّة. حتى نعرف ما إذا كان من غير الممكن الجمع بين هذين الموقفين. لكن عندما يتعلّق الأمر باختبار هذه المواقف فقد كانت وجهة نظره على الدّوام أنّها متضادة ولا يمكن التّوفيق بينها.

لو سألتُ نفسي عن أقوى ذكرياتي عن “إدوارد”… فالذّكريات كلّها قوية. من بينها التّحدُّث معه في تجمُّعٍ حاشدٍ في كولومبيا دفاعًا عن الانتفاضة الأولى، ومناقشات كثيرة معه حول لقائه مع “جورج شولتز” وآخرين في محاولةٍ لوضع ركائزٍ لصوتٍ فلسطينيّ مستقل في المفاوضات في الشّرق الأوسط، ذكريات لأمسياتٍ في لندن وباريس وأماكن أخرى، وفي نيويورك. ما زال بإمكاني أن أحدّد بسهولة أفضل أمسية قضيتها معه. كان عليّ أن أكتب مقالاً عن رواية “دانيال ديروندا” من تأليف “جورج إليوت” – المقال الذي تناول اليهوديّة السريّة داخل المجتمع الإنجليزي – وأعطاني “إدوارد” نوعًا من الشّرح التّوضيحيّ بعد العشاء في شقّته في نيويورك، وقائمة كتبٍ لأقرأها. لقد جعلني أتمنّى حقًا لو كنتُ تلميذه عندما كنتُ صغيرًا. كان “إدوارد” كلَّ ما يمكن أن تتمنّاه كدليلٍ لما يمكن أن تقرأه عن الرّواية، وكيف تفكّر بها، وعن رأي مجلّة Who’s Who حيالها. لم يكن يعرف مسبقًا عن  سؤالي. لم تكن لديه أدنى فكرة. لم يكن يعرف عندما جئتُ لتناول العشاء أنّني أريدُ أن أسأله عن هذا الأمر. لقد كانت مناقشةً غير رسمية تمامًا ومرتَجلةً نابعةً من الحبّ المجرّدِ للأدب والنّقد، وإن كان لمقالتي عن “جورج إليوت” أيّ ميزة فالفضل فضله بالكامل. وبحسب ما رأيت، فقد كان بوسعه أن يفعل ذلك في كلّ المواضيع. كان يحبُّ الأدب والفكاهة حقًا وتمثّلَ بلُغته الثّانية جمالَ وأهمّية الأدب الإنجليزي سواء كانت أعمال “أوستن” أو “كيبلينج”. يهاجمه بعض النّاس قائلين “أوه، لماذا لا يمكنه أن يتجنّب موضوع العبوديّة عندما يتناول جين أوستن؟” حسنًا، المعذرة، إن كنتَ تقرأُ رواية “مانسفيلد بارك” بقليلٍ من الانتباه، فسترى إن العبوديّة موضوعٌ حاضرٌ طوال القصّة. أقصد أن أقول أنّه من غير الممكن تجنُّبُ الموضوعِ كما فعل الكثير من النّاس. لم يحاول تسييسها على الإطلاق. حاولَ تعميم هذه الأشياء. ويجب أن يُعطى كلَّ أنواع الثّناء على مهارته وذكائه في ذلك، ولاعتنائه بالطّلاب وبأيّ شخصٍ كان يقصده.

نشرت أصلاً في “بدون”

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط