واشنطن- عماد الرواشدة
شكلت الثورة الصناعة في القرن التاسع عشر نقطة تحول ليس فقط في توزيع القوة الاقتصادية والتنموية على المستوى الدولي، ولكن على صعيد توزيعها سياسيا وعسكريا أيضا.
بفضل الثورة الصناعية، قفز الغرب عقودا على منافسيه في آسيا، إفريقيا والعالم العربي، تربع على عرش الاقتصاد الدولي ومؤسساته، وتحكم بجريان رأس المال واقتصاد الديون. لكن كيف قامت الثورة الصناعية؟
يبدو السؤال بديهيا إلى أن يبدأ السائل بالبحث في تفاصيله.
في أوساط الباحثين والأكاديميين في حقل التاريخ ثمة نظريات شتى لتفسير الأمر. في الواقع، سؤال: لما قامت الثورة الصناعية بوصفها أحد أهم نقاط القطع في التاريخ “discontinuity” خلقت فرقا هائلا بين ما قبلها وما بعدها، شغل الباحثين أكثر بكثير من سؤال ما هي الثورة الصناعية وما الذي قادت إليه.
الإرث الفكري في معالجة الأمر لم يبدأ بكارل ماركس وفريدريك إنجليز، مرورا بماكس فيبر، ولم ينتهي بكل المدارس البحثية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية وحاولت مراجعة ما بدا على امتداد عقود مسلمات فكرية تصب جميعا في خانة واحدة تقريبا: قامت الثورة الصناعية في الغرب نتيجة فرادة وتفوق الأخير على مستوى نمو تجربته الرأسمالية، شكل اقتصاده وتطوره العلمي على ما سواه من حضارات.
كتاب “التباعد الكبير” The Great Divergance لمؤلفه، أستاذ التاريخ السياسي في جامعة شيكاغو “كينيث بوميرانز” يعتبر واحدا من أهم المحاولات الأكاديمية للإجابة على السؤال على نحو مختلف ومثير للاهتمام.
قبل “بوميرانز”، تجدر الإشارة، حاول مفكرون كثر معالجته، وقدم كل منهم تفسيره وقرائنه. العامل المشترك بينهم جميعا كان دورانهم في فلك ما يصفها الكتاب ب”المركزية الأوروبية” في فهم لما قامت الثورة الصناعية في أوروبا وليس في غيرها.
يجادل المؤلف في كتابه، وخلافا للباحثين في تاريخ الرأسمالية، بأن الاعتقاد بارتقاء أوروبا في القرن التاسع عشر إلى نظام اقتصادي رأسمالي متكامل وأكثر تطورا من غيرها من مناطق في آسيا، ليس صحيحا
يجادل المؤلف في كتابه، وخلافا للباحثين في تاريخ الرأسمالية، بأن الاعتقاد بارتقاء أوروبا في القرن التاسع عشر إلى نظام اقتصادي رأسمالي متكامل وأكثر تطورا من غيرها من مناطق في آسيا، ليس صحيحا. هذا التصور الذي استند عليه عشرات المفكرين في تفسير قيام الثورة الصناعية في أوروبا، يتجاهل، وفق الباحث، حقيقة أن هذا التطور الرأسمالي الأوروبي لم يكن أكثر تقدما منه في عدة مناطق من آسيا من بينها “وادي يانغتزي” Yangtze Valley في الصين، “جوجارات” في الهند، أو “إيدو” في اليابان.
هذه المناطق الآسيوية، يشير بحث “بوميرانز” كانت متطورة رأسماليا تماما كما كانت إنجلترا في القرن الثامن عشر. هذا بالضبط ما يفسر، وفقه، لما تمكنت بلدان آسيا من اللحاق بالتقدم الغربي بوتيرة أسرع بكثير من مناطق جنوب الصحراء الإفريقية.
الربط المتوهم بين تقدم الرأسمالية في الغرب وتراجعها في غيرها من المناطق كتفسير لقيام الثورة الصناعية في أوروبا طرحه مبكرا الفيلسوف والعالم الاقتصادي الألماني “كارل ماركس”.
