واشنطن- عماد الرواشدة
منزعجا جدا يبدو السفير البريطاني السابق في سوريا والبحرين “بيتر فورد”.
“لم يستوعبوا الأمر في واشنطن بعد” يقول السفير في مقال نشره في أيار\ مايو الماضي حول الدعوة السعودية للرئيس السوري بشار الأسد للانضمام الى الجامعة العربية.
” يعتقدون ان كل ذلك مجرد نوبة غضب سعودية عابرة. ولا يزالون حتى الآن يتحدثون عن ضم السعودية لاتفاقات إبراهيم. هذا أقرب لجعل البقرة تقفز على القمر (…) لقد اضعتم ادوات تحكمكم في الشرق الأوسط. السعودية الان خارج الاحتجاز، وبدأت بالتنسيق مع روسيا والصين وبقية الأضواء في الحركة الجديدة المسماة: الجنوب العالمي”
حديث السفير لم يأت من فراغ وليس تعليقا على تطورات القمة العربية الأخيرة حصرا. الواقع أنه يمثل خلاصة تحليلية يتشاركها عدد متزايد من المراقبين والمحللين في الولايات المتحدة مفادها أن ما يشهده العالم اليوم، تحديدا منذ تولي الرئيس الاميركي جو بايدن سلطته وغزو أوكرانيا، يمثل تحولا في شكل العلاقات الدولية غير مسبوق حتى في حقبة الحرب الباردة.
يمكن إجمال ذلك التحول بتراجع الهيمنة الدولية للولايات المتحدة والغرب، أو تراجع دور واشنطن ك”شرطي عالمي” International Police Power وهو التعبير الذي استخدمه الرئيس السابق “ثيودور روزفيلت” بدايات القرن العشرين لوصف مكانة البلاد.
هذا الانحسار في التأثير الأميركي يأتي مدفوعا بصعود قوى أخرى إقليمية ودولية تمثل مصالح أعضائها، وغالبية أولئك في جنوب العالم، على الأقل وفق ما يلحظ السفير السابق.
ستحاول هذه المقال المرور على سياق تلك التغيرات في المنطقة العربية والعالم والإسهام باستيعاب أبعادها.
السعودية والبترودولار
في كانون أول يناير من هذا العام، قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان إن الرياض لا تمانع إنجاز تجارتها الخارجية باستخدام أي عملة دولية بخلاف الدولار.
يمثل هذا الإعلان للرياض أوضح تصريح حتى الآن على عزم البلاد التخلي تدريجيا عن الدولار كعملة رئيسة لتجارة نفطها.
تقع سيادة الدولار كعملة احتياطي دولي في صلب مشروع هيمنة الولايات المتحدة كقوة عظمى. إمكان تراجع، أو ربما انهيار، مكانته كاحتياطي نقدي عالمي لشراء النفط والمبادلات التجارية العابرة للحدود سينعكس حكما على قدرة البلاد لعب دور “الشرطي العالمي” ويتيح المجال لقوى دولية أخرى منافستها أو ربما أخذ مكانها.
لم تتشكل تلك المكانة من فراغ، فالرياض هي أكبر مصدر للنفط الخام في العالم، ثاني أكبر منتج له بعد الولايات المتحدة، وتملك ثاني أكبر احتياطي منه على الكوكب بعد فنزويلا. يضفي هذا الواقع على أي قرار سعودي يروم إحداث أي تغير جذري في ببيع وشراء هذا الخام أهمية دولية لا يضاهيها ربما سوى إعلانات الحرب أو الكوارث الطبيعية.
حكاية العلاقة بين الدولار والبترول ترجع إلى العام ١٩٤٥، حين اتفق الرئيس الأميركي فرانكلين روزفيلت والملك عبد العزيز آل سعود على تقديم المساعدات للمملكة، تحديدا العسكرية، مقابل بيع السعودية نفطها مقوما بالدولار الأميركي. مع مطلع السبعينيات امتد الاتفاق ليشمل دولا أخرى منتجة ولتصبح الورقة الخضراء العملة الدولية لتسعير، بيع وشراء هذا الخام، وهو ما سمي ب”البترودولار”.
لفهم ملابسات تلك العلاقة وتطورها غير المسبوق اليوم، جلست لأتحدث مع استاذ الاقتصاد السياسي ومؤلف كتاب “الامبريالية العظيمة” Super Imperialism مايكل هدسون.
يعتبر هدسون واحدا من أهم المنظرين الاقتصاديين في تطور الإمبريالية الأميركية، يقول إن المفارقة التي واجهها في عمله على امتداد عقود كانت عدم اهتمام اليسار بأعماله، مقابل اهتمام مراكز صناع القرار الأميركي فيها باعتبارها وسيلة لتعديل سياساتهم في الهيمنة وصقلها.
عمل هدسون في بدايات عقد السبعينات كمسؤول عن سياسات النفط للولايات المتحدة في بنك “شيس مانهاتن”، وبحكم عمله حضر الاجتماع الذي عقد في البيت الأبيض في العام ١٩٧٤ لبحث سياسة البلاد تجاه السعودية وبقية البلدان المنتجة والمصدرة للنفط. كان المسؤول عن توجيه تلك السياسة في حينه مؤسس معهد “هدسن” “هيرمان كان”.
خلص الاجتماع وما تلاه من جلسات، وفق هدسون، لنتيجة محورية مفادها إتاحة المجال للدول المنتجة للنفط وأهمها السعودية أن تضع السعر الذي تراه ملائما لهذا المورد، على ان اي فوائض متحققة من بيعه يجب ان تعود للولايات المتحدة على شكل استثمارات.
“لكن الشرط كان ان لا يجري السماح لتلك الدول بالحصول على غالبية الأسهم في أي صناعة أميركية. بوسعهم انفاق المال على سوق البورصة لرفع قيم الأسهم، بوسعهم خسارتها في سوق العقار، كما حصل مع اليابان، لكن ليس بوسعهم استخدام تلك الفوائض للحصول على أي قوة حقيقية على الإطلاق. عدم فعل ذلك كان بمثابة إعلان الحرب.”
بناء على تلك السياسة، يرى هدسون أن بيع النفط السعودي بالعملات الأخرى، تحديدا اليوان الصيني، سيعني ان المال السعودي سيجد طريقه للسوق والاقتصاد الصيني عوض الأميركي وهو ما سيضعف حتما مكانة وقوة الدولار.
يجادل هدسون أن تصاعد النزعة نحو بيع النفط بعملات أخرى غير الدولار سيؤثر حتما على قدرة الولايات المتحدة نشر وتمويل وتحديث قواعدها العسكرية حول العالم. تملك الولايات المتحدة أكثر من ٧٥٠ قاعدة عسكرية حول العالم. منذ الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، يقول هدسون، والعجز المتحقق في الإنفاق الأميركي مصدره موازنة الدفاع الأميركية بشكل أساسي، وفي ظل تحول الولايات المتحدة لدولة غير صناعية، لم يكن أمامها من سبيل لتقليص هذا العجز سوى التحكم بالنظام المالي الدولي، والنفط هنا أحد اهم عناصر هذا التحكم.
بالفعل، منذ عام ٢٠٠٠، أنفقت الولايات المتحدة على حروبها أكثر من ثمانية ترليونات دولار، جاء تمويلها من العجز ولم يأتي من الضرائب أو السندات، على ما تشير ورقة لمركز واتسن للأبحاث التابع لجامعة براون الاميركية.
بالنظر لمحورية النفط في الاقتصاد الصناعي العالمي، حرصت دول العالم على الاحتفاظ بالاحتياطيات الدولارية الكافية لشرائه. وبقدر ما كان تأمين ما يكفي من هذه العملة كاحتياطي في البنوك المركزية لدول العالم، خصوصا النامي، مهما، بقدر ما كان مضرا أيضا.
جعل هذا الارتباط بين الدولار والعملات العربية والنامية اقتصادات الأخيرة عرضة لتقلبات السوق الأميركية وأزماتها الدورية التي تعيشها كل بضعة سنوات، وعانت مجتمعاتها من تكرار موجات التضخم التي يجري تصديرها في الغالب من الاقتصاد الأميركي كلما قرر البنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) رفع أو خفض سعر الفائدة في البلاد.
لكن ما الذي دفع الرياض للتصريح باحتمال بيع النفط لبعض الدول بعملات أخرى؟
سياق ضروري
في الواقع، لا يمكن معاينة التصريحات السعودية دون النظر إلى سياق تراجع علاقة واشنطن بالرياض سياسيا والذي بدأ منذ ٢٠١٤ على الأقل
في الواقع، لا يمكن معاينة التصريحات السعودية دون النظر إلى سياق تراجع علاقة واشنطن بالرياض سياسيا والذي بدأ منذ ٢٠١٤ على الأقل، تاريخ مساعي إدارة الرئيس الاميركي باراك أوباما، الديمقراطية، إبرام اتفاق مع إيران كان قد بدا للسعوديين حينها متجاهلا لما يعتبرونه مصالح حيوية لأمنهم القومي.
“لقد باعونا بالرخص” يقول محلل سعودي مقرب من صناع القرار في المملكة في تصريحات نقلتها عنه جريدة الغارديان البريطانية. حديث المحلل جاء في إطار توضيح درجة الامتعاض من الاتفاق مع الجمهورية الإسلامية.
عربيا وخليجيا، نظر للاتفاق باعتباره ترخيصا لطهران بمد تأثيرها الإقليمي في لبنان، عبر حزب الله، في سوريا من خلال ميليشايتها الداعمة للرئيس بشار الأسد، وفي البحرين أو حتى السعودية نفسها عن طريق الأقليات الشيعية في هذين البلدين.
ساءت علاقة الرياض وواشنطن أكثر مع انتخاب الرئيس السابق دونالد ترمب.
اقتراب الحكم السعودي من رئيس أميركي لا يحظى بالشعبية لدى وسائل الإعلام الليبرالية، مراكز الأبحاث أو المنظمات الحقوقية، تسبب بمزيد من التدهور بين المؤسسة الأميركية establishment ، والمملكة، تجلى بشكل واضح لدى مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في ٢٠١٨.
جاء اغتيال الصحفي المقرب تاريخيا من الحكم السعودي في مناخ سياسي سعودي مختلف كليا عما سبقه.
علاقة واشنطن بالرياض بين التصعيد والتهدئة
قبل مقتل خاشفجي، كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد بدأ فعلا إعادة تعريف بلاده اقتصاديا وسياسيا، بإعلانه تخفيف الاعتماد على النفط كمصدر دخل أساسي، إعادة تنظيم الجهاز البيروقراطي الذي يقول عنه في مقابلاته إنه لم يكن موجودا تقريبا، حصار ما يعتبرها مراكز قوى تريد الإبقاء على الوضع الراهن، وهو ما قاد لما عرف بواقعة “الريتس كارلتون”، والنهوض بالبلاد في مجالات البنية التحتية، الاقتصاد والتعليم مع مزيد من هوامش المناورة على مستوى قراراتها السيادية.
منذ طرحه لنفسه زعيما بتصور مغاير لشؤون بلاده والمنطقة، وبمجرد استهدافه لنافذين في بنية الحكم، حتى دخل بن سلمان حيز الاهتمام الإعلامي الغربي بوصفه “ديكتاتورا” جديدا. بالتزامن، أفردت “واشنطن بوست” عامودا خاصا لخاشقجي، قبل اغتياله، انتقد فيه غياب الديمقراطية في بلاده. كان خاشقجي يفكر بالذهاب بعيدا في الأمر إلى حد تأسيس منظمة “غير ربحية” في العاصمة الأميركية تستهدف تشجيع الديمقراطية الليبرالية في المملكة.
بقدر مأسويته، مثل اغتيال خاشقجي فرصة للمؤسسة السياسية الغربية، وملحقاتها الإعلامية والبحثية والحقوقية، بكبح جماح السعودية في عهد بن سلمان عبر استخدام الحادث لجني المكاسب السياسية. بالتوازي، سعت واشنطن لتسييس ملف ضحايا هجمات مانهاتن عبر التلويح برفع قضايا تعويض ضخمة ضد المملكة جنبا الى جنب مع إشارات صحفية إلى تورط النظام الملكي في الهجمات.
لكن المناكفات الإعلامية بدأت بأخذ طابع جدي اقتصاديا وسياسيا مع دخول الولايات المتحدة في موجة تضخم غير مسبوقة منذ أربعين عاما في ديسمبر من العام ٢٠٢١، قبل حرب أوكرانيا بنحو ثلاثة أشهر.
في تلك الفترة، والت أسعار البنزين في الولايات المتحدة ارتفاعها حتى تجاوزت دولارين ونصف للغالون خلال الجائحة، إلى حدود خمسة دولارات بعد الغزو، ومعها والت أسعار السلع ارتفاعها على مشارف عام انتخابي للكونغرس.
شكل الأمر ضغطا سياسيا كبيرا على إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية التي كانت تقاتل للاحتفاظ بأغلبية في كلا غرفتي الكونغرس، الشيوخ والنواب. كان بايدن قد تعهد بجعل السعودية “تدفع الثمن” جراء مقتل خاشقجي. وصفها خلال السباق لانتخابات الرئاسة ٢٠٢٠ بالدولة “الخارجة على القانون” Pariah، لكنه عاد وتراجع عن أقواله بشكل تدريجي تحت ضغط الاقتصاد وانتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس العام الماضي، داعيا السعودية إلى رفع إنتاجها من النفط أملا في خفض أسعاره عالميا.
السعودية رفضت.
دفع الموقف السعودي بايدن للذهاب شوطا إضافيا في محاولة احتواء الرياض فقرر اتخاذ خطوة تناقض تماما عموم موقفه من السعودية في عهد ولي العهد محمد بن سلمان: زيارة المملكة. في الصيف الماضي التقى بايدن في الرياض ببن سلمان أملا بتغيير موقفه، بعد أشهر من تعهده بعدم فعل ذلك.
بطبيعة الحال، تسببت الزيارة بهجوم حاد على الرئيس الأميركي من قبل المنظمات الحقوقية، الصحافة الليبرالية، ومراكز الأبحاث بالنظر لما يقولون أنه تخليه عن وعوده بمقاطعة ومعاقبة بن سلمان: لماذا تعد مصافحة بايدن لبن سلمان بقبضة اليد كارثة، عنونت سي أن أن الاميركية.
رغم هذه الكلفة السياسية، لم تنجح الزيارة بثني المملكة عن مواصلة سياستها.
بالفعل، لم تكتف السعودية برفض الرغبة الأميركية رفع الإنتاج للهبوط بأسعار النفط، بل خفضت الإنتاج بدل ذلك في الخريف، في أكتوبر تشرين الأول، بواقع مليوني برميل يوميا، في قرار “أوبك بلس” وهي التفرع عن “أوبك” الذي يضم روسيا.
كان أعضاء الكونغرس قد طالبوا بمعاقبة السعوديين عبر سحب القواعد العسكرية الأميركية من هناك ووقف توريد السلاح للمملكة ردا على إصرار الأخيرة رفض رفع إنتاجها من النفط. ينظر المشرعون الاميركيون من الحزبين لسلوك الرياض في ملف النفط باعتباره معاديا تماما لمصالح الأمن القومي لبلادهم.
الرياض وموسكو
من هنا تأخذ تصريحات الرياض المتتالية عن التحرر من العلاقة مع الدولار أهميتها بوصفها جزأ من سياسة واعية يجري المضي فيها قدما منذ سنوات.
بدا موقف المشرعين والساسة الأميركيين إنذارا للسعوديين للتفكير الجدي بعدم الاعتماد على واشنطن، ومن هنا تأخذ تصريحات الرياض المتتالية عن التحرر من العلاقة مع الدولار أهميتها بوصفها فيما يبدو جزأ من سياسة واعية يجري المضي فيها قدما منذ سنوات.
رفع الإنتاج بالنسبة لواشنطن يعني تخفيف الضغط على شركائها الأوروبيين أثناء مواجهتهم لروسيا. يعاني الأوروبيون من ارتفاع كلف الطاقة على نحو لم تشهده القارة لعقود، وفي ظل اعتمادهم على الواردات الروسية من الغاز. هذه الإمدادات انقطعت بعد لحقاهم بالموقف الأميركي من غزو أوكرانيا وانخراطهم في أنظمة العقوبات الأميركية الهادفة لقطع الروس عن الاقتصاد العالمي تقريبا.
بكلمات أخرى، تبدو واشنطن وكأنها تحاول احتواء الارتدادات الجسيمة على اقتصاديات الدول الأوروبية الحليفة لها في معاقبة روسيا عبر دعوة حلفائها العرب للتدخل لإنقاذ الموقف.
تبدو ثقة دول الخليج الرئيسة، الإمارات والسعودية بواشنطن في أقل مستوياتها بعد اتفاق إيران، وهو ما قد يفسر ولو جزئيا بحث الدولتين عن ترتيب إقليمي يضمن أمنهما القومي بمعزل عن الولايات المتحدة. بالنسبة للإمارات أو البحرين، كانت اتفاقات ابراهيم جزءا من الترتيب. أما الرياض فيبدو أنها اختارت التهدئة مع إيران، والانحياز للصين وروسيا.
في الواقع، حين كان الجيش الروسي يشق طريقه داخل الأراضي الأوكرانية في شتاء العام الماضي، كانت الرياض قد ضخت استثمارات قدرت بنصف مليار دولار في شركات “غاز بروم” و”روزنيفت” و”لوكيوم” دون صخب، وفق وصف وكالة رويترز.
يقول بن سلمان في خطاباته إن النفط ينبغي أن يكون عاملا من عوامل عدة لقوة البلاد ويتطلع إلى السياحة، الحج، والصناعات والاستثمار الخارجية باعتبارها جميعا مصادر بديلة أو موازية، على أقل تقدير، للبترول. تتطلب خطته التي أطلق عليها اسم “السعودية: رؤية ٢٠٣٠” انفاقا هائلا على تطوير البنى التحتية، البيئة والتشجير، تطوير التعليم وتنمية الأيدي العاملة لجذب الاستثمار الأجنبي، بقيمة تبلغ نحو تريليون دولار للبنى التحتية والعقار.
الخطة التي بدأت منذ ٢٠١٦ تبدو جادة بالفعل، فالمملكة قامت بالفعل بتشجير مساحات واسعة من البلاد لزيادة معدلات الهطول المطري والتخفيف من التلوث، طورت مشاريع الإسكان للسعوديين، ولغير المقتدرين، اتمتت وحدثت خدمات الحج وخلقت شبكات مواصلات تصل مكة بالمدينة إضافة لتطوير الفضاءات الحضرية، تعظيم استثمارات صندوقها للاستمثارات العامة بين ٢٠٢١-٢٠٢٥ على نحو يشكل مصدرا مهما للدخل غير النفطي في نهاية المدة يصل الى تريليون ومئتي مليار ريال، فضلا عن تطوير النظام التعليمي لموازاة تلك الخطط.
على أن تطور العلاقة السعودية الصينية هو أكثر ما يقلق واشنطن.
الرياض وبيكين
في ربيع العام الماضي، في لقائه بالرئيس الصيني، لمح بن سلمان إلى احتمال بدء تبادل النفط مع بيكين باستخدام اليوان الصيني، وهو ما أثار لغطا واسعا في أوساط المراقبين الأميركيين. الصين، ينبغي أن لا ننسى، تستورد ربع الإنتاج السعودي من النفط.
لاحقا في ديسمبر كانون أول، زار الرئيس الصيني الرياض في خطوة راقبتها مراكز القرار في واشنطن عن كثب.
“ترى الصين في السعودية قوة أساسية ومستقلة في عالم متعدد الأقطاب” قال بيان وزارة الخارجية الصينية الصادر عقب اللقاء، مضيفا بأن بيكين تسعى لتطوير “شراكة استراتيجية” مع الرياض لهذا الغرض.
الرياض تنظر للأمر على ذات النحو. وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح كان فعلا قد صرح لشبكة “سي أن بي سي” الأميركية في حزيران من هذا العام بأن المملكة والصين تعدان جزأ مهما “من عالم متعدد الأقطاب“
“ما يعنيه الأمر في حال حصل هو أن ميزان المدفوعات السعودي، عوائد بيع السعودية للنفط لن تذهب نحو الاقتصاد الأميركي على شكل دولار. السعودية في الواقع تعطي مدخراتها للولايات المتحدة، تضخها في الاقتصاد الأميركي وفي المقابل تستخدم الولايات المتحدة هذه الأموال عسكريا لإحاطة السعودية بالسلاح” يقول “هدسن”
ترى الصين في السعودية قوة أساسية ومستقلة لبناء عالم متعدد الأقطاب.
بالفعل، أفضى لقاء الرئيس الصيني بالملك سلمان وولي عهده الى توقيع “اتفاق شراكة استراتيجي” بين البلدين قدرت قيمته
بثلاثين مليار دولار.
“الولايات المتحدة لن تختفي” علقت الإدارة الأميركية على الجدل الذي طرحته وسائل الإعلام عن دلالة الزيارة بوصفها تقدما للصين وتراجعا لواشنطن في الشرق الأوسط.
أدخلت المملكة بيكين على خط أزمتها مع طهران وقبلت بواسطتها لحل الخلاف مع الجمهورية الإسلامية، في خطوة أدهشت ولا تزال المراقبين في العالم ودللت على تعاظم دور الصين كقوة دبلماسية، وليس فقط اقتصادية، في الشرق الأوسط. أسابيع قليلة عقب الاتفاق، وسيسافر دبلوماسيو المملكة لليمن لتسوية النزاع مع الحوثيين، ثم يعملون على تسوية الخلاف مع بشار الأسد، حليف روسيا المقرب في المنطقة ثم يدافعوا عن إعادة دمشق للجامعة العربية.
تتبع المنطق السياسي للسعودية في عهد بن سلمان يؤشر على رغبة المملكة خلق ترتيب إقليمي متوازي مع تحركاتها السياسية. يقول بن سلمان في خطاباته إن الرياض ليس بوسعها النهوض إن لم تنهض كامل المنطقة معها، وهو فيما يبدو التصور المؤسس لإطفاء الصراعات المحيطة بالسعودية والتفرغ للتحديث.
تصبح تلك الأحداث وصفة متكاملة، ولو نظريا، لانتهاء الدولار كعملة تبادل رئيسية في العالم إذا ما نظر إليها في سياق دولي أوسع يتمثل برغبة، ليس فقط الرياض، ولكن الامارات، إيران، مصر وتركيا (العضو في الناتو) إضافة إلى دول في اميركا اللاتينية الانضمام الى تحالف “بريكس”.
بريكس: نظام عالمي جديد، نظام عالمي ممكن
جرى تأسيس تحالف “بريكس” قبل أكثر من عشرين عاما، في ٢٠٠١، من الدول التي تمثل اختصارا اسمه (البرازيل، الهند، الصين وروسيا) لزيادة التعاون بينها ولإعطائها هوامش مناورة أوسع اقتصاديا واستراتيجيا في مواجهة الولايات المتحدة.
لكن المجموعة لم تأخذ زخمها إلا بإعلان السعودية، الحليف القوي للولايات المتحدة وأحد أعمدة هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي، رغبتها الانضمام، ثم انضمامها بالفعل رفقة الإمارات وإيران ومصر ودول أخرى. ينظر المراقبون الغربيون لهذا التنظيم بوصفه معادلا ومنافسا للمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة.
خطورة مجموعة “بريكس” تتلخص في كونها ليست صيغة للتعاون التجاري فقط، لكنها الأرضية التي من خلالها تسعى الدول الأعضاء لاستصدار عملة موحدة للتجارة البينية، بنك دولي موازي للبنك الدولي الذي يهيمن عليه الغرب، ونظام تحويل مالي موازي لسويفت.
صحيح أن الدولار لا يزال يتمتع بكونه الاحتياطي النقدي المهيمن دوليا، لكن هذه الهيمنة تواصل انحسارها منذ عشرين عاما على الأقل
صحيح أن الدولار لا يزال يتمتع بكونه الاحتياطي النقدي المهيمن دوليا، لكن هذه الهيمنة تواصل انحسارها منذ عشرين عاما على الأقل. منذ الفين وواحد، هبطت حصة الدولار كاحتياط أجنبي من نحو ٧١٪، إلى نحو ٥٩٪ الان.
يقول مراقبون أميركيون إن الصين ليست مؤهلة بعد لتحل محل الدولار، فنصيبها من الاحتياطيات العالمية لا يصل إلى ٣٪. فضلا عن أن الاقتصاد الصيني لا يتجاوز حجمه نصف نظيره الأميركي مع ناتج محلي إجمالي أقل من ١٨ ترليونا بقليل، مقابل نحو ٢٥ تريليونا للولايات المتحدة وفق أرقام البنك الدولي للعام ٢٠٢٢.
على أن ل”هدسن” رؤية اقتصادية مغايرة تماما.
“الناتج المحلي الإجمالي لا علاقة له بالقوة أو أي شيء من هذا القبيل. على امتداد الخمسين عاما الماضية، جرى العمل على تغيير مفهوم الناتج المحلي الإجمالي من قبل جماعات ضغط سياسية. على سبيل المثال، افترض انك مواطن أميركي ولديك دين للشركة المالكة لبطاقتك الائتمانية، كريدت كارد، وتصور أنك عجزت عن الدفع في أحد الأشهر. سيرتفع معدل دينك لتلك البطاقة، وهو بالمناسبة ٥٠٠٠ بالمعدل لكل أميركي، إذن سترتفع الفائدة على دينك من ١٩ بالمئة إلى ٢٩-٣٠ بالمئة. أين يظهر ذلك في حسابات الناتج القومي؟ يظهر باعتباره “توفير خدمات مالية” . كل ذلك يعتبر “مخرجات” (…) كل الإنفاق العسكري يدخل في حساب الناتج القومي، كل الإنفاق الصحي المرتفع يدخل في حسابه أيضا رغم ضعف النظام الصحي”
والحال كذلك، إذا ما أضفنا رغبة دول بحجم السعودية وتركيا وبعض الأقطار في أميركا اللاتينية الانضمام إلى هذا التكتل والمضي قدما بموضوع العملة الموحدة، فمن المتوقع أن تزداد قابلية عملة ما كبيدل للدولار، سواء أكانت تلك العملة اليوان أم غيرها.
ورغم أن الخبراء الأميركيين المقربيين من “وول ستريت” والنظام المالي الأميركي يقللون عادة من خطورة بعض تلك الأحداث على مكانة واشنطن، إلا أن الواقع يشير إلى انزياحات بطيئة وجادة باتجاه مثل هذا التحرر حتى داخل الحلف الأوروبي-الأميركي أيضا، ما يجعل تصور انزياح دول أخرى خارجه، مثل السعودية أو غيرها، تصورا متسقا مع الوقائع الجارية في عالم اليوم.
قبل أيام من كتابة هذا المقال، فاجأ الرئيس الفرنسي إمانيول ماكرون في نيسان\ أبريل الماضي العالم ليس بزيارته للصين فقط، ولكن بالتصريحات التي أعقبت تلك الزيارة.
“على أوروبا أن تقاوم الضغوطات الهادفة لجعلها تابعة للولايات المتحدة” قال ماكرون من بيكين، التي يعتبر البنتاغون في وثيقة استراتيجية الدفاع الوطني الصادرة عنه أواخر العام الماضي إنها تشكل الخطر الأول على الأمن القومي للبلاد.
في لقاء مع مجلة “بولوتيكو” الأميركية استمر ست ساعات وأعقب اجتماعه بالرئيس الصيني، تحدث ماكرون عما أسماه “الاستقلال الاستراتيجي” strategic autonomy لأوروبا في علاقتها بالولايات المتحدة. استقلال يقول إن بوسع باريس قيادته وإنه يهدف جعل القارة “قوة عظمى ثالثة” في العالم بعد بيكن وواشنطن.
لكن أخطر ما صرح به ماكرون على هامش وفي متن زيارته تلك لبيكين، كان إشارته إلى ضرورة وقف الاعتماد الأوروبي على الدولار ووضع حد لهيمنة الأخير العابرة للحدود، “extraterritoriality” حسب تعبيره.
تعيش أوروبا بالفعل أسوء أزماتها الاقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية. تشهد دول القارة ما يشبه الموجة من الاضرابات احتجاجا على تآكل القيمة الشرائية للمعاشات بسبب ارتفاع التضخم لنسب غير مسبوقة منذ ثلاثين عاما. معدل التضخم في دول الاتحاد وصل إلى ٧٪ في نيسان\ أبريل الماضي.
في مجمل القارة، بلغت نسبة الغاء رحلات الطيران بسبب الاضرابات ٦٥٪ في آذار \ مارس الماضي عنها في الشهر السابق لذلك. تلك الارقام مرشحة للارتفاع أكثر، على ما يقدر موقع cirium المتخصص بتحليل معلومات الملاحة الجوية.
في فرنسا، تشهد البلاد حالة عامة من الإحباط وإضرابات متتالية لنقابات التجار على خلفية مقترح الرئيس الفرنسي رفع سن التقاعد، وفي إيطاليا تتواصل إضرابات عمال المطارات، ولا يختلف الأمر في ألمانيا أو هولندا واليونان. دفع الامر وزارة الخارجية الأميركية لدعوة مواطنيها مراجعة إرشاداتها قبل الذهاب للدول التي تشهد إضرابات في مطارتها ووسائل مواصلاتها.
الرغبة في الابتعاد عن الدولار تزداد جاذبية مع تسييس الولايات المتحدة لعملتها في أنظمة العقوبات الاقتصادية التي تفرضها على أي دولة “مخالفة”. وهو تسيس يمكن تصور تشجيعه للرياض وغيرها على التفكير بالبدائل.
ربما لا يزال من المبكر التنبؤ بحجم الانعطاف في علاقات السعودية الخارجية عموما، تحديدا على المستوى الدولي، أو إذا ما كان مثل هذا التغير تيكتيكيا أم ناجما عن رؤية استراتيجية مستدامة. حتى الآن، يقول البيت الأبيض والخارجية إن البلدين لا يزالان على توافق في غالبية الملفات المهمة. في الأثناء، تروج وسائل الإعلام الأميركية، تحديدا أكثرها محافظة وقربا من إسرائيل مثل “وول ستريت جورنال” لقرب الاتفاق بين الرياض وواشنطن على التطبيع بين الأولى وتل أبيب، وهو الأمر الذي لم يصدر ما يؤكده من الجانب السعودي حتى الآن.
ترويج قد يعكس في جوهره رغبة أميركية جادة بإظهار تواصل قدرة واشنطن وعافيتها كطرف فاعل في المنطقة وقادر على فرض صيغ سياسية بعينها وتحقيق اختراق تاريخي، مشابهة لذلك الذي أنجزته بيكين بين الرياض وطهران قبل أشهر.
عماد الرواشدة: صحفي عربي مقيم في واشنطن، يحمل درجة الماجستير في الصحافة من جامعة جورج تاون، وهو مؤسس ورئيس تحرير مجلة “المراسل”.