غسيل العمالة: حين تصدر الدول المتقدمة انتهاكاتها للخارج


واشنطن- عماد الرواشدة


على امتداد العقدين الأخيرين، كرست المنظمات غير الربحية الغربية والعربية جهدها للتحقيق في ظروف العمال في العالم العربي. وفي سياق هذا المسعى، صدرت الآف التقارير التي تفصل في الانتهاكات الواقعة على العمالة مرفقة بتوصيات لتغيير السياسات الحكومية والتشريعات للحد من ظاهرة الاستغلال وسوء المعاملة. 

على الدوام، اتسم هذا النشاط الحقوقي والصحفي بميزتين رئيستين: الأولى تركيزه على البعد الهوياتي في قضايا العمالة حيث تحتل النساء والعمال المهاجرين صلب النقاشات لتُنتزع المسألة من سياقها العابر للطبقات والأجناس وتخضع لشروط الخطاب الهوياتي الليبرالي المهمين في الغرب.

 أما الميزة الثانية، فتكمن بفصل النشاط الحقوقي والإعلامي الغربي والعربي للقضية عن سياقها الدولي وتحويلها لمشكلة موضعية محلية متعلقة بالبلد المعني حصرا، وهذا البلد غالبا نامٍ، في تجاهل للارتباط الوثيق بين قضايا العمالة المحلية من جهة وطبيعة الاقتصاد الدولي في عصر العولمة، من أخرى.

 في إطار مثل هذه التغطيات، كان غربيا المعيار الضمني والمعلن لتعريف الانتهاكات. وغربيا كان أيضا تصميم السياسات لمواجهتها. وكان مجمل النقاش متأثرا بصورة نمطية تقضي بتفوق الدول الصناعية في المجالين الحقوقي والأخلاقي فيما يخص العمال، مقابل ثقافة استغلالية لاحقوقية سائدة بشكل شبه حصري في العالم النامي.

قبل حديثي مع جون سميث، الناشط العمالي البريطاني وأستاذ الاقتصاد السياسي السابق في جامعة كينغزتون البريطانية، كنت اطلعت على مؤلفه المنشور في ٢٠١٦ والحاصل على جائزة بول سويزي وبول باران الصادرة عن مجلة المراجعة الشهرية. يحمل كتاب سميث عنوانا دالا شديد الصلة بظروف العمالة في العالم النامي وعلاقتها بشكل الاقتصاد الدولي: “الأمبريالية في القرن الواحد والعشرين: العولمة، الاستغلال المفرط، وأزمة الرأسمالية الأخيرة”.

يعتقد سميث بوجود ما يمكن اعتباره انتقائية في التغطيات الغربية لقضايا العمال في العالم العربي والنامي عموما.

يعتقد سميث بوجود ما يمكن اعتباره انتقائية في التغطيات الغربية لقضايا العمال في العالم العربي والنامي عموما.

في مثال قريب، يستعيد الصخب الإعلامي والرسمي الغربي على ظروف العاملين البنغال في قطر. يرى “سميث” أن ظروف العمال في قطر سيئة للغاية، لكنه يلفت إلى أن التغطيات الصحفية الغربية ركزت على جانب واحد من الصورة دون أن تمر على أن أسر هؤلاء العمال في بلدانهم الأصلية تعمل ليل نهار في ظروف استغلالية بالكامل ومقابل بضعة سنتات للساعة لإنتاج القمصان الرياضية وكرات القدم التي استخدمها لاعبوا الفرق والمنتخبات الإنجليزية والأوروبية خلال المونديال. 

كانت وسائل الإعلام الدولية، بعض المنظمات الحقوقية ونشطاء عرب وأجانب قد انخرطوا في موجة انتقاد واسعة لقطر أثناء تنظيمها لكأس العالم، على خلفية تقرير نشرته الغارديان البريطانية يتحدث عن وفاة نحو ستة آلاف عامل آسيوي خلال عشر سنوات منذ رسو عطاء تنظيم المونديال على الدوحة في ٢٠١١.

من وجهة نظر “سميث” يلعب شكل الاقتصاد ومدى تطوره دورا في شكل وحجم والاستغلال.