كان ماركس قد جادل أن الثورة الصناعية ليست سوى نتيجة طبيعية لتطور النظام الرأسمالي في ثقافة مادية بالكامل. وأن ما سماه “فائض القيمة” الناجم عن استغلال قوة العمل هو ما سهل ودفع باتجاه الثورة الصناعية وعززها. لكن هذه النظرة واجهت تحديا مع نهاية القرن التاسع عشر على يد “ماكس فيبر” الذي رأى أن بواعث التقدم الصناعي عائدة بالأساس للثقافة البروتساتنية التي ميزت المجتمع الإنجليزي والألماني. أي أن الدول التي شهدت قبل غيرها هذا “التباعد الكبير” على مستوى شكل الاقتصاد نحو التصنيع، كانت مؤهلة ثقافيا أكثر من غيرها لذلك.
تبع “ماركس” و”فيبر” حشد من الباحثين بدأ من “ارلوند توينبي” للانكباب على دراسة ما بدا تصورا بفرادة بريطانيا التي جعلتها رائدة الثورة الصناعية عن سائر جيرانها، وتباعا فرادة أوروبا دونا عن سائر الحضارات الأخرى، موردين جملة من العوامل من المناخ إلى التطور الرأسمالي إلى توافر الفحم.
هذا تماما ما جاء كتاب “كينيث بمويرانز” لنفيه عبر دراسة وصفية معمقة.
لكن إن لم تكن تلك التصورات صحيحة، فما هو الصحيح من وجهة نظر الباحث؟
في الواقع، يمثل عنوان مؤلف “بوميرانز” تلخيصا لنظاق بحثه الشيق: “التباعد الكبير: الصين، أوروبا، وصناعة الاقتصاد الحديث”. الكتاب جزء من “مجموعة جامعة “برينستون” الأميركية حول التاريخ الاقتصادي للغرب. يمثل البحث دراسة مقارنة بين الصين وأوروبا لمعاينة دقة التصورات عن السبب وراء قيام الثورة الصناعية في الأخيرة وليس في الأولى.
جلست مع “كينيث بوميرانز” للحديث حول مؤلفه، وكانت هذه المقابلة المختصرة والمحررة. أجريت هذه المقابلة باللغة الإنجليزية ويمكن قرآءة نصها هنا.
ترجمتها للعربية: تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عماد: عند قراءة كتابك “التّباعُد الكبير”، يبدو أنّك مهتمٌّ بالسّؤال: لماذا حدثت الثّورة الصّناعية في الغرب ولم تحدث في الحضارات الأخرى؟ ولقد ذكرت الحضارة الصّينيّة والعرب والهنود واليابانيين. سؤالي لك: هل الإجابة هي “تفرُّد الغرب”؟ إن لم تكن كذلك، فما هي الإجابة بحسب أبحاثك؟
كينيث: ما أقوله هو أن الغرب فريدٌ من نوعه، وكلُّ الأماكن الأخرى فريدةٌ من نوعها أيضًا. السّؤال هو: ما هي الاختلافات المهمّة للوصول لنتيجة معيّنة. يمكننا جميعًا أن نتفّق على أن كل الأماكن تختلف عن بعضها، ولكن لا تؤثّرُ كلّ الاختلافات على كلِّ النّتائج وأعتقدُ أن ما أودّ قوله فيما يتعلق بالنّجاح الاقتصاديّ الغربيّ هو أنه كان هناك أشياء معينة – أريد أن أكون حذرًا هنا – بعض الأشياء كانت قويّةً بشكلٍ خاص في الغرب، مع أنّها ليست مقتصرةً على الغرب في الحقيقة. طبعًا عندما تبدأ عمليّة النمو على سبيل المثال، فإن بعض خصوصيات العلوم الأوروبيّة مهمّةٌ للاستمرار. رغم ذلك، لا أعتقد أن العلم الأوروبي مهمٌّ جدّاً في الواقع للمراحل المبكّرة من التّصنيع لأن معظم النّجاحات التّقنية الأولى كانت ممكنةً من خلال التّجريب.
عماد: ماذا يعني ذلك؟ هل يمكنك أن تعطينا مثالاً؟
كينيث: المحرّك البخاري. كان لدى الرومان محرّكٌ بخاري بسيط قبل 2000 عام؛ كان لدى الصّينيين شيءٌ يشبه المحرّك البخاريّ العكسي؛ وغيرها في أماكن أخرى. الاكتشافات الكبيرة التي جعلت المحرّك البخاري يعمل لم يكن لها علاقةٌ تُذكر بالعلم. المعرفة العلميّة الحقيقيّة الوحيدة التي تحتاجها هي معرفة أن الهواء له وزن وأن هناك ضغط جوّي وقد اكتشفت ذلك مجتمعاتٌ كثيرة. كان الأمر في الغالب متعلقًا بالحرفيين المهرة الذين يجرّبون علم المعادن، وتجربة جعْل القمرة الرّئيسية قويّةً بما يكفي حتى تتمكن من تحمُّل كلّ هذا الضّغط الذي يدفع إلى الخارج دون أن تنفجر. هل العلم مهم؟ نعم، ولكن لعلّه ليس مهمًا جدًا لتشغيل المحرّك.
