هل عرفت الديمقراطيةُ الليبرالية الحقيقةَ يومًا؟

واشنطن- عماد الرواشدة

كان تعبير “ما بعد الحقيقة” Post Truth، حديث وسائل الإعلام والباحثين والساسة الغربين في ٢٠١٦، قبل أن يعلنها قاموس “أكسفورد” للغة الانجليزية كلمة ذلك العام.

جاءت المفردة تعبيرا عن مزاج سياسي عام تعيشه الديمقراطيات الغربية التي كانت تواجه لتوها ما بدا حينها صعودا غير مسبوق، منذ الحرب العالمية الثانية، لقوى اليمين في مركزيها الأهم: بريطانيا والولايات المتحدة. في الأخيرة كان الرئيس السابق دونالد ترمب وما بات يعرف الآن بقوى أقصى اليمين far right. في بريطانيا، كان بوريس جونسون هو التجسيد لتلك الحقبة. في فرنسا، كانت ماري لوبان. وفي الدول الاسكندنافية كانت التيارات الشعوبية والمعادية للمهاجرين.

لم يمض وقت طويل حتى بدأ الانقسام بين طرفي التحالف الليبرالي الحاكم في الغرب بالتحول إلى حرب ثقافية، أعمال عنف، ونزعة نحو الإلغاء في الفضاء العام. على هامش وفي قلب هذا الصراع، أخذ اصطلاح “ما بعد الحقيقة” مكانه باعتباره قرينة على نكوص غير مسبوق في مسار الديمقراطية الغربية، على الأقل وفق ما يرى من يصفون أنفسهم ب “الليبراليين”.

يقول هؤلاء إن اللحظة الديمقراطية الغربية اليوم في مواجهة تحد مصيري، حرفيا، ينذر بانتقالها من عصر العقل والمعرفة المؤسسة على الحقيقة الموضوعية القابلة للتحقق، إلى زمن “الأخبار الزائفة”، إنكار العلم، والتشكيك فيما تقدمه مؤسسات الدولة حتى المنتخبة منها.

بهذا المعنى، يرى ليبراليو الغرب وصف “ما بعد الحقيقة” باعتباره تعبيرا عن بديهية مفادها أن الديمقراطية الليبرالية والحقيقة كانتا على الدوام متلازمتان، والآن يواجه هذا التلازم اختبارا وجوديا غير مسبوق يهدد كلتيهما.

لكن هذا التصور بالتوأمة بين الديمقراطية والحقيقة لا يمت للواقع والتاريخ بصلة، وفق صوفيا روزنفيلد، أستاذ التاريخ في جامعة بنسلفينيا ومؤلفة كتاب” الديمقراطية والحقيقة: تاريخ قصير”

“الحقيقة”، تقول “روزنفيلد”، لم تكن في يوم ملمحا من ملامح النظام الديمقراطي الغربي. هذه “الحقيقة” المفترضة كانت وستبقى أمرا يسعى الجميع للإمساك به، تحديد ماهيته والتوافق على مضمونه، دون أن يكتب لمحاولاتهم تلك النجاح، على ما ترى.

في الوطن العربي، يبدو كل ما تعلق بالديمقراطية الليبرالية مغريا لسبر أغواره والجدال حوله. النسخة الغربية من الديمقراطية، في نهاية المطاف، هي الموضوع الأكثر حضورا في خطاب الإصلاح السياسي العربي، وهي الثيمة الأكثر تداولا في النقاشات الفكرية حول الماضي والمستقبل الحضاري للمنطقة، وهي كذلك، الغاية النهائية لغالبية الطروحات الحزبية والحراكية.

في هذه المقابلة لصالح مجلة “المراسل”، جلست مع صوفيا روزنفيلد التي نشرت كتابها ذاك في ٢٠١٨. أردت أن أعرف منها المزيد حول الديمقراطية والحقيقة، وأنشر هنا نص المقابلة معها بعد تحريرها واختصارها. أجريت هذه المقابلة باللغة الإنجليزية، ويمكن قرآءتها هنا.

ترجمتها للعربية: تقوى مساعدة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عماد – لماذا قررتِ تأليف كتابك عن الحقيقة والديمقراطيّة؟

صوفيا: كان هنالك لحظة تزامنتْ مع قرار خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي وانتخاب “دونالد ترامب” للرّئاسة، تنامى عندها شعورٌ باحتماليةِ انبعاثِ اليمين في العالم، وشعورٌ بأن الحقيقة كانت تتعرض نوعًا ما للهجوم لأوّل مرة، وأن نوعًا من القوى المناهضة للديمقراطيّة كانت تكتسب السّلطة عن طريق ليّ عنقِ الحقيقة، وهو بالطّبع تقليدٌ استبداديٌّ قديم، لكنه بدا وكأنّه تهديدٌ للديمقراطية بحدّ ذاتها. وكان هنالك كلامٌ كثيرٌ عمّا إذا كنّا قد دخلنا نوعًا من عصرِ ما بعد الحقيقة إذ لم يكن النّاس يتعرّضون للكثير من الأكاذيب في المجال العام وحسب، بل لم يعودوا قلقين حقًا بشأن ما إذا كانت الحقيقةُ مركزَ الحياة العامّة. غالبًا ما كان ذلك يُطرح على هيئة مصطلحات زمنية. بعبارة أخرى، كانت الديمقراطيّات في السّابق تضعُ الحقيقةَ في المركز، أمّا الآن أو في هذه اللحظة لم تعد الحقيقة مهمة. رأيت أنّه من المهم أن أعود وأبحث فعلاً إن كانت هذه ظاهرةً جديدةً أو مرتبطةً بمشاكل في جوهرِ الديمقراطيّة نفسها.

عماد – ألا تعتقدين أنّنا نعيش في عصرِ ما بعد الحقيقة لأن مفهومَ الحقيقةِ، كما ذكرتِ في كتابك، لطالما كان مفهومًا مراوِغًا في الديمقراطية؟

صوفيا – نعم إلى حدٍّ ما. أحبُّ أن أفكّر أن هناك بعض الأشياء المحدَّدة أو الخاصّة بزماننا. لذلك لا أعتقد أن الوضع متشابهٌ في كلّ الأوقات والأماكن وفي كلّ الثّقافات. سأحاول النّأيَ عن بعض المفاهيم القائلة بوجود الحقيقة سابقًا، وأنّنا الآن في زمنِ ما بعد الحقيقة، وكأنّنا خلّفنا وراءنا اتفاقًا راسخًا حول الحقيقة. لطالما كان الناس يتنازعون في الدّول الديمقراطيّة حول ماهيّة الحقيقة ومن يحقُّ له أن يقولها. هذه فعليًا واحدة من العلامات الفارقة للديمقراطيّة، وهي إفساح المجال للناس ليتنازعوا حول ماهيّة الحقيقة.

عماد – قد أعود إلى هذه النقطة، لكن ما هو المُنطَلق أو الخلاصة الرئيسية لكتابك؟

الديمقراطيّات ككلّ لديها فكرةٌ جدليّةٌ للغاية حول ماهيّة الحقيقة لأنّها متعلقةٌ غالبًا بالتّنازع على منْ سيقرّر وعلى ما سيقرّره

صوفيا: هناك خلاصتان محوريّتان، إحداهما أن الديمقراطيّات ككلّ لديها فكرةٌ جدليّةٌ للغاية حول ماهيّة الحقيقة لأنّها متعلقةٌ غالبًا بالتّنازع على منْ سيقرّر وعلى ما سيقرّره، وغالبًا ما تُعتبر الطّريقة للوصول إلى أفضلِ وأقربِ مقاربة للحقيقة هي بالسّماح للنّاس بالتّوافق عليها بنقاشها بالتّفصيل في المجال العام، وعدم وجود عقيدة على سبيل المثال، لإفساح المجال أمام حرّية التّعبير. هذا أحد المُنطلقات. الحقيقةُ فكرةٌ نضاليّةٌ في الديمقراطيّات. الفكرة الثانية هي أن هذه المعركة بالذّات غالبًا ما تدور بين جمهورٍ لديه فكرةٌ عامّةٌ عن الطّريقة التي يسير العالم بموجبها، وخبراء متنوّعين لديهم أساليب مختلفةٌ وطرق مختلفةٌ للّتأكُّد من صحةِ ما يعتبرون أنّه الحقيقة. وعندما تجري الأمور على ما يرام يدورُ أخذٌ وردٌّ بين هاتين المجموعتين، وسيصل عندها الناخبون والخبراء سواء داخل الحكومة أو خارجها إلى إجماع فضفاضٍ حول بعض المبادئ الأساسيّة، وعندما لا تجري الأمور على ما يُرام نواجه غالبًا موقفًا يُعرِضُ فيه الخبراء عن النّاس العاديين، أو يجري العكس فيرفض الجمهور الاستماع إلى الخبراء.

عماد: ما نوعُ الحقيقةِ التي نتحدّث عنها هنا، هل هي الحقيقة المنطقيّة؟

صوفيا: من المهم جدًا ألا نتجادل حول الحقيقة المنطقيّة، اثنان زائد اثنان يساوي أربعة ليس موضوعًا مطروحًا فعليًا للنّزاع السّياسي. غالبًا ما تدور الخلافات السياسيّة حول الحقيقة الواقعيّة التي حدثت في الماضي، وعمّا يجري في الحاضر. إنّها وصفيّةٌ بطريقةٍ ما. تدور في الديمقراطيات أحيانًا معارك حول الحقيقة الأخلاقيّة حيث توجد مساحةٌ كبيرةٌ لحريةِ الدّين للتّنازع حول الحقائق الأخلاقيّة الأساسيّة، وليس الحقائق العليا. بعبارة أخرى، هنالك نزاعٌ أقلّ حول العقائد الدّقيقة داخل التّقليد الدّيني، ونزاعٌ أكثر حول الأسئلة الأساسيّة. ما الذي يشكّل ضررًا؟ ما الخير للنّاس؟ يتمّ التّنازع على هذا النّوع من الاتّفاقات الأخلاقيّة منخفضةِ المستوى أيضًا.

عماد: إذن، إذا كانت الحقيقة مفهومًا مراوِغًا في الدّيمقراطيات، فمن يمكنه على الأقل أن يقول ما هي الحقيقة، هل هي السّلطة؟

صوفيا: في المجال النّظريّ، هناك كما وصفتُ للتوّ أخذٌ وردٌّ مثاليّ بين الخبراء والجمهور بوساطة ما نسميه وسائل الإعلام التي ستساعد في التّرجمة في كلا الاتجاهين: ما يقوله النّاس في الشّارع ، ولكن أيضًا ما يقوله الخبراء في مركز السّيطرة على الأمراض أو وكالة الاستخبارات المركزيّة، أو فروع الحكومة المختلفة، أو في عالم الأعمال، كل أنواع وسائل الإعلام تلعب دور الوساطة بين كل هذه العوالم. ولكن هذا لا يحدث دائمًا. كما أشرْتَ للتّو، يحدث أحيانًا شيءٌ أشبه بلعبة القوّة، حيث يحاول أحد الأطراف أحيانًا الاستيلاء على السّلطة، ويمكن أن يحدث ذلك من الأعلى من خلال فصيلٍ سياسيّ، ويمكن أن يحدث من الأسفل من خلال أنواع مختلفة من الشعبويّة كأنْ تقول حركة شعبويّة “إننا ببساطة نرفض الخبرة، نحن لا نثق بالأطباء حتّى يقولوا لنا ما الذي يخدم مصلحة العامّة. لذلك يمكن أن يحدث كلا الأمرين. وهناك أمثلة في زماننا وأمثلة من التّاريخ أيضًا، للحظاتِ تدهورت فيها النّزاعات حول الحقيقة بما فيه الكفاية حتّى انتهى المطاف إلى حربٍ أهليّة.

عماد: في الوضع المثالي، يلعب الإعلام دور الوسيط بين الجمهور والخبراء، ولكن هذا في الوضع المثالي. أمّا الآن فإنّ بنيةَ مُلكيّةِ وسائل الإعلام متركّزةٌ في أيدي قلّة، ومستقطبة إلى حدٍّ كبير بين اليسار واليمين. تعطيك كل منصّةٍ إعلاميّة نسخةً معيّنةً من الحقيقة. لذلك، لا يبدو أن هذا الوسيط يعمل بالطريقة المثّالية التي ارتأيناها.

صوفيا: أنت تعرف أن هذه مشكلة قديمةٌ أيضًا. الشيئان اللذان أشرتَ إليهما، لطالما كانت الصّحافة تجاريةً قبل كلّ شيء. وبالتّالي فإنّها مهتمةٌ بجعلك تشتري الصّحيفة، مما يعني أنّها يجب أن تستميل الجمهور. الجزء الحسن هو أنّه من المفترض أن تكون مستقلّةً عن الدّولة. الجزء السيئ هو أنّها كانت تجارية وتعمل لتحقيق ربح للمالكين. النقطة الثّانية التي أشرتَ إليها هو أن هنالك تفتُّتًا في عدد المنصّات الإعلاميّة بسبب الطريقة التي يتم بها تنظيم أعمالها اليوم. هناك حرفيًا ملايين الأماكن التي يمكنني أن أستقي منها الأخبار، ونتيجة لذلك يمكنني العثورُ على نوع الأخبار الذي يتناسبُ مع فئتي الدّيموغرافيّة، مما يعني أنّه بات لدينا نسخٌ منعزلةٌ من الأخبار، سيُقتَرح عليّ أيُّ خبرٍ قرأه أصدقائي على وسائل التّواصل الاجتماعي، وبالتّالي سأرى نوعًا معينًا من الأخبار. لطالما كان هذا صحيحًا إلى حدٍّ ما. لذلك يمكنك القول إن هذا ممعنٌ في الدّيمقراطيّة، ولا يكلّفني كثيرًا أن أنتج أخباري الخاصّة إنْ أردتُ ذلك، أو أن أتناقلها وحسب. وهذا يعني من ناحية أخرى أن الجميع يحصلون على نسخٍ جزئيّة، وغالبًا ما تكون منعزلةً جدًا عمّا يحدث في العالم.

عماد: صححي كلامي إنْ أخطأت، لكن تركيز وسائل الإعلام ظاهرةٌ جديدة، على الأرجح لم يكن الأمر على هذه الحال قبل ستين أو سبعين عامًا.

صوفيا: في الولايات المتّحدة.

عماد: في الولايات المتّحدة وعلى صعيد العالم أيضًا.