خلافا لتقدم الاقتصاد الغربي، يقول الباحث البريطاني إن الشرق الأوسط  “ليس مركزا لنشاط اقتصادي صناعي متقدم”، وتباعا، يتخذ الاستغلال فيه طابعا مختلفا من حيث الحجم وربما الحدة. يرى الأكاديمي والناشط العمالي أن الظروف الأكثر بؤسا للعمالة في العالم النامي تتركز في منشآت ومصانع متعاقدة مع كبريات الشركات الغربية بدأ من صناعة الإلكترونيات، الملابس وخطوط الموضة وصولا إلى القهوة والشوكلاته وهو ما يعطي لنقاشها بعدا دوليا حكما.

 “لديك تحالف يتخذ طابعا يشبه المؤامرة، إذا جاز التعبير، بين رأس المال الغربي وشريكه المحلي. يسعى الأول لتقليل الإنفاق فيضغط على الأخير، ولا يجد الأخير بدا من اقتطاع ذلك من حقوق العاملين لديه، من ساعات فراغهم، أجرهم، والبنية التحتية التي يشتغلون فيها”. 

تقول الشركات الغربية إن لديها سياسات صارمة حيال الأمر، وتشترك جميعها تقريبا في مبادرات حقوقية لضمان عدم تكرر تلك الانتهاكات. لكن “سميث” يجادل باستحالة إصلاح تلك الشركات لنفسها كما يأمل كثيرون، فزيادة الإنتاجية وتعظيم الربح دافعان بنيويان في خلق واستدامة الانتهاكات بحق العمالة يجعلان الاستغلال ضرورة اقتصادية على نحو أو آخر.

في مينمار، حيث تصنع قمصان “أديداس” و”نايكي” التي يرتديها لاعبو المنتخبات التي شاركت في كأس العالم، يحصل ملايين العمال الآسيويين على أقل من ثلاثة دولارات في اليوم لقاء إنتاج قمصان يباع الواحد منها بأسعار تتراوح بين ٩٠ و ١٥٠ دولار.

رغم قسوة هذا الواقع، إلا أنه لا يحظى بتغطية شمولية لأبعاده كافة.

حين تجري تغطية مثل هذه الظواهر في الإعلام الغربي، عادة ما ينصب التركيز على انتهاكات الطرف المحلي، مع اهتمام أقل بالمسؤولية التي تتحملها العلامات التجارية الغربية عن هذا الواقع،

حين تجري تغطية مثل هذه الظواهر في الإعلام الغربي، عادة ما ينصب التركيز على انتهاكات الطرف المحلي، مع اهتمام أقل بالمسؤولية التي تتحملها العلامات التجارية الغربية عن هذا الواقع، والدور الذي يلعبه شكل الاقتصاد الدولي عموما في خلق واستدامة هذا النوع من الاستغلال. في هذه المقالة لنيويورك تايمز حول الأمر، لا يبدو مثل هذا السياق جوهريا في معالجة الظاهرة، وبالكاد تجري الإشارة إليه في ذيل المادة المنشورة. 

 في تقارير المنظمات الدولية، غير الحكومية وغير الربحية (الغربية في سوادها الأعظم) على السواء، تقول الأرقام إن غالبية الدول التي تتصدر قوائم الاستغلال للعمالة تقع قي العالم النامي: فيتنام، كمبوديا، أفريقيا، وطبعا العالم العربي. ملحق الاستعباد الحديث للعام ٢٠١٨ الصادر عن المنظمة الاسترالية غير الربحية التي تحمل نفس الاسم، يشير إلى أن الدول الأسوء على هذا الصعيد جميعها نامية. 

لكن مثل هذه الأرقام لا تعدو كونها وجها واحدا للعملة ينبه “شاندران نير”. 

يركز “نير” جهده البحثي على موضوع الاستغلال الدولي للعمل، وتفنيد الصورة النمطية لمشاكل العمالة في العالم النامي باعتبارها منتجا ذاتيا، أو واقعا خلقته وعززته ثقافة الشعوب الفقيرة التي ينظر لها باعتبارها لا تحترم حقوق الإنسان.