عماد: إذن، هل تعتقد أن هناك علمًا أوروبيًا بهذا المعنى؟
كينيث: يجب أن نتذكّر أن العلم الأوروبي، كما يُسمّى، يتكوّن من مساهماتٍ من كلّ مكان. إذا كنت تقرأ الكثير من كتب التّاريخ الأوروبية، فإن العلماء يعرفون أكثر، ولكن إذا قرأتَ الكتب المدرسيّة الأساسيّة التي تُدرَّسُ في مدرسةٍ عاديّة، فستقول أشياء من قبيل: في عصر النّهضة، أعاد الأوروبيون اكتشاف العلوم اليونانيّة وقد تذكر أنّهم حصلوا على الكثير من النّصوص اليونانيّة من العالم العربيّ. قد يمنحون العالم العربي بعض الفضل في “الحفاظ” على العلوم اليونانيّة، لكن تأثير العرب لم يقتصر على الحفاظ على العلوم اليونانيّة. فقد علّق العرب على هذه العلوم على مدى قرون. لقد تفكّروا أثناء عمليّة التّرجمة: ماذا تعني هذه العبارة في الواقع وهل هي صحيحة؟ لقد قاموا بتطوير هذه العلوم، وبالتّالي فإن ما استعاده الأوروبيون بعد مئات السنين ليس فقط ما كان لدى اليونانيين. هذا ما كان لدى اليونان وبنى عليه العرب، إلى حدٍّ ما، لا سيّما في علم الفلك.
عماد: لكن هل هذا مرتبطٌ حقا بما يُسمّى بالثّورة العلميّة الأوروبيّة؟
كينيث: لنأخذ علم الفلك على سبيل المثال، على الرغم من أنّه بعيد عن التّصنيع، إلا أنّه ليس بعيدًا عن الثّورة العلميّة. أحد الاكتشافات الكبرى الأساسيّة في الثّورة العلميّة هو فهم أن السماء والأرض مصنوعتان من نفس الأشياء، وبالتّالي، فإن القوانين الفيزيائيّة التي يمكنك ملاحظتها في أشياء مثل حركة الكواكب يجب أن تكون نفس القوانين الفيزيائيّة التي تلاحظها عندما تُلقي بقذيفة مدفع من برج وتهبط إلى الأرض. لم تكن هذه في الواقع رؤيةً يونانيّة. كانت تلك رؤية مجموعةٍ من علماء الفلك الهندوس الذين قالوا “لا، أفلاطون وأرسطو أخطأوا في هذا الموضوع” وفهموا ذلك، فهموا أن السّماء والأرض متماثلتان من النّاحية المادّية.
عماد: حسنًا، بالعودة إلى الطّرح الرّئيسيّ، بناءً على ذلك فإن التقدّم العلمي في الغرب لم يكن السبب في أن الغرب هو الذي قاد الثّورة الصناعية وليس أي حضارة أخرى؟
كينيث: النّقطة المهمة هي أن هناك بعض الأشياء الأوروبيّة المتميّزة ، ولكن أولاً: تأتي كلّها متداخلةً مع مساهماتٍ لأماكن أخرى من العالم. ثانيًا: من النّاحية العلميّة، قد لا تكون هذه الأشياء حاسمةً في المراحل المبكّرة من التّصنيع، مع أنها مهمّةٌ للمحافظة على استمراريّته. وثالثًا: أعتقد أنّه من غير المحتمل أنها كانت ستكون كافيةً في غياب المزايا الأوروبيّة الأخرى، وعددٌ من تلك المزايا الأخرى جاءت من استخراج الموارد من أماكن أخرى في العالم.
عماد: هل يمكنك أن تستفيض حول هذا الموضوع. كيف كان الاستخراج الأوروبيّ للموارد من أماكن أخرى في العالم مؤثرًا بشكل حاسم على التّصنيع في الغرب؟
كينيث: خصّصتُ جزءًا كبيرًا من الكتاب لتقدير مدى إنقاذ الغابات الأوروبيّة، على سبيل المثال، أو الأراضي الأوروبيّة بشكل عام، من خلال القدرة على استيراد الكثير من المنتجات التي تعتمد على الأراضي اعتمادًا كثيفًا من الأمريكيتين، التي هيمنوا فيها على الأراضي بالطبع عن طريق طرد السكّان الأصليين، ثم تمّ الكثير من العمل فيها من قِبل الأفارقة، وللعودة إلى سؤالك الأصلي، نعم، كان هنالك بعض الأشياء الأوروبية المفيدة، لكن من المُستَبْعد أن أرى أنها كانت كافية في غياب هذه الأمور الأخرى، وبدلاً من أن نسأل – كما أعتقد أن الكثير من القوميين الهنود والصينيين، مثلاً، قد سألوا “حسنًا، لو عدّلنا هذا الشّيء أو ذاك في التّاريخ، فهل كنّا سنصلُ إلى الثّورة الصّناعيّة أولاً؟”- مع كل الاحترام للعلماء الذين عملوا في هذا العرف الأكاديميّ، وبعضهم قام بعملٍ جيّد للغاية، أعتقد في النهاية أن هذا هو السّؤال الخطأ، إذ لا ينبغي لنا أن نعتقد أن الثّورة الصّناعيّة كانت شيئًا ستحققه فئةٌ قبل أخرى عاجلاً أم آجلاً، والسّؤال هو من سيحققه قبل الآخرين.
عماد: هل يمكننا القول إنه ليس إنجازًا غربيًا بهذا المعنى؟
كينيث: بالتّأكيد ليس إنجازًا غربيًا حصريًا.
عماد: لقد ذكرت في الكتاب أنّها مسألة حظ. أولاً: كان الغرب محظوظًا في تحقيق ذلك إذ أُتيحت له فرصة استعمار دول أخرى، وثانيًا: لأنّه يمتلك احتياطيّات فحم أكبر من احتياطيات الأمم الأخرى.
كينيث: حسنًا، ليس أكبر من احتياطيات أخرى بقدر ما هو وجوده، المكان المناسب. ففي بيئةِ ما قبل التصنيع، كان سعر الفحم يتضاعف كلّ 25 ميلاً تقريبًا، وعليك شحنه برًا، لذلك من الواضح أنّ وجوده بالقرب من ساحل أو نهر صالح للملاحة يحدث فرقًا هائلاً. هذا ينطبق على الفحم في إنجلترا مع بعض الاستثناءات، أما الفحم في الصين فلا. هذا فرق مهم.
عماد: ماذا عن الليبرالية؟ لأن بعض النّاس، خاصةً في منطقتنا، وربما في جميع أنحاء العالم النّامي أيضًا، يرون أن هذا الارتباط، وربما حتى العلاقة السّببيّة، بين وجود الليبراليّة، الدّيمقراطيّة الليبراليّة، وبين أن يكون لديك في النّهاية تقدُّم اقتصاديّ وتصنيع.
كينيث: نعم، هذا شيء أكثر تعقيدًا. علينا أن نتذكر أنك – إذا نظرت إلى العالم اليوم- ستجدُ توافقًا تقريبيًا بين كونك ثريًا وكونك ديمقراطيًا ليبراليًا، لكنه توافق تقريبيّ. فمن ناحية، لديك أماكن غنيّة جدًا، ولكنها ليست ديمقراطيّةً على الإطلاق – فكّرْ في بعض دول الخليج، على سبيل المثال – أو دول في وضع جيّد إلى حدٍّ ما وحقّقت بالتّأكيد قدرًا هائلاً من التقدُّم الاقتصاديّ، على الأقلّ في العقود الأخيرة، مثل الصّين، وهي ليست ليبراليّة كذلك. ثمّ لديك دول ديمقراطيّة تاريخيًا وليست غنيةً جدًا. بالتّأكيد، من الصّعب مقارنة الأشياء بشكلٍ عابرٍ للتّاريخ، ولكن إذا فكّر المرء بالولايات المتّحدة في العقود الأولى من الاستقلال، وفقًا لمعايير عالمها في ذلك الوقت، فقد كانت مزدهرةً بشكلٍ معقول. وفقًا لمعايير أيّ بلد تقريبًا اليوم، فقد كانت الولايات المتّحدة فقيرةً، لو نظرتَ على الأقل إلى دخل الفرد. ثم إذا نظرت إلى الولايات المتّحدة التّاريخيّة حتى عام 1860 فقد كان فيها عبوديّة. ولعقودٍ بعد ذلك، كان من الصعب أن تصف الجنوب بأنّه ديمقراطيّ. نعم، هنالك …
عماد: الفصل العنصري
كينيث: هناك فصل عنصريّ، وهناك كلّ أنواع أنظمة العمل القمعيّة جدًا.
عماد: لكن ربما يكون الأمر مختلفًا في أوروبا.
كينيث: مرةً أخرى، لديك في أوروبا مدى إلى حدٍّ ما ويعتمدُ الأمر على الكثير من الأمور – الدّيمقراطيّة هدفٌ متحرّك، وكذلك الأمر في بريطانيا، قبل قانون الإصلاح سنةَ 1832 حيث لم تكن الغالبيّة العظمى من السكان تتمتّعُ بحقّ التّصويت – حتّى من الذّكور، دعونا لا ننسى أن 50٪ من السكان من الإناث. قبل عام 1832 لم يكن لدى معظم الشّعب الإنجليزي تصويت ذي معنى. حتى عام 1867 لم يكن لدى الكثير من السّكان الذّكور من الطّبقة العاملة الحقّ في التّصويت، وهناك مجلس اللوردات وهو منصب ينتقل بالوراثة، ولم تنكسر سلطته حقًا حتى عام 1910، فهل كانت بريطانيا ليبراليّة؟ من نواحٍ كثيرة: نعم. هل كانت ديمقراطيّة؟ هذا مشكوكٌ فيه إلى حدٍّ ما.
عماد: دعنا نَقُل إنّ الليبرالية من حيث نشأة الثّورة الصّناعية أو الدّوافع، هل تعتقد أن الليبراليّة لعبت دورًا مهمًا؟ لأن هذا انطباعٌ شائعٌ بين النّاس العاديين وفق المنطق التالي: “لأنهم ليبراليّون وديمقراطيون ، يتمتّعون بتفكيرٍ حرّ يمكّنهم من الاختراع. كانت لديهم ثورة علميّة وبعدها قامت عندهم الثّورة الصّناعيّة”. كيف ترى ذلك؟
كينيث: نعم. بالتّأكيد، وجودُ درجةٍ معيّنة من التّسامح مع الآراء المتنوعة مفيدةٌ بالتّأكيد. ولكن إلى أي مدى يجب أن يصل هذا التّسامح؟ الحكم صعب. مرّةً أخرى، أولاً وقبل كلّ شيء، على الأقل حسب منظوري أنا، مساهمةُ الثّورة العلميّة في الثّورة الصّناعيّة، على الأقل في البداية، كانت مساهمةً صغيرةً جدًا. ثانيًا، إذا نظرتَ مثلاً إلى النّجاح الملحوظ للعلم في ألمانيا في القرن التّاسع عشر، لم تكن البلاد ديمقراطيّةً بأيِّ حال من الأحوال. ليبرالية إلى حدٍّ ما، أليس كذلك؟ أعتقد أنّه من المهم إعطاء شيءٍ من الأمن للأفكار المتنوّعة، لكن هذا يمكن أن يتماشى في بعض الأحيان – ومن الواضح أنني لا أدافع عن ذلك- ولكنني أقول فقط أنه كحقيقة تاريخية قد ترافق أحيانًا مع القليل من التّسامح في مواضيع كالمعارضة السّياسيّة على سبيل المثال. في منعطفٍ تاريخيٍّ مختلف، كانت الإنجازات العلميّة للاتّحاد السوفيتي مثيرة للإعجاب ، لذلك لا أريد بالتأكيد رفض مساهمات الحريّة الفكريّة. أعتقد أنها مهمّةٌ جدًا ، لكنني لا…
عماد: كانت مهمّةً إلى أيّ حدّ؟ هذا سؤال.
كينيث: نعم، وكذلك، هل الحرّية الفكريّة شيءٌ واحد؟
عماد: ما معنى ذلك؟
كينيث: حسنًا، هذا يعني أن الحرّية التي تمكّننا من قَول “لديّ فكرةٌ جديدة حول كيفية عمل التّجاذب المغناطيسي” لا تتوافق دائما مع قدرتنا على أن نقول “لديّ فكرةٌ مختلفةٌ عن كيف ينبغي للحكومة أن تعمل”.