صوفيا: حدث شيئان يبدوان متناقضين، الأول هو انتشار المواقع. كما تعلم هنالك حرفيًا ملايين المواقع على الإنترنت، وزالت كذلك الأخبار المحلّية في الكثير من الأماكن مع زوال الصّحف المحلية بزوال إيرادات الإعلانات. كما قلت، كان هناك تركُّزٌ حقيقيٌّ لوسائل الإعلام في أيدي الشركات التي تشتري الصّحف المحليّة ثم تقوم في كثير من الأحيان بحلها أو إرسال نفس الأخبار الوطنيّة إلى كل هذه الصّحف. يرى الكثيرون أن زوال الأخبار المحلية كان له في الواقع تأثير قويٌّ جدًا على الاستقطاب المحليّ اليوم، وكما قلتَ، هذه ليستْ قصةً وطنيةً تمامًا ففي الكثير من الأماكن التي تهمّ الشركات الكبيرة، يمكن لعمالقة النّشر شراءُ مجموعات من محطّات الراديو أو التّلفزيون أو الصّحف أو الأفلام أو البودكاست.

عماد: إذن، إذا كانت الحقيقة مفهوما مراوِغًا، وأنّها لطالما كانت كذلك، وفي الوقت نفسه، الوسيط وهو الإعلام، متركز بشكلٍ كبير في أيدي قلّة قليلة حيث يمكنك أن تشعر أن الإعلام متجانس على اليسار وعلى اليمين، وقد تسمع نفس القصّة على اليسار ونفس القصّة على اليمين، وتكون هذه القصص أحيانًا متناقضةً للغاية فيما بينها ولا يبدو أن الناس يصدّقون ما تقوله الدّولة مثلاً إذا كانوا يمينيين وكان الرّئيس ديمقراطيًا، والعكس صحيح، مع ذلك، قد يتساءل المرء: هل هذا يعني أنه لم يعد لدينا حقيقة بعد الآن؟

صوفيا: هذا أمرٌ مقلقٌ بالتّأكيد. لذلك أنا معجبٌ مثلاً بالمنظّمات التي تقوم بتدقيق الحقائق. أعتقد أن تدقيق الحقائق لن يسهم كثيرًا في حلّ المشكلة. لا أعتقد أن النّاس سيقتنعون به، لكنني أرى أنّه من المهم أن يكون هناك توثيقٌ للأشخاص الذين يحاولون مساءلةَ نسخةٍ دقيقةٍ لما حدث لمنظّمات تدقيق الحقائق الموضوعيّة وأعتقد أنه نشاط مهمٌّ رغم أنه ليس فعّالاً سياسيًا. المحاكم، كلّنا نعتقد أنّها مُسيَّسةٌ للغاية هذه الأيام، لكن قاعات المحاكم ما تزال مهمةً كأماكن لتقديم الأدلّة أو لعدم تقديم الأدلّة، كما كان عليه الحال مثلاً في ما يسمى بـ “الكذبة الكبرى” المتمثّلة في إنكار الانتخابات في الانتخابات الأخيرة. لذلك، من الواضح أن لها لمسةً حزبيّةً للغاية. ومع ذلك، قد تقول إن شيئًا إيجابيا حدث وهو أن وزارة العدل ونظام المحاكم وكل الأماكن التي بحثت عن أدلة حقيقيّة، ما زلنا قادرين على القول إنّه لا يوجد دليلٌ على هذا الادّعاء [تزوير الانتخابات]. لم يقنع الجميع، لا أقول إن الأمر كان فعالاً سياسيًا، لكن لدينا الآن توثيقٌ للأجيال القادمة للحفاظ على شيءٍ كخط الأساس لما حدث. ما زال لدينا أيضًا صحافة حرّة ومن المهم جدا أن تعمل الصحافة الحرّة على التّأكيد على ما يستوفي معايير الإثبات.

عماد: قد نواجه هنا مشكلة، وهي أن خطّ أساسِ الحقيقة بحدّ ذاته لا يتمتّع بنفس القدر من المصداقية في عيون الجميع. كما ذكرتِ، هاجم النّاسُ المحاكم عندما صدر حكمها بعدم حدوث تزوير في الانتخابات. لم يعجبِ النّاسَ قرارُ المحكمة العليا فيما يتعلّق بحق الإجهاض، أو فيما يتعلّق بزواج المثليين. لذا لا يبدو أن هنالك اتّفاقًا على مصادر خطِّ الأساس للحقيقة: نظام المحاكم والنّظام القضائي ووسائل الإعلام.

صوفيا: نعم. وهذه مشكلةٌ من مشاكل عصرنا نوعًا ما، فهنالك شكٌّ جزئيٌّ في المعلومات المفحوصة. أنت محقٌّ تمامًا على ما أعتقد. نحن نعيش في عصر من التّشكيك العالي بالمنصات التي لطالما كانت تُعتبر منصّات “الحقيقة”. لذا، سواء كان الأمر متعلقًا بالجمعيّة الطبّية الأمريكيّة أو نظام المحاكم أو جريدة النيويورك تايمز، يُعتقد الآن أنها تفعل ما بوسعها لتروي لنا الأحداث بطرق مختلفةٍ، لإعطائنا نُسَخًا من الحقيقة تُناسب احتياجاتهم بدلاً من أن تعطينا شيئًا أكثر موضوعيّة. في الواقع، بعض الناس لا يؤمنون كثيرًا بالضرورة بما يأتي عن طريق الحقيقة الموضوعية. لكن هنالك شعورٌ بعدم الثّقة، وهو موجودٌ حاليًا بشكلٍ أكبر على يمين الطّيف السياسي. ولكن إذا نظرت إلى الوراء، فقد كان هنالك لحظات في أواخر الستينات مثلاً عندما كان اليسار يقول: انظر، إن المؤسسات التّقليديّة تتعاون لدعمِ نسخةٍ مزيّفة من الوضع الراهن، فهم يدعمون حرب فيتنام، ويدعمون ممارسات عنصريّة ومتحيّزة على أساس الجنس. كانت الشّكوك تأتي في الغالب من اليسار، أما الآن فهي تأتي غالبًا من اليمين. رغم أنّ الشكوك قد تحوّلت منْ نوعٍ من الشكّ الصحّي، وهو أمرٌ جيّدٌ في الديمقراطية، بمعنى أننا يجب أن نشكّك في السلطة، إلى نوعٍ من انعدام الثّقة الكامل بالسّلطة، كأن تقول مثلاً أن كلّ ما يصدر عن مركز السيطرة على الأمراض غير صحيح. هذا يختلف تمامًا عن الرّغبة في أن يكون هنالك مبلّغون عن المخالفات للحفاظ على نزاهة المؤسّسات.

عماد: هنالك معركةٌ كبيرةٌ الآن بين الدّيمقراطية والشّموليّة، رسميًا على الأقل ، ونسمع عنها على وسائل الإعلام طوال الوقت من الرّئيس وإدارته ومعظم القادة الغربيين، نسمع عن وجود انقسامٍ كبيرٍ ومعركة يجب خوضها بين الدّيمقراطية والشّموليّة. هنالك نسخةٌ واحدةٌ من الحقيقة لدى الشّموليّة، أنت لا تشارك في عمليّةِ صنع القرار ومعظم النّاس لن يؤمنوا بهذه الحقيقة. يمكن للمرء أن يقول أنّه ما من حقيقةٍ في الأنظمة الشّموليّة، ولكن لا يبدو أن هناك حقيقةً في الأنظمة الدّيمقراطيّة أيضًا. ما رأيك؟

صوفيا: إنّها نقطةٌ مثيرةٌ للاهتمام حقًا. عندما يتمّ اختطاف الحقيقةِ بشكلٍ منهجيّ من قبل السلطات ، لا يصدّقُ أحدٌ أيَّ شيء. بدلاً من أن يصدّق الجميعُ الدّولةَ بسذاجة، يمضي الجميع في شؤونهم، كما لو أنهم يعرفون أن ما يقال ليس صحيحًا. هناك نوع من التهكميّة الحقيقيّة حيال التّصريحات الرّسميّة. أعتقد أنه كان بإمكاني أن أتخيّل وصول الأمور إلى هذه النّقطة في الإطار الدّيمقراطيّ الغربيّ المعاصر. أعتقد أن اللحظة تأخذ شكلاً مختلفًا قليلا لأن الحقيقة باتت حزبيّةً للغاية. الأمرُ ليس رفضًا جماعيًا للدّولة التي تُدار خلف الأبواب المغلقة مع العلم أنّه لا ينبغي للدولة أن تُدار بهذه الطّريقة. بات الأمر شبيهًا بمباراة كرة قدم حزبيّة حيث سيرى أشخاصٌ مختلفون، كما قلتَ، نفسَ الحدث من زوايا مختلفة تمامًا. لكن هذه نقطةٌ مهمةٌ حقًا حول طبيعة الافتراضات التي تدور حول ما حدثَ للحقيقة في الدول الاستبداديّة.

عماد: يبدو أنك لا تعارضين كونَ الحقيقة مفهومًا مراوِغًا. تقولين في كتابك ومحاضراتك أن هذا جيّد لأنه يدفع الأمور قدمًا في الأنظمة الدّيمقراطيّة. لكن اللحظة التي نعيشها تبدو أكثر حدّة، فهنالك صراع غير صحّي، وإذا اتّفقنا على أن الوضع ليس أفضل بكثير في الأنظمة الشّموليّة، فما هو النّظام الذي سيوفر الحقيقة لشعبه بطريقةٍ صحّية ودون التّلاعب بها.

صوفيا: نعم، هذا سؤالٌ صعبٌ للغاية، إذ لا يوجد بالطّبع نظامٌ ستتنزّل فيه الحقيقة من الغيوم بكل بساطة، وستكون صحيحةً وغير متنازع عليها. أعتقد أننا إن أخذنا كل شيءٍ بعين الاعتبار سنجد إن الإطار الواسع للديمقراطيّة هو وسيلةٌ أكثر جاذبيّة للوصول إلى الحقيقة من الطّريقة الاستبداديّة. ربما يجب أن نتفق على أن السّلطة قد تضعك في السّجن لأنك تحمل رأيًا خاطئاً، حسنًا؟ هذه نسخةٌ متطرفة. لا أعتقد أن أحدًا يريد ذلك حقًا حتّى لو كان سيحلّ بعض المشاحنات اليوميّة. ومع ذلك، أعتقد أن هنالك أشياء أصغر يمكن القيام بها على الهامش من شأنها أن تجعل عمليّة الوصول إلى الحقيقة الديمقراطيّة أقلّ شناعةً، وربما أقلّ إثارةً للجدل. مثلاً، الإطار القانوني الذي ألحق اللعنة بوسائل التّواصل الاجتماعي، لم يُتح المجال لتحميل أي احد المسؤوليّة عن أي شيء، في الولايات المتّحدة على الأقلّ. القانون الأوروبيّ، على سبيل المثال، أكثر صرامة. هناك بالتّأكيد طرقٌ تمكّنُ المرء من الحفاظ على الفكرة الأساسيّة لحرّية التّعبير، ولكن مع وضع المزيد من المعايير، والمزيد من القواعد النّاظمة للعبة التي قد تجعل من المستحيل، مثلاً، نشر الأكاذيب الخالصة عبر قنوات التّواصل الاجتماعي الرّئيسيّة. لا أعتقد أن هذا احتمالٌ وارد، لكنّني أعتقد أن هذا قد يفيد. أعتقد أن أشكال التّعليم المختلفة حول العلاقة بين الحقيقة والديمقراطيّة قد تفيد. أنا لا أقول أنها ستحلّ المشكلة. لا أقول أنه يمكن للجميع أن يجتمعوا ويتّفقوا على كلّ شيء. هذا خيال. لكن إذا كنا حاليًا في وقتٍ صعب للغاية بالنسبة للحقيقة، فقد نفكّر في بعض أسباب ذلك، ومن ثمّ نفكّر كيف يمكننا التّعامل مع بعض هذه الأسباب.

عماد: هل تعتقدين أن المظالم الاقتصاديّة والتّفاوتات بين الناس قد تكون أحد الأسباب الجذريّة لفداحةِ مشكلةِ الحقيقة الآن؟ لا يبدو أن وسائل الإعلام هي مصدرُ عدم الثّقة بالحقيقة.

صوفيا: يمكنني القول إن عدم المساواة محرّكٌ كبيرٌ لكلّ هذا، لكنني سأقول إن عدم المساواة اقتصاديّةٌ فقط. معظم السياسات هذه الأيام لا تفرِّق مباشرةً على أساس القضايا الماليّة. فهي مرتبطةٌ أيضًا بعدم المساواة الثّقافيّة، والتي أعتقد أنها منبثقةٌ عن عدم المساواة الاقتصاديّة. إذا أردتَ أن تتوقّع كيف انتخبَ شخصٌ ما في الولايات المتحدة وفرنسا أيضًا، فإن أسهل طريقة لفعل ذلك هي النّظر إلى الرمز البريدي لمنطقة سكنه والمكان الذي يعيش فيه أكثر من ظرفه الماليّ فعليًا. ولكن إذا كنت مرشحًا ونظرت إلى الموقع، فيجب أن تنظر بعدها إلى المستوى التّعليمي، إنّه بالغ الأهميّة، سيعطيك انطباعًا جيدًا، لن يكون دقيقًا تمامًا بالطّبع، لكنه سيُطلعك على الكثير. عندما تجمع بين عدم المساواة الثّقافيّة، وعدم المساواة التّعليميّة وعدم المساواة الاقتصاديّة، يشعر الكثير من النّاس أن العالم تخلّى عنهم، لذلك ليس من المُستَغرب أن يكون هؤلاء الأشخاص أنفسهم في كثير من الأحيان غير راغبين في رؤية التّغيير، ولا يريدون أن يشهدوا صعودَ مجموعاتٍ إثنيّة أو دينيّة أو عرقيّة جديدة. إنّهم لا يريدون أن يروا تغييرات في القيم التّقليدية. يريدون أن يعرفوا أن هنالك ماضيًا مُتَخيّلاً يجب الحفاظ عليه، وهو أمرٌ مفهوم عندما يشعر الناس أنهم فقدوا موطئ قدمهم نوعًا ما، وأن العالم يعطيهم منتجات ثقافيّة وآراء سياسيّة وحتّى منتجات تجاريّةً تتبنى قِيَمًا تبدو متناقضة مع العالم الذي نشأوا فيه.

عماد: بالحديث عن الثّقافة، حتى الجامعات تبدو مُسْتَقطبة وسمعنا بعض الباحثين يتحدّثون عن ثقافة الإلغاء وعن عدم قدرتهم على التّعبير عن آرائهم أو الخوف من انتقاد مواضيع معينة عندما يتعلّق الأمر بالنّوع الاجتماعي على سبيل المثال حيث توجد مخاوف من أن يتمّ انتقادهم ووصفهم بأنّهم كارهون للمثليين أو للنّساء أو متحيّزون جنسيًا، أو عندما يتعلّق الامر باللقاح، فإذا عبّر الناس عن بعض المخاوف حيال فعاليّته، على سبيل المثال، يُصنّفون فورًا على أنّهم مناهضون للتطعيم مع كل التّداعيات الاجتماعيّة والنّفسيّة التي تتبع مثل هذا التّصنيف. هل تعتقدين أن الجامعات تعيش مثل هذا الواقع أم أن هذه مجرّد مبالغة؟

صوفيا: في السابق، كنت سأقول إنّ الجامعات لم تكن متورّطةً إلى هذا الحدّ. على سبيل المثال، خلال سنوات ترامب، تحمّلت وسائلُ الإعلام والصّحفيون والصّحافة وطأة هذا النّوع من الهجوم على صوابيّتهم السّياسيّة أو يقظتهم (wokeness). من يتحمّل وطأة هذا الهجوم الآن هي المدارس والجامعات، وخاصة الجامعات. في الواقع، هذا هو السبب الذي جعل “رون ديسانتيس” في فلوريدا مهتمًا جدًا بعمل نسخةٍ محافِظةٍ من نظام التّعليم الحكومي في تلك الولاية. تتعرّض الجامعات للهجوم من الخارج بسبب نوعٍ من الصوابيّة السّياسيّة أو اليقظة. وهذا بالطبع تغيُّرٌ في المناخ إلى حدٍّ ما أيضًا. لكنني أعتقد أن الجامعات تعكس الاستقطاب حول الحقيقة والمعرفة الموجودة في المجال العام الأوسع. لذلك، هناك جهدٌ لمجابهة النُّسَخ اليمينيّة من الحقيقة، مثل “الكذبة الكبرى”. ولكن كما قلتَ أيضًا، هنالك نوع من ثقافة الإلغاءِ الأقلّ تسامحًا مع تنوُّع وجهاتِ النّظر، خاصةً لأن الأسئلة حول كيفية تحديد ماهية العالم ووصف العالم باتت سياسيّةً للغاية. الجامعات ليست محصّنةً على الإطلاق ضدّ الرياح الأخرى التي تعصف بثقافتنا. أعتقد أن هنالك إحساسًا مضَخّمًا بأنّ النّاس حسّاسون للغاية في الجامعات بحيث لا يمكن لأحدٍ أن يقول أيّ شيء في أي قاعةٍ دراسيّة وأن عملَ الإنسان كأستاذٍ جامعيّ كابوسٌ متكامل، لكن تجربتي لم تكن كذلك في العديد من المؤسّسات المختلفة. ومع ذلك، أعتقد أيضًا أنهّا مثلَ أغلب الخرافات، جزءٌ منها حقيقيّ فعلاً.

عماد: هل يتعلق الأمر بالديمقراطيّات الليبراليّة أكثر من أيّ شكلٍ آخر من الدّيمقراطيّات؟ هل قضية الحقيقةِ هذه خاصّةٌ أكثر بالديمقراطيّات الغربيّة التي غالبًا ما تُدار أنظمة الحكم فيها من قِبل حزبين رئيسيين، كما هو الحال في الولايات المتّحدة، ومعظم أوروبا الغربيّة، والتي غالبًا ما ينقسم حزباها بين اليسار واليمين، وبينما يصبحان أكثر استقطابًا وتتسعّ الفجوة بينهما باستمرار يصبح النّاخبون على الجانبين أعداء لبعضهم إلى حدٍّ ما، ويختلفون على كلّ شيء تقريبًا؟

صوفيا: أعتقد أنّها ظاهرةٌ أكبر من ذلك. بالطبع يكون الأمر أكثر حدّةً في الأماكن التي ترى فيها ديمقراطيّات برلمانيّة أو ديمقراطيات غير عاديّة مثل الولايات المتّحدة. لكن إذا نظرتَ إلى البرازيل والهند، فهذه خارج أوروبا وخارج الغرب إذا جاز التعبير، ومع ذلك، فهي تشهد بالتّأكيد نوعًا من الدّيمقراطيّة غير الليبرالية التي تنشأ في العديد من هذه الأماكن أحيانًا عبر شكلٍ من أشكال الاستيلاء اليمينيّ، وأحيانًا عن طريق تغيير النّظام القضائي، قد يختلف الامر. أعتقد أنّها مشكلةٌ تواجهها الديمقراطيّات ككل.