“ عادة ما يجري تجاهل حقيقة أن الغرب هو المسؤول عن بناء الشكل الحالي للرأسمالية، التي لا يتوقف فيها الطلب على السلع، من خلال الاعتماد على العمالة الرخيصة لأنه لا يريد دفع الثمن الحقيقي لتلك السلع” يقول “نير” في مقالة نشرتها مجلة تايم البريطانية.

في مقالته تلك يتساءل الكاتب: “لما يحدث الاستغلال في الدول النامية؟ هل لأن ثقافتها تشجع على ذلك؟” وفي محاولته الإجابة يشير الى أن هوامش الربح عن بيع الشاي الهندي، مثلا، في أسواق هاروودز البريطانية لا تذهب لجيوب المشغلين الهنود كما يسود الاعتقاد، ولكن لسلاسل من الوسطاء التجاريين في دول المركز الأوروبية، أي لكيانات غربية وليست نامية. العولمة، يقول، خلقت تقسيما بين دول مصدرة للعمالة الرخيصة وأخرى ثرية مستغلة لها، أدى لتأبيد الفقر في المجتمعات النامية، ودفع طبقات بأكملها لبيع أجسادها مقابل أجور زهيدة وفي ظروف عمل غير إنسانية، أو ببساطة الدفع للمهربين وتجار البشر لنقلهم للبلدان المتقدمة. 

سلاسل قيمة للاستغلال

في سياقه التاريخي والواقعي، يبدو استغلال العمالة مشكلة بنيوية في صلب النظام الرأسمالي الغربي، ولدت وتطورت معه منذ تجارة العبيد في أفريقيا عبر الأطلسي للأمريكيتين وأوروبا، والتي أسست للبنية التحتية للنقل والاقتصاد عموما في الامبراطورية الأميركية وفي أوروبا. نيل المستعمرات الأوروبية استقلالها أواسط القرن الماضي، غير معه نمط استغلال قوى العمل في العالمين العربي والنامي.

الآن، تمارس الشركات الغربية المليارية استغلالها بالوكالة من خلال المتعاقدين المحليين في دول الجنوب الفقيرة. هذا ما تسميه ايتان سواندي، “سلاسل قيمة العمل الدولية.” Value chains”

لكن ما الذي يعنيه هذا الاصطلاح؟

وضعت سواندي دراسة علمية هي الأولى من نوعها عن الأمر ونشرتها في كتاب صنفه نقاد باعتباره واحدا من أهم الكتب التي تناولت الاستغلال العمالي للشركات الغربية متعددة الجنسيات في عصر العولمة. حمل الكتاب عنوان: سلاسل القيمة، الإمبريالية الاقتصادية الجديدة. 

“الصورة باختصار كالتالي:” تقول سونداي في مؤلفها. “يعتبر الموردون في العالم النامي أن إقامتهم علاقات تجارية مع الشركات الغربية بوصفها منتهى الرقي بالنظر إلى هوامش الربح الجيدة من جهة، واستقرار الطلب على منتجاتهم من أخرى. ولكن الأهم، أن هذه العلاقات مع الشركات الغربية تفتح الطريق للحصول على لقب المورد المهم جدا، VIP، وهو ما يضمن تواصل صفقات التوريد الضخمة. لذا يبدو الموردون على استعداد تام لفعل كل ما تطلبه الشركة الغربية، رغم أن ما تطلبه في كثير من الأحيان غير منطقي وعادة ما يؤدي لصعوبات متواصلة في الإنتاج”

واحدة من أهم الاستراتيجيات التي تتبعها الشركات الغربية تسمى “سياسات العزل” المسؤولة، تنبه الباحثة، بشكل مباشر عن استغلال الموردين المحليين لعمالهم. 

تهدف فكرة العزل، Buffer، إلى حماية الشركة الأم من تقلبات الطلب العالمي عبر اشتراطها على الموردين المحليين في العالم النامي إبقاء فائض من البضائع في المخازن يصل إلى ٢٠ بالمئة، جاهز للشحن متى ما طلبها الزبون. تحمي مثل هذه السياسة الشركات الغربية من خطورة تذبذب الطلب، لكنها بالمقابل تحمل تلك الخطورة لموردين في الجزء الفقير من العالم.

بالمقابل، يحاول هؤلاء الموردون في العالم النامي حماية أنفسهم من إنتاج بضائع قد لا يجري شحنها، فيعملون على زيادة إنتاجية العمال مع الحفاظ على مرتبات الأخيرين دون زيادة وتقليص أي منافع أخرى سعيا لتخفيض الكلف.

مع بداية السبعينيات، على الأقل، انطلقت هجرة الصناعات الغربية لمناطق العمالة الرخيصة. رافق هذه الهجرة نمطان بارزان: تزايد في حجم الإنتاج وغزارته من جهة، وتزايد في الانتهاكات لحقوق العمال في البلدان النامية المستقبلة لتلك الهجرات الصناعية من أخرى. 

في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث الاحتياطات الهائلة من مادة النحاس التي تدخل في صناعة البطاريات، الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، تعتبر ظاهرة عمالة الأطفال شديدة الصلة بنشاط شركات مثل أبل، سامسونج، وفوكس فاغن الألمانية، على ما تفيد تقارير منظمة العفو الدولية

يؤدي التعرض لغبار النحاس في مناجم الاستخراج إلى أمراض صدرية قاتلة. تقول الأمم المتحدة إن نحو ٤٠ ألف طفل يعملون في استخراج النحاس جنوب الكونغو. غالبية هؤلاء يعملون لاثنتي عشرة ساعة متواصلة يتخللها حفر، واستخراج وغسل النحاس، ومن ثم نقل أوزانه الثقيلة على الاكتاف الى مواقع التحميل.

المقابل المالي لكل ذلك؟ دولاران في اليوم، كحد أقصى، للمساهمة في إنتاج الملايين من هواتف “أبل”، مثلا، والتي تتجاوز قيمة إصداراتها الحديثة بالمعدل الألف دولار أميركي للجهاز الواحد.

لا يقتصر الأمر على الكونغو أو استخراج النحاس، ولكنه يمتد لصناعة القهوة والشوكولاته، الألبسة وغيرها من انشطة تسيطر على جلها شركات أوروبية (وليس فقط أميركية) مثل “نستلة” السويسرية، أو علامات الموضة الكبرى في قطاع الألبسة ممن نُشرت عشرات التقارير عن علاقتها بعمالة الأطفال، أو في مزارع البن في أفريقيا، آسيا والأمريكتين. 

استغلال العمالة في الغرب

رغم تلك الصور، عادة ما أخذ الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيزا في الأذهان باعتباره المكان المثالي للعمل، حيث الانضباط، الإنسانية، القوانين المنظمة لإجازات الأمومة والأبوة، والتعليمات المتعلقة بمحاربة التحرش وعمالة الأطفال، والمدونات السلوكية لخلق بيئات عمل “صحية” و”وادعة”.

في جزئها الأعم، تبدو تلك الصورة صحيحة، على أن لها وجها آخر قلما تجري مناقشته عربيا، وربما غربيا في وسائل الإعلام.

تخبرنا نتائج دراسة أعدها الاتحاد الأوروبي في ٢٠١٩ بالاستناد على مقابلات مع نحو ٢٠٠ عامل أوروبي وغير أوروبي، أن “الاستغلال الجسيم” للعمالة يبدو منتشرا في سبع دول من أبرزها، هولندا، بلجيكا، ألمانيا، فرنسا وايطاليا. يشمل ذلك الاستغلال: العمل لساعات طويلة دون مقابل ودون مأوى، الضرب، والإهانة.

رغم القوانين الناظمة للعمل، يقول المستطلعون إنهم آثروا الصمت خشية التسريح. بعض هؤلاء يجري استغلالهم بسبب عدم امتلاكهم للتصاريح اللازمة للعمل. 

لا تنحصر الانتهاكات الغربية بما يعرف بالعمالة غير القانونية، أي تلك المعتمدة على المهاجرين بلا وثائق، ولكنها تمتد لتشمل المرخصة من مهاجرين وغيرهم أيضا. يصلح إَضراب قطاع الممرضات البريطاني الأخير كمؤشر على شكل الاستغلال الذي يتعرض له العمال الغربيون في بلدانهم.

 وُصف إضراب ممرضات الكلية الملكية ب”غير المسبوق” بالنظر إلى كونه الأول من نوعه منذ أكثر من مئة عام. تشتكي العاملات في قطاع التمريض البريطاني من طول ساعات العمل إلى الحد الذي لا يمكنهن من أخذ استراحة الغداء، في وقت تهوي فيه مرتباتهن إلى ما دون معدلات التضخم ليجدن صعوبات جدية في دفع فواتير التدفئة، امتلاك منزل بدل الاعتماد على الإيجار أو اقتناء سيارة. 

يحدث هذا الشكل من الاستغلال في القطاع الصحي البريطاني رغم الانطباع السائد عنه باعتباره حكوميا. على أن الواقع يشير إلى العكس، فالحكومة وإن كانت هي من تدفع كلفة الخدمة إلأ أن تلك الخدمة يجري تقديمها فعليا من قبل شركات القطاع الخاص. تشير الأرقام عن أوضاع القطاع الصحي البريطاني إلى ارتفاع وتيرة الخصخصة فيه خلال العشر سنوات الأخيرة على نحو ملحوظ.

العمالة الأمريكية: استغلال في مركز النظام الليبرالي

تقول منظمة “غرين أميركا” الحقوقية إن ظروف العمالة في بعض المناطق النائية في الصين، حيث “يحشر العشرات من العمال في مصانع صغيرة مغبرة بالكامل يعملون لنحو ١٨ ساعة بلا انقطاع”، لا تختلف عن ظروف العمل في عدد من أبرز الشركات في الولايات المتحدة مثل ماكدونالدز، وينديز، أو سلسلة متاجر وول مارت. 

“تعد هذه الفئة أكثر الفئات تعرضا للاستغلال، حيث تواجه ظروف عمل خطرة، سرقة لأجورها، تمييزا عنصريا، وحتى اعتداءات جسدية” تخبرنا المنظمة عن القادمين الجدد  للبلاد.

قطاع الزراعة، حيث يعمل مليون ونصف المليون عامل -نحو ثلثهم بتأشيرات عمل مؤقتة- يعتبر مستثنى تماما من قانون “حماية علاقات العمل” الذي سن في الثلاثينيات. تصل ساعات الشغل للعاملين في هذا المجال، إلى نحو ٧٥ ساعة أسبوعيا، أي نحو ١٥ ساعة عمل يوميا بافتراض حصول العمال على عطلة اليومين. 

يقضي قانون ولاية نيويورك باحتساب العمل الإضافي بعد ٦٠ ساعة أسبوعيا، في حين يبلغ المعدل الطبيعي لساعات العمل الاسبوعية ٤٠ ساعة. أما الأجر للساعة لتلك الفئة فيقدر بنحو ١٤ دولارا، وهو أقل بنحو ٥٠٪؜  من المعدل العام في البلاد والبالغ نحو ٢٨ دولارا لسائر صنوف العمل في ٢٠٢٠.

في بيئات الشغل نفسها، يتعرض العاملون في القطاع لمختلف أشكال الخطورة بما فيها الوفاة؛ إذ قضى أكثر من ٤٠٠ نحبهم في ألفين وعشرين في حوادث متعلقة بالعمل، هذا فضلا عن “العبودية الحديثة” حيث تقول التقديرات الحقوقية أن ٩٠ بالمئة من عمال الزراعة عانوا أشكالا مختلفة من العبودية الحديثة

تعرف الأمم المتحدة “العبودية الحديثة” باعتبارها ظاهرة تتضمن العمل القسري والاحتجاز والشغل لساعات طويلة يتخللها مختلف أشكال الاعتداءات. في أوساط النساء العاملات في هذا المجال والمقدر عددهن بنحو سبعمائة ألف، عانت ثمانية من كل عشرة من التحرش الجنسي

الأسوء هو ما تكشفه بيانات وزارة العمل الأميركية للفترة بين ٢٠١٥ و ٢٠١٩ من أن أكثر من ثماني آلاف منشأة أميركية “سلبت” موظفيها ما تقارب قيمته الربع مليار دولار على شكل انتهاكات في الحد الأدنى للأجور والإجازات. كبريات المنشآت، مثل هاليبرتون للنفط، تعد من بين المتهمين الرئيسيين.

بيئات العمل المكتبي

على أن ظاهرة الاستغلال لا تشمل الأعمال التي تتطلب قوة بدنية فقط، بل تتعداها للعمل الذهني المكتبي الذي يؤديه أصحاب الياقات البيضاء. 

استغلال العاملين في البيئات المكتبية في الولايات المتحدة، بخلاف سابقه، لا يحدث على نحو فج، لكنه يتوارى خلف طول ساعات الشغل، الحرمان من عطلة السبت، تحديدا في القطاعات البنكية وقطاعات التأمين، وتدني الأجور قياسا بمعدلات التضخم. 

خلال العام الماضي فقط، تعطفت إدارة مصرف غولدمان ساكس على موظفي بنكها بالإجازة يوم السبت مثلا، فيما تواصل غالبية البنوك التزامها بخرق قاعدة عطلة اليومين. حتى في تلك القطاعات التي تلتزم بعطلة اليومين، تبدو مشكلة الإعراض عن استخدام الإجازات السنوية ثقافة عامة. 

غالبية الأميركيين لا يأخذون نصف ما يحق لهم من مشغليهم من إجازات سنوية (رغم رغبتهم بذلك). السبب على ما تشير دراسة لرابطة السفر الأميركية التي تتابع الأمر لضمان ربحية القطاع، هو الثقافة المؤسسية التي عززت في أذهان العاملين أن السلوك المثالي للموظف يعتمد، بين أمور أخرى، على خفضه أيام التغيُّب عن العمل خشية جعله قابلا للتسريح والاستبدال بآخرين. 

ومع بيئات شغل ضاغطة إلى هذا الحد، يتحول ما يعرف بالاحتراق الوظيفي إلى مشكلة عامة في الولايات المتحدة. في ٢٠٢١ نفذت الرابطة الأميركية لعلم النفس مسحا علميا نبهت نتائجه إلى أن ٧٩٪؜ من الأميركيين عايشوا الاحتراق على الأقل مرة واحدة في الشهر الذي سبق المسح. 

تعرف منظمة الصحة العالمية ظاهرة “الاحتراق الوظيفي” باعتبارها عارضا صحيا تتجلى أعراضه على شكل استنفاد في طاقة الموظف، انخفاض في همته، مع انعدام في القدرة على الانفصال فكريا عن العمل، وسيطرة الأفكار السلبية المتعلقة بالوظيفة على ذهنه ما يتسبب في نهاية المطاف بانخفاض فعاليته.

لعل أكثر ما يدهش الباحث في موضوع العمل أن دولة مثل الولايات المتحدة، تعد مركزا للنظام الرأسمالي والليبرالي الحقوقي في العالم، تفتقر حتى لحظة كتابة هذه السطور لقانون فيدرالي لإجازات الأمومة، دع عنك الأبوة، لتأخذ مكانها في هذا الصدد إلى جانب دول فقيرة أخرى دول مثل بابوا نيو غيني، أو جزر المارشال.

وفي إطار المقارنات بين أوضاع العمل في الولايات المتحدة ومثيلاتها في بقية أنحاء العالمين العربي والنامي، ينتشر الانطباع بارتفاع مستويات الأجور الأميركية، لكنه هو الآخر يحتاج إلى مزيد من التدقيق.

أجور وتضخم

لا تبدو “القيمة الحقيقية” للأجور الأميركية، أي قيمتها عقب احتساب التضخم، مرتفعة بأي حال. على امتداد العقود الماضية، يقول مركز بيو الأميركي للأبحاث والاستطلاعات، لم ترتفع القيمة الحقيقية للأجور الأميركية مطلقا. بكلمات أخرى، القوة الشرائية للأجور لا تزال على حالها منذ ١٩٧٨. 

تمثل شركة أمازون نموذجا صالحا للدراسة في هذا السياق. 

المؤسسة التي تقدم بوصفها نموذجا لريادة الأعمال والابتكار، وبلغت قيمة علامتها التجارية  ثلاثة أرباع تريليون دولار في ٢٠٢٢، ينظر لها بوصفها واحدة من أكبر المستغلين للعمال في البلاد. رغم أرباحها المليارية، لا يزال عمال مستودعات شركة أمازون في ولاية اريزونا الصحراوية يعتاشون على كوبونات دعم الطعام المقدمة من الحكومة لرفد مرتباتهم المتهالكة.

في خطوط مسح البضائع ضوئيا تمهيدا لشحنها، يطلب من الموظفين (من أصول مهاجرة في الغالب) مسح ١٨٠٠ طرد بريدي في الساعة، ٣٠ في الدقيقة الواحدة. ومع ضغط العمل، ترتفع الإصابات في صفوف العمال في مستودعات الشحن لدرجة تفوق بثلاثة أضعاف معدلها الوطني.

 العشرات من العرائض والاحتجاجات التي نفذها العمال تمثل فسحة للإطلاع على ظروف العمل في واحدة من كبرى الشركات الأميركية. لا تتجاوز الاستراحة في مستودعات أمازون النصف الساعة، وفق ما تفصله إحدى تلك العرائض، لكن الإدارة توجب أخذ الاستراحة على جزئين، بواقع خمسة عشر دقيقة لكل جزء، يقول العمال أنها تنفد في الطريق من المستودع لأماكن الاستراحة.

الليبرالية الجديدة والردة عن المكتسبات العمالية

التحولات نحو اقتصاد السوق وتقليل برامج الدعم الحكومي والخصخصة الكاسحة، أو الليبرالية الجديدة، مع نهايات القرن العشرين، لم تترك أثرها البائس على أوضاع العمال الاقتصادية فقط، ولكن النفسية أيضا. 

يشير عالم النفس البريطاني “أوليفر جيمس” إلى أن البيانات تدلل على أن نسب الإصابة بالاضطراب العاطفي تزيد بمرتين في المجتمعات الناطقة بالإنجليزية ممن طبقت برامج الليبرالية الجديدة

في مؤلفه المعنون “الرأسمالية الأنانية” يشير عالم النفس البريطاني “أوليفر جيمس” إلى أن البيانات تدلل على أن نسب الإصابة بالاضطراب العاطفي تزيد بمرتين في المجتمعات الناطقة بالإنجليزية ممن طبقت برامج الليبرالية الجديدة عنها في المجتمعات الأوروبية الأخرى التي لم تطبقها. لاحظ جيمس أن بداية التزايد في تلك الأرقام كانت مطالع الثمانينيات حين شرعت بلدان مثل الولايات المتحدة بتطبيق سياسات تقليص الخدمات الاجتماعية للعمال وخصخصة السجون بما أنتجته من ارتفاع نسب السجن الجماعي، تحديدا في أوساط الملونين، واستغلال هؤلاء في الأعمال الشاقة بلا أجر لصالح شركات مليارية أميركية مثل كومباك لصناعة الكومبيوتر، ننيتيندو لصناعة الألعاب، ماكدونالدز، ستاربكس وغيرها.

حتى المكتسبات التي توفرت للعمال الغربيين بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن في غالبيتها مدفوعة بثقافة ليبرالية أو مستجيبة لبيئة قانونية إنسانية في تعاملها مع حقوق المشتغلين. ليس في أميركا على الأقل. الدافع يبدو محصورا بمصالح تلك الشركات من جهة والحاجة لاستقرار النظام السياسي من أخرى.

في مؤلفه التوثيقي حول تطور سوق العمل الأميركي المعنون ب “انتهاء الولاء“، يستعرض ريك وارتزمان، كيف تدهورت العلاقة بين أصحاب الشركات الكبرى الأميركية والعمال على امتداد السبعين عاما الماضية بعد أن شهدت “عصرا ذهبيا” في أعقاب الحرب العالمية الثانية. 

الصحفي السابق في “وول ستريت جورنال” كان حصل على جائرة البوليتزر عن توثيق أثر سلاسل “وولمرت” على المجتمع الأميركي.

المزايا التي وفرها ذلك العصر للعمال، يلفتنا “وارتزمان”، كانت مدفوعة برغبة أرباب الشركات كبح جماح النشاط النقابي الصاعد في أوساط موظفيهم. بكلمات أخرى، مثلت زيادة المنافع الوظيفية أداة احتواء ناعمة بيد النظام الأميركي لجعل الانضمام للنقابات أقل جاذبية للعمال، رغبة بالحد من انتشار الأفكار الشيوعية.

 لم يلبث هذا العصر الذهبي أن انتهى بشكل تدريجي بدأ من منتصف الخمسينيات، يقول “وارتزمان”، تاركا أثرا في غاية السوء على صناديق التقاعد، المعاشات والمنافع الأخرى التي كان العمال الأميركيون يحظون بها قبل ذلك. بالفعل، الآن، بالكاد يتجاوز حجم التنظيم النقابي للعمال في القطاع الخاص الأميركي ١٠٪؜. 

 مع انحسار الوجود النقابي، انكمشت إضرابات العمال من نحو ١٣٠٠ في ١٩٨١، الى 16 إضرابا رئيسيا في ٢٠٢١، وفق بيانات مكتب العمل الأميركي. فئات بأكملها تعد مستثناة تماما من حق الإضراب في الولايات المتحدة، أهمها العاملون في قطاع الزراعة، أو الموظفون العموميون، والعاملون في حكومات الولايات أو المؤسسات الفيدرالية. 

وحتى في القطاع الخاص، حيث يعد الإضراب متاحا نظريا، تحتكم علاقة الموظفين الأميركيين مع مشغليهم لعقود تعطي الأفضلية المطلقة للأخيرين؛ متيحة لهم تسريح العمال حسب الرغبة وتقريبا دون إنذار، وهو ما يعرف بالعقود at will.

تقع الولايات المتحدة في ذيل قائمة طويلة لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في سهولة تسريح العمال، متأخرة عن واحد وسبعين دولة. 

اليوم، يشهد قطاع التقنية الأميركي واحدا من أكبر موجات التسريح في العقود الأخيرة. أمازون، مايكروسوفت، فيس بوك وتويتر، وغيرها أعلنت عن موجات تسريح متتالية شملت في كل مرة آلاف الموظفين. المبرر المطروح دائما هو تراجع العائدات، ارتفاع معدلات التضخم وتوجه الاقتصاد نحو ما يبدو ركودا. 

يحدث ذلك رغم أن تلك الشركات حققت أرباحا قياسية خلال العام الأول للجائحة، ٢٠٢٠ فقط، تجاوزت تريليون دولار.

سهل انتقال الصناعات الرأسمالية الغربية لدول الجنوب، من جهة، وتراخي وسائل الإعلام الغربية بالتركيز على استغلال العمال على أراضيها من جهة أخرى، ما يمكن اعتباره غسيلا غربيا لتلك الانتهاكات. في الوعي  الحقوقي والإعلامي الغربي، تبقى أوضاع العمالة الرثة ظاهرة أجنبية، انتهاكا يحدث خلف البحار، في الهند، فيتنام، إفريقيا والعالم العربي ويجري إنتاجه هناك ذاتيا.

تتجاهل هذه القناعة حقيقة أن انتهاكات العمل وإن كانت تحدث في الجزء الفقير من العالم، إلا أنها محكومة لسلاسل توريد تبدأ وتنتهي في العواصم الغربية. وفيما يخضع عمال الدول الفقيرة لشروط العبودية الحديثة لتأمين حفنة دولارت تعينهم على البقاء في مجتمعاتهم المتهالكة اقتصاديا، يولد جهدهم عوائد بمئات المليارات لمساهمين غربيين في مكاتب فارهة لكبريات الشركات في نيويورك، لندن وباريس.