بقلم: دوغلاس ليتل*، أستاذ التاريخ بجامعة كلارك
ترجمة خاصة لمجلة المراسل. مقتطفات من مقال “الحرب الباردة والعمليات السرية: الولايات المتحدة وسوريا 1945-1958″، مجلة الشرق الأوسط، شتاء 1990. المصدر.
في 12 أغسطس 1957، حاصرت القوات السورية السفارة الأمريكية في دمشق وادّعت السلطات أنها أحبطت مؤامرة من وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) للإطاحة بالرئيس الحيادي شكري القوتلي وتنصيب نظام موالٍ للغرب. وبناءً على ذلك، قام رئيس الاستخبارات السورية، عبد الحميد السراج، بطرد ثلاثة دبلوماسيين أمريكيين، واعتقل العشرات من الضباط، واقتربت سوريا أكثر من موسكو. وبحلول نهاية الشهر، كانت الولايات المتحدة، إلى جانب تركيا والعراق، تدرس اتخاذ إجراء قد يؤدي إلى مواجهة شاملة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
جاءت هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة لتتوج ما يقرب من عقد من التدخلات الأمريكية السرية في الشأن السوري. فمنذ عام 1949، أصبحت هذه الجمهورية العربية المستقلة حديثًا مسرحًا لتجارب وكالة الاستخبارات المركزية الأولى في مجال العمليات السرية.
فقد دعمت الوكالة سرًّا انقلابًا عسكريًا يمينيًا في عام 1949، وكانت تدخلاتها المتكررة خلال العقد اللاحق سببًا في تأجيج المشاعر المعادية للولايات المتحدة بين العرب، ودفع اليسار السوري نحو الكرملين، وزيادة احتمال التدخل العسكري العلني.
في أواخر عام 1945، أعلنت شركة النفط العربية الأمريكية (أرامكو) عن أفكار لبناء خط أنابيب عبر الجزيرة العربية (تابلاين) من السعودية إلى البحر المتوسط. وبدعم أمريكي، حصلت أرامكو على حقوق المرور من لبنان والأردن والسعودية، إلا أن حق المرور السوري تعطّل في البرلمان. وأدت المظاهرات العنيفة المعادية لأمريكا وإسرائيل في نوفمبر 1948 إلى استقالة رئيس الوزراء جميل مردم، ليخلفه خالد العظم. وفي خضم هذه الأزمة، بدأ ضابط في وكالة الاستخبارات يُدعى ستيفن ميد بالاتصال بضباط يمينيين في الجيش السوري.
وتؤكد الوثائق التي رُفعت عنها السرية أن ميد التقى سرًّا، بدءًا من نوفمبر 1948، برئيس أركان الجيش السوري، العقيد حسني الزعيم، ما لا يقل عن ست مرات لمناقشة “إمكانية إقامة دكتاتورية مدعومة من الجيش”. وكان المسؤولون الأمريكيون يدركون أن الزعيم “ينتمي إلى نمط الدكتاتوريات في جمهوريات الموز” مع “موقف قوي معادٍ للسوفييت”.
وفي أوائل عام 1949، أكمل ميد والزعيم خطط الانقلاب. وفي 14 مارس، طلب الزعيم من عملاء أمريكيين “إثارة اضطرابات داخلية ضرورية للانقلاب” أو تزويده بأموال أمريكية لهذا الغرض. وبعد تسعة أيام، وعد الزعيم بـ”مفاجأة خلال أيام” إذا حصل على الدعم الأمريكي. ومع تصاعد شائعات الانقلاب العسكري، وصل مساعد وزير الخارجية جورج ماكغي إلى دمشق، بحجة بحث إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين، ولكن يُحتمل أن يكون الهدف الحقيقي هو منح الضوء الأخضر للدعم الأمريكي للزعيم.
وبعد ذلك بوقت قصير، خرج الطلاب إلى الشوارع احتجاجًا على الفساد الحكومي وسوء إدارة الحرب مع إسرائيل. وفي 30 مارس، نفّذ الزعيم انقلابه، واعتقل القوتلي، وعلّق العمل بالدستور. وفي 15 أبريل، أفاد ميد بأن “أكثر من 400 شيوعي في جميع أنحاء سوريا قد تم اعتقالهم”.
وقد فاقت أفعال الزعيم توقّعات واشنطن؛ ففي 28 أبريل أبلغ السفير الأمريكي أن سوريا ستستأنف محادثات السلام مع إسرائيل، وأنه يفكر في إعادة توطين 250,000 لاجئ فلسطيني في سوريا. وفي 16 مايو، وافق على تمرير مشروع تابلاين. وبعد أسبوعين، حظر الحزب الشيوعي واعتقل العشرات من المعارضين اليساريين. وفي يوليو، وقّع هدنة سورية-إسرائيلية. وتوقّع الزعيم بسرعة الحصول على موافقة أمريكية على 100 مليون دولار كمساعدات عسكرية واقتصادية، لكنه أُطيح به وأُعدم على يد العقيد سامي الحناوي في 14 أغسطس.
وسرعان ما عادت التوترات التي كانت تعرقل العلاقات السورية-الأمريكية. فقد أسفرت انتخابات نوفمبر عن فوز حزب الشعب بزعامة الحناوي، الذي أعلن خططًا للوحدة مع المملكة العراقية الهاشمية. وفي 19 ديسمبر 1949، أطاح العقيد أديب الشيشكلي بالحناوي، في ثالث انقلاب تشهده سوريا خلال تسعة أشهر، وتبع ذلك سبع حكومات مدنية خلال 23 شهرًا.
مرة أخرى، دعمت الولايات المتحدة حلاً عسكريًا سريعًا، هذه المرة عبر الشيشكلي، الذي سعى في مارس 1950 للحصول على “مساعدات عسكرية لتحديث الجيش والحفاظ على النظام”. وكان يُنظر إليه على أنه من “أقوى العناصر المعادية للشيوعية في البلاد”، وبدأت واشنطن تُلمح إلى احتمال تسليم أسلحة أمريكية إلى سوريا.
وبحلول يوليو، أكدت واشنطن أن “الشيشكلي يبدي ميولًا ودّية”، وطرح أحد معاونيه على الملحق العسكري الأمريكي سؤالًا مباشرًا: “ما الذي تريدون منا فعله؟” وفي 23 نوفمبر 1951، أجرى الشيشكلي “نقاشًا وديًا استمر ساعتين” مع مايلز كوبلاند من وكالة المخابرات المركزية ومسؤولين آخرين بالسفارة الأمريكية. وعندما أعلن معروف الدواليبي، الذي كان يُعتبر مواليًا للسوفييت، تشكيل الحكومة الثامنة في غضون عامين، حلّ الشيشكلي البرلمان وأقام ديكتاتورية عسكرية.
وكان المسؤولون الأمريكيون على علم مسبق بخطط الشيشكلي ورحبوا بانقلابه. وفي 30 نوفمبر، أرسل القائم بالأعمال هارلان كلارك برقية إلى واشنطن قال فيها: “إذا كانت الولايات المتحدة تريد الاستفادة من الوضع الجديد، فإن من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن نُظهر للشيشكلي كيف ومتى يمكننا مساعدته”. وحصلت وزارة الخارجية بسرعة على موافقة البنتاغون “لأسباب سياسية” لتسليم كمية محدودة من المعدات العسكرية لسوريا. وسرعان ما بدأت سوريا مفاوضات دفاع مشترك مع تركيا، وجُدّدت اتفاقية تابلاين. وأبدى الشيشكلي استعداده للنظر في معاهدة سلام مع إسرائيل وإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين مقابل دعم مالي وعسكري أمريكي كبير. وفي عام 1952، ضغطت إدارة ترومان على البنك الدولي لتسريع الموافقة على قرض لسوريا بقيمة 200 مليون دولار.
لكن قبل التوصل إلى اتفاق حول حزمة التسليح، أُطيح بالشيشكلي في انقلاب عسكري في 25 فبراير 1954. واعتبر الحزب الشيوعي – الذي تراجعت عضويته واضطهد قادته – أن الانقلاب يمثل خطوة نحو تشكيل جبهة وطنية مع حزب البعث وقوى أخرى معارضة للنفوذ الغربي.
وفي الانتخابات التي جرت في 24 سبتمبر، فازت أحزاب البعث واليسار، وانتُخب خالد بكداش كأول نائب شيوعي حرّ الانتخاب في العالم العربي. واعتبر مدير المخابرات المركزية الأميركية ألين دالاس، أن “الوضع في سوريا هو الأسوأ بين دول المنطقة”.
وبمباركة واشنطن، أعلنت بريطانيا والعراق في يناير 1955 عن “حلف بغداد”، وهو تحالف دفاعي إقليمي على غرار الناتو. وتصدّت له جبهة تقدمية بقيادة العقيد عدنان المالكي، الذي دعا إلى عدم الانحياز، وعمل مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر على تقويض رئيس الوزراء العراقي الموالي للغرب.
وفي 22 أبريل، اغتيل المالكي على يد مسلح من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو حزب يميني دعم الشيشكلي وكان يُشاع أن له صلات بـ CIA. وكانت “عملية ستراغل” تهدف إلى إسقاط القادة المعادين للغرب في دمشق، لكنها اختلفت عن محاولتي زعيم والشيشكلي من حيث التعاون الأمريكي-البريطاني. وفي يناير، اقترح السفير الأمريكي جيمس موس “النظر في وسائل أخرى” مثل انقلاب مضاد للشيوعية بقيادة الحزب السوري القومي. وفي مارس، سافر ألين دالاس ورئيس عمليات الـ CIA في الشرق الأوسط كيرميت روزفلت إلى لندن لوضع تفاصيل الانقلاب مع جهاز الاستخبارات البريطاني (SIS). وتضمّنت الخطة الأصلية افتعال حوادث حدودية من قبل تركيا، وتحريض القبائل البدوية من قبل البريطانيين، وتحريك ميليشيات الحزب القومي من قبل الأمريكيين، ما يؤدي إلى انقلاب مؤيد للغرب تنفّذه “عناصر سورية مناهضة للشيوعية” تدعمها القوات العراقية إذا لزم الأمر.
لكن استيلاء عبد الناصر على قناة السويس في 26 يوليو 1956، عطّل هذه الخطة الاميركية البريطانية لعملية “ستراغل”
لندن اعتمدت عملية “ستراجل” لخططها السرية للغاية للتدخل في مصر. كان البريطانيون، كما اشتكى فوستر دالاس في 18 أكتوبر، “يتعمدون إخفاء المعلومات عنا”. مضت واشنطن قدماً في خططها للانقلاب وقدمت 150,000 دولار للمنفذين. في اللحظة الأخيرة، أقنعت الاستخبارات البريطانية وكالة الاستخبارات المركزية بتأجيل عملية “ستراغل” Straggle لمدة أربعة أيام، بحيث تتزامن، دون علم الأمريكيين، مع الغزو الإسرائيلي المدعوم من بريطانيا لسيناء.
فوجئ كل من الوزير دالاس والرئيس أيزنهاور مرتين: أولاً بهجوم إسرائيل الخاطف على مصر، ثم بورود أنباء تفيد بأن الاستخبارات السورية المضادة كشفت عملية “ستراغل”. في 30 أكتوبر، اتفق فوستر وألين دالاس على أن “المضي قدماً سيكون خطأ”.
في اجتماع غير مسبوق عُقد في يوم رأس السنة الجديدة مع قادة تشريعيين بارزين، طلب أيزنهاور تفويضاً من الكونغرس باستخدام القوات الأمريكية لمواجهة التخريب السوفييتي في الشرق الأوسط. وقد “استشهد بالتطورات السورية كدليل على النوايا الروسية”. وافق مجلس النواب بأغلبية 355 صوتاً مقابل 61 في 30 يناير 1957، ودخل “مبدأ أيزنهاور” حيز التنفيذ.
في أغسطس، يبدو أن واشنطن أعطت الضوء الأخضر لعملية “وابن” Wappen الاسم الرمزي للعملية الأمريكية السرية الجديدة ضد سوريا. كان هاوارد ستون، خبير العمليات السياسية في المخابرات الأميركية وله خبرة في إيران والسودان، يخطط لانقلاب مع معارضين داخل الجيش السوري منذ ثلاثة أشهر. في الوقت نفسه، طمأن أديب الشيشكلي كيرميت روزفلت بأنه مستعد لاستعادة السلطة في سوريا.
وفقاً لتشارلز يوست، السفير الأمريكي السابق في سوريا، كانت عملية “وابن” “مؤامرة غير متقنة بشكل خاص من قبل الـCIA”، و”قد اخترقتها المخابرات السورية”. ويؤكد باتريك سيل في كتابه الصراع من أجل سوريا ذلك قائلاً: “نصف دزينة من الضباط السوريين الذين تم الاتصال بهم من قبل مسؤولين أمريكيين أبلغوا السلطات فوراً، ما أدى إلى فشل المؤامرة منذ بدايتها”.
رد رئيس الاستخبارات المضادة السورية، عبد الحميد السراج، بسرعة في 12 أغسطس، فقام بطرد ستون وعملاء CIA الآخرين، واعتقل المتعاونين معهم، ووضع السفارة الأمريكية تحت المراقبة. استغل العقيد اليساري بزهري هذه الفضيحة كذريعة للاستيلاء على قيادة الجيش من خصومه المعتدلين.
شجعت الولايات المتحدة كلاً من تركيا والعراق على حشد قواتهما على الحدود السورية؛ وذكرت أنه “إذا أدى العدوان السوري إلى رد عسكري”، فإن واشنطن “ستسرّع من شحنات الأسلحة إلى الشرق الأوسط وستعوض الخسائر بأسرع ما يمكن”. كما “تم إصدار أوامر للأسطول السادس بالتوجه مرة أخرى إلى شرق البحر الأبيض المتوسط”، وأُرسلت طائرات أمريكية إلى قاعدة تابعة لحلف الناتو في تركيا، وتم وضع “قوات الاستعداد”، لا سيما القيادة الجوية الاستراتيجية، في حالة تأهب.
للمرة الثانية خلال عام واحد، كادت عملية فاشلة للـCIA في سوريا أن تشعل مواجهة بين القوى العظمى.
تدريجياً، بدأ أيزنهاور يبتعد عن هذا المخطط الاستفزازي، لكن الأتراك رفضوا سحب الخمسين ألف جندي الذين حشدوهم على الحدود السورية.
وفي 15 يوليو، عندما نزل عشرة آلاف من مشاة البحرية الأمريكية على شواطئ بيروت، كان أيزنهاور يتأمل في مشكلات الولايات المتحدة في العالم العربي. وقال: “المشكلة هي أن هناك حملة كراهية ضدنا، ليست من قبل الحكومات، بل من قبل الشعوب”.
*البروفيسور دوغلاس ليتل متخصص في تدريس التاريخ الدبلوماسي الأمريكي، ومحاضر في العلاقات الأميركية مع الشرق الأوسط، وله مؤلف بعنوان الاستشراق: الولايات المتحدة والشرق الأوسط منذ عام 1945.