عماد: هذه الازدواجيّة موجودةٌ دائمًا. يقول الناس إنه هذا المجتمع ديمقراطيّ، ولكن عندما تصل إلى شركتك ، فهي شموليّةٌ إلى حدٍّ كبير، أو فيها تسلسلٌ هرميٌّ ولا يمكنك أن تعارض السياسات كثيرًا.
كينيث: أو على الأقل يمكن أن يكون ذلك صحيحًا. يمكن للمرء أن يتخيّل مجتمعًا قويًا نسبيًا في حماية العامل من الحكم المطلَق لمديره، ولكن من شبه المؤكد أن ذلك المجتمع يجب أن يكون في دولة قويّة جدّا، أليس كذلك؟
عماد: صحيح، ولكن فيما يتعلّق بالاستعمار – صحّح كلامي إنْ كنت مخطئًا – لكن الدول الأخرى كان لديها بشكلٍ أو بآخر نوعٌ من السّياسات الاستعماريّة وغزتْ بلدانًا أخرى، وغزَتْ أراضٍ أخرى، واستغلّت موارد الآخرين، ولكن ما الذي يجعل الغرب استثنائيا في هذا المجال؟
كينيث: أظن أنّني سأقول عدّة أشياء. الأول هو أنّك محقٌّ تمامًا. غزو واستغلال الآخرين يحدث في جميع أنحاء العالم. وكما لا أريد أن أقول إن الأوروبيين كانوا أذكياء بشكل فريد. لا أريد أيضا أقول إنّهم كانوا أشرارًا بشكلٍ فريد. صحيح.لم يكونوا بالتّأكيد الأشخاص الوحيدين الذين يحملون فكرةَ استغلالِ الآخرين. في بعض …
ذكر: نعم، للتجربة الغربية في الاستعمار ربما صفات خاصّة؟
كينيث: أعتقد أن هناك بعض الأشياء التي كانت فريدةً من نوعها، وكذلك كان بعضها مسألة حظ. لقد عبروا المحيط وعثروا على عددٍ من الأماكن التي لا يتمتّع فيها السكان بمقاومةٍ للأمراض الأوروبيّة. هذا يجعل الغزو أسهل بكثير. لم يكن الغزو بالضرورة مستحيلاً بخلاف ذلك، لكنه كلفته كانت ستكون أكبر بكثير.
عماد: لكن من حيث درجة الاستغلال، هل الاستغلال أشدّ في التّجربة الغربيّة مقارنةً بالأمم أو الحضارات الأخرى؟
كينيث: لعلّه أشدّ. من الصّعب الحكم على هذه الأشياء ولكن بالتأكيد أعداد من ماتوا من السّكان الأصليين في الأمريكيتين صاعقة. هنالك جدلٌ كبيرٌ حول الأرقام الدّقيقة، لكن معدلات الوفيات في نطاق 80٪ إلى 90٪ ليست مُستَبعدةً كثيرًا في ذلك العالم. مرة أخرى، بعضُ هذه الوفيات فقط نجمت عن المرض. بعضهم ماتوا من الإرهاق من العمل في المزارع وما إلى ذلك. بعضها نجمت عن الأسلحة الأوروبيّة المتفوّقة لأن الأسلحة الأوروبية كانت ميّزةً حقيقيّة، لذلك كانت معدّلات الوفيات صاعقةً للغاية. قليلةٌ هي الأماكن الأخرى في العالم التي شهدت معدّلات وفيّات للسّكان الأصليين بهذا الشّكل، لكنّها ليست كثيرة، وبالتأكيد لم تكن النّسبة عالية على ذلك المقياس. تذكّر، نحن نتحدّث عن أمريكا الشّماليّة وأمريكا الجنوبيّة وأستراليا. نحن نتحدث عن جزءٍ كبيرٍ من العالم، لذلك هذه ناحية، ثمّ لدينا ما كان يحدث في أجزاء من الأمريكتين حيث أصبحت العبوديّة الأفريقيّة أساسًا لنظام العمل. نعم، كان هنالك عبوديّة من أنواع مختلفة في جميع أنحاء العالم في أوقات مختلفة، لكن عبوديّة العالم الجديد كانت ملفتةً حقًا في درجةِ وحشيّتها.
عماد: حسنًا، يمكنني أن أرى العلاقة بين الفحم والثّورة الصناعية، لكنني لا أستطيع حقًا أن أرى العلاقة بين الاستعمار والثّورة الصناعيّة. أعلم أنهم استخدموا العبيد، لكن كيف ساعد ذلك ثورة الصّناعات؟
كينيث: كان هنالك طريقتان رئيسيتان، وفي النهاية: كان استغلال كل هذه الأرض الجديدة وهذا العمل القسريّ مربحًا للغاية. تتحوّل هذه الأرباح إلى رأس مال، مما يجعل رأس المال وفيرًا في أوروبا، وخاصة إنجلترا وهولندا، مقارنة بالمعروض من العمالة على سبيل المثال. إذا كان رأس المال وفيرًا، فإنه يصبح رخيصًا نسبيًا بالنسبة للعمالة، وهكذا يتمّ التّنفيذ – يصبح من المربح القيام بكلّ الأشياء التي تتطلّب رأس مال كبير، ولكن وفِّر في كلفة العمالة. هناك نوعان من الجدل في هذا السياق، يقول الأول: لو تخيّلت عالمًا لا وجود فيه للقارتين الأمريكيتين أو كان من المستحيل فيه استغلال عمالة العبيد الأفارقة للعمل في الأمريكيتين، لانخفض المستوى المعيشيّ في أوروبا بسبب قلّة السكّر وقلّة الكاكاو وقلّة هذا وقلّة ذاك، ولكن الأهم من ذلك، ما كانت لتظهر تلك الطبقة الثريّة جدًا من الرّأسماليين. ولكن تبيّن أنّها حجةٌ صعبة الإثبات إلى حدٍّ بعيد لأنها حجةٌ تفترض أنّه لو لم تكن القارّتان الأمريكيتان موجودتين لما تمكّنت من العثور على أمورٍ مربحةٍ أخرى بنفس القدر لتقوم بها في أوروبا، وهنا يأتي بعض المؤرّخين الاقتصاديين ويقولون “لكن هذا ليس صحيحًا”. لو وضعنا الأمريكيتين جانبًا، لقام التّجار الهولنديّون بتجفيف المزيد من المستنقعات للحصول على المزيد من الأراضي الجديدة على طول الساحل، أو كانوا سيستثمرون في المزيد من البعثات التّجارية البريّة إلى الهند أو الشرق الأوسط أو أيّ مكان آخر.
عماد: والجدل الثّاني؟
كينيث: الجدل البيئي، أعتقد أنه يمكنك أن تنظر حولك وتقول: “نعم. قل لي أين كنت ستجد كل هذه الأراضي الإضافيّة، وكل هذا المجال لإراحة أراضيك المنهكة من كثرة الزراعة دون الاستعمار في أعالي البحار”. يمكنك أن تفكّر في بعض السيناريوهات، لديك الكثير من الأخشاب الاسكندنافيّة التي كان من الممكن أن تقطعها. نعم، ربما يمكنك أن تتخيّل أن تصبح مصر مصدرًا رئيسيًا للقطن حتى بدون استعمار. ولكن عمليًا، أصبحت مصر مصدرًا رئيسيًا للقطن لأوروبا عن طريق الاستعمار تحديدًا، والشروط التي أنتجوا بها هذا القطن لأوروبا كانت مواتيةً لأوروبا بسبب الاستعمار. لم يكن الأمر وكأن أوروبا قد وصلت حدّها ولم يعد لديها المزيد من الأراضي أو المصادر أخرى للمنتجات التي تنهك الأراضي الزراعيّة لو لم تدخل الأمريكيتان في المعادلة، ولكن من الصّعب تخيُّل بدائل كافية لذلك المقدار من الرّاحة البيئية التي حصل عليها الأوروبيون من الإمبراطوريّة. أمّنَ هذا لهم بضعة عقود إضافيّة، ولحسن حظّهم أنهم خلال تلك العقود الإضافيّة جلبوا اقتصادَ المحرّك البخاري إلى الإنترنت، مما يخفّف من مشاكلك البيئيّة بطريقة أخرى. لأنني أعتقد إن كلّ طن من الفحم يساوي عائدَ الطّاقة المستدامة لحوالي 2.5 فدان من الغابات، قد يكون هذا الرقم غير دقيق. أحاول أن أتذكره وقد أكون مخطئًا، لكنه رقم تقريبيّ”.