عماد: هل تعتقدين أن قضيّة الحقيقة هي أزمةٌ للديمقراطيّة؟


صوفيا: نعم. أعتقد أنها أزمةٌ للديمقراطيّة. لا أعتقد أن هذا يعني نهاية الديمقراطيّة. وأعتقد أنه من السّابق لأوانه القول إن الديمقراطيّة قد وصلتْ إلى نهايتها. لا أرى أيّ بديل أفضل يلوح في الأفق، لكنني أعتقد أن مجموعةً من العوامل قد أوجدتْ عاصفةً مثاليةً إلى حدٍّ ما. أحدها هو وسائل الإعلام التكنولوجيّة والاجتماعيّة، لكن هذا ليس العامل الوحيد على الإطلاق. العامل الآخر هو الإطار القانونيّ والاقتصاديّ المحيط بوسائل التّواصل الاجتماعي، أعتقد أن هذا مهم، وقد ذكرتَ موضوع تثبيت النّفوذ في وسائل الإعلام المؤسسيّة. والسّبب الآخر هو اتّساع فجوة التّفاوت العالميّة والإحساس بأن الكثير من المشاكل التي نواجهها في العالم حاليًا كبيرةٌ جدًا ويبدو أنها مستعصية لدرجة أن حكوماتنا الوطنيّة الحاليّة غير قادرةٍ ببساطة على إيجاد حلولٍ جيّدة لها، وهذا يشمل أمورًا مثل الاحتباس الحراري. عندما تضع عددًا من هذه العوامل معًا، أعتقد أنّك تصلُ إلى أزمة مركّبة. لذلك، لا أعتقد أن وسائل التّواصل الاجتماعي وحدها، على سبيل المثال، تشكّل أزمةً عالمية. أعتقد أنه مجردٌ عامل بين عدّة عوامل.

عماد: لدي سؤالان أخيران، الأوّل يتعلّق بمقال نشرتِه في مجلة “The Nation” حيث سألتِ في العنوان إن كانت الولايات المتّحدة قد كانت ديمقراطيّةً يومًا. أنا مهتمٌّ بسماع إجابتك على هذا السّؤال.

صوفيا: كانت للولايات المتّحدة ميولٌ ديمقراطيّة، وتطلّعاتٌ ديمقراطيّة، على ما أعتقد، ولكن هل كانت ديمقراطيّة تمامًا؟ من الصّعب قول ذلك. أعني، وضعنا مختلفٌ جدًا حاليًا إذ لطالما كانت لدينا ثقافة عنصريّة بالتّأكيد. وحتى مع نهاية العبوديّة، من الصّعب جدًا النّظرُ إلى الولايات المتّحدة كملعبٍ متكافئ أو أرضٍ تتكافأ فيها الفرص للأشخاص المنحدرين من خلفيّات مختلفة. لدينا العديد من المؤسسات المتأصّلة التي تمنعنا من أن نكون أكثر شعبيّة، مثل مجلس الشيوخ على سبيل المثال، والتي يتمّ تنظيمها بشكلٍ خاصّ للحدّ من أثر الحكم الشعبي. كمية المال في السّياسة الأمريكيّة تجعلها أوليغارشية إلى حدٍّ كبير. لا أعتقد أن كلَّ مواطنٍ يتمتّعُ بتمثيلٍ متساوٍ، إذا كان بإمكان أحدهم تقديم مساهمةٍ بمليون دولار للحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطيّ ولا يستطيع المواطن الآخر ذلك، فهذا يغيّر بالتّأكيد التأثير الذي يتمتعون به. لذلك أعتقد أنك قد تصفُها بأنّها ديمقراطيّة غير متحقِّقة. ما أردتُ التّأكيد عليه في هذا المقال هو أنه في البداية لم تكن حتّى الديمقراطية هي المطمح، كان المطمح أشبه بجمهوريةٍ لملّاك الأراضي. لم يتخيّل أحدٌ أن يصوّت الجميع. في القرن الثّامن عشر، لم تكن النّساء تنتخب، ولا الأمريكيون الأصليون ولا السّود ولا الفقراء أيضًا. ومع ذلك، كانت هناك تطلّعات إلى قدرٍ أكبر من المساواة والحرية مما كان عليه الحال في الدّولة السّابقة. النّسخة اليمينية من هذا ستقول إن أمريكا لا تحتاج إلى أن تكون ديمقراطيّة، وأنّها لم تكن ديمقراطيّةً قط. أنا لا أرى الأمور بهذه الطّريقة. أرى أنها كانت محاولةً أولى لتخيُّل شيء ديمقراطيٍّ إلى حدٍّ ما ولكنه يبدو مستقرًا وهذا يعني الاعتماد على أرباب الأسر المالكين للعقارات. لقد تطوّر ذلك لكنّنا لم نحقّق الديمقراطيّة أو نحققها بالكامل. يمكن القول حتّى أن الديمقراطية تطمح دائمًا للمزيد، إنّها عملٌ مستمرٌ على الدّوام.

عماد: ذكرت أن الديمقراطيّة في القرن الثّامن عشر كانت مخيفة، لماذا كان ذلك؟

صوفيا: كان يُنظر إليها على أنّها حكم غوغائي، فوضوي. لذلك إذا عدتَ إلى الكتّاب القدامى في السياسة، فإن الديمقراطيّة بدت وكأنها فوضى (أناركيّة). كالسّماح لأشخاصٍ لم يتلقّوا أيّ تعليم وتحرّكهم مصالحهم وليس لديهم معرفة بالسياسة، بإدارة الأمور. بدت الفكرةُ مجنونةً. لم تصبح الديمقراطية فكرةً ذات دلالات إيجابية إلا بحلول أوائل القرن التّاسع عشر.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط