استقلال العرب: الصراع على الذكرى وحولها.

واشنطن- عماد الرواشدة


يبدو التوقف عند ذكرى الاستقلال وتدبرها ومراجعتها مهمة أكثر تعقيدا مما ينبغي في المنطقة العربية؛ مثيرة للتحفظ، على الأقل، لدى بعض المجتمعات، مستنكرة لدى أخرى. الأردن الذي احتفل يوم الخامس والعشرين من أيار بالذكرى، يعد مثالا قريبا. فيه باتت محاولة التعامل مع الاستقلال كمناسبة  للمراجعة والتدبر مشبوهة عند قطاع واسع من طبقة سياسية تعتبرها، أي تلك المراجعة، مدفوعة بأجندة خارجية بالضرورة، وكراهية مضمرة للمملكة. وفي عيون ساسة وكتاب ومواطنين، تمثل “استهدافا” للبلاد، يستدعي الالتفاف حول السياسة العامة كرد فعل. وعلى الجانب الآخر، يذهب معارضون نحو نفي الاستقلال عن البلاد عموما باعتبارها تحت الاحتلال رمزيا، داعين ل”استقلال حقيقي” دون تقديم تصور عملي لترجمة ذلك، فيصفهم مخالفوهم بالعدمية السياسية.  

 على أن الخلافات حول مفهوم الاستقلال ليست محصورة بالأردن، ولكنها عامة في المنطقة وإن بدرجات متباينة. 

في ٢٠٢٤، سخر مغردون سوريون من احتفال السلطات بعيد الجلاء في ظل هشاشة سيادة البلاد المقسمة في حينه بين نفوذ عسكري لواشنطن، طهران، وموسكو. في العراق، حيث اعتبر تاريخ الإنضمام لعصبة الأمم عام ١٩٣٢ إعلانا ضمنيا للاستقلال عن الهيمنة البريطانية، يثير تاريخ الاحتفال نفسه نقد وسخرية ساسة ومراقبين يرون النفوذ الأجنبي متواصلا بأشكال أخرى أميركية، إيرانية وتركية تجعل من الاستقلال ذكرى بلا معنى جوهري. حتى في الجزائر، التي أسست لاستقلالها بمقاومة كلفت البلاد مئات آلاف الشهداء، دعا نشطاء وحقوقيون في ٢٠١٩ للخروج في مظاهرات “حاشدة” للتأسيس لما وصفوه ب”استقلال حقيقي” يضمن بناء دولة الحرية والعدالة والكرامة. 

 وكما هو الحال في الأردن، تَتْبَع ردود الأفعال العربية نمطين مشتركين بينها جميعا. الأول رسمي، ويعتمد على هندسة التعامل الشعبي مع الذكرى وحصره بالتغني بالمنجزات. والثاني تطرحه المعارضات العربية، يسخف وينفي الحدث من أساسه، باعتبار المنطقة ككل ما تزال تحت الاحتلال. 

المفارقة أن كلا المنطقيين تبسيطيان، يصلان بالمراقب إلى ذات النتيجة. فالخطاب الرسمي التحشيدي الذي يشيطن النقد والمراجعة لذكرى الاستقلال، يكرس الأمر الواقع ويعيق المراجعة الضرورية للتقدم. فيما يوفر طرح المعارضات العربية بالمثل، مبررا نفسيا ومنطقيا لقبول شروط ذلك الواقع على نحو ما؛ فلئن كانت البلدان العربية “تحت الاحتلال”، كما يقول، إذن ما جدوى مهمات الإصلاح وكيف يمكن إنجاز التنمية، إلا اللهم إن دخلت تلك المجتمعات في صدام ضد نظمها، قد ينتهي بها للتفكك والفوضى كما حصل في أكثر من بلد عربي في المشرق والمغرب.

لكن الجدل حول الاستقلال “الحقيقي” (وفق  تعبير جماعات المعارضة والسلطات على السواء) وبخلاف الانطباع السائد، ليس قضية محصورة بالمنطقة العربية في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ولكنه مسألة حاضرة في النقاش الداخلي لبعض أكثر الدول تقدما في شمال العالم أيضا. والحال كذلك، تصبح مراجعة المفهوم ومحاولة تبين حدوده وإمكانياته مسألة جديرة بالتأمل، وهو ما ستسعى له هذه المقالة.

ما هو الاستقلال على أي حال؟

 يعتمد تعريف الاستقلال على واحد من بعدين أو كليهما؛ تقني/ قانوني وسياسي. لدى استقلال دول المشرق أواسط القرن الماضي تقريبا، عنى ذلك تقنيا/ قانونيا انتهاء أنظمة الوصاية، الحماية والانتداب البريطاني والفرنسي، واكتساب الدولة المعنية شخصية قانونية كاملة تتيح لها ليس فقط التمتع أحيانا بعضوية كاملة في الأمم المتحدة أو عصبة الأمم قبل ذلك، ولكن تخلصها من سلطة المعتمد البريطاني أو الفرنسي. إنهاء تدخله (المباشر) في تشكيل الحكومات وتقرير السياسة الداخلية والخارجية. 

لكن استقلال العرب، على الأقل في المشرق، لم يمنع يوما من خضوع دولهم للتأثيرات المتباينة للقوى الغربية: بريطانيا وفرنسا وأميركا. اليوم، بعد مرور ثلاثة أرباع القرن على استقلالها، يعد التواجد العسكري الأجنبي في تلك الدول مشابها، إن لم يزد، عن الوجود العسكري البريطاني خلال حقبة الاستعمار الكلاسيكي. 

تماما كما شهدت تلك المرحلة هيمنة شبه حصرية لسلاح البحرية الملكي البريطاني على المضائق والممرات المائية المهمة في الخليج والبحر الأحمر، بزعم حماية حركة الملاحة، يجوب سلاح البحرية الأميركي اليوم مياه الخليج والأحمر تحت نفس الذريعة. تتكدس القوات الأميركية وتتموضع موجوداتها الحربية والاستخبارية في قواعد ومنشآت عسكرية على امتداد المنطقة.  

يتواجد  نحو ٣٠ ألف جندي أميركي اليوم في عموم دول الشرق الأوسط وفق أرقام البنتاغون للعام ٢٠٢٣، تأويهم ١٩ قاعدة عسكرية بينها ثمانٍ دائمة وتشمل السعودية وقطر والبحرين والأردن ومصر وسوريا الكويت والإمارات، حسب مجلس العلاقات الخارجية. قد تكون هذه الأرقام متحفظة؛ فالإعلام الغربي يتحدث عن ٤٠ ألف جندي وأكثر من ٦٠ منشأة عسكرية أميركية، وهو ما قد يكون أقرب للواقع بالنظر لما عرف عن البنتاغون من ضعف في الشفافية حين يتعلق الأمر بمثل هذه البيانات. 

أما بريطانيا، المستعمر السابق الذي يفترض أنه غادر المنطقة مع تدشين استقلالها، فلديها هي الأخرى أكثر من ٢٠ “منشأة” عسكرية في المنطقة تتوزع غالبيتها الساحقة بين الخليج وقبرص وتستخدم أكثر من ٤٠ موقعا عسكريا آخر. 

وبالاضافة لهذا التواجد العسكري، أو بسببه، تنفرد القوى الغربية بتأثير على القرار السياسي الداخلي والخارجي لدول المشرق، وإن بدرجات متباينة. من اتفاقيات التجارة التي تقيد الصادرات وتفتح الباب للواردات سعيا لتكريس الاعتمادية، إلى التحكم بسعر الصرف أمام الدولار لضمان استيراد البضائع الاميركية، أو مساومة تلك الدول على تحالفاتها وخياراتها في السياسة الخارجية خصوصا إذا ما تعلق الأمر بالصين وروسيا، وقبل ذلك بالاتحاد السوفيتي.

هل يعني هذا الواقع أن الاستقلال بات ناجزا كما يقول خطاب السلطات؟ أم أنه ينفي عن تلك الدول استقلالها، كما يصور الحال خطاب المعارضات العربية؟


يبدو الاستنتاجان مجانبَيْن للدقة.

 الهوة بين الاستقلال القانوني/ التقني والاستقلال السياسي لا تنحصر في المجتمعات العربية، بل تشمل المتقدمة أيضا. يمكن القول إن الولايات المتحدة بمجرد أن أسست لمشروعها الإمبراطوري بعد الحرب العالمية الثانية وأعادت إنتاجه وتصليبه بعد انهيار الكتلة الشيوعية، لم تترك هامشا كبيرا للحركة والاستقلال لغالبية دول العالم بما فيها أعضاء مجموعة السبع الصناعية الكبرى؛ المجموعة التي يراها العالم كناد لدول “مستقلة تماما” في علاقاتها ببعضها البعض. 

لنأخذ ألمانيا مثالا.

رغم اعتبارها، في المخيال العام على الأقل، دولة مستقلة كاملة السيادة بل وسيدة في أوروبا والعالم، إلا أنها “تستضيف” على أراضيها ٤٠-٥٠ قاعدة عسكرية اميركية تؤوي خمسين ألف جندي ومتعاقد أميركي. بعض تلك القواعد، تقول دوتش فيلا الألمانية، كانت تستخدم لقصف اليمن. إضافة لكل ذلك، تغطي ألمانيا الجزء الأكبر من نفقات هذه القواعد. 

وليست ألمانيا فقط. اليابان، رائدة التقنية في آسيا وأحد أهم أعضاء مجموعة السبع الصناعية الكبرى، ومجموعة العشرين والحليف “الاستًراتيجي” لواشنطن، هي الأخرى “تستضيف” على أراضيها أكثر من ضعف هذا العدد، ١٢٠ منشأة تؤوي ٦٠ ألف موظف أميركي و٣٠ ألف فرد من أسرهم، ما جعلها أكبر مقر للقوات الأمريكية خارج الولايات المتحدة.

 بل إن بريطانيا، الامبراطورية التي انتصرت منهكة في الحرب العالمية الثانية قبل أن تتفكك، “تستضيف” آلاف رجال الجيش والمخابرات الأميركية ممن اعطتهم حرية الوصول ل١١ موقعا تابعا لسلاح الجو الملكي. 

لن تعد تلك الأرقام مستغربة حين ندرك أن للولايات المتحدة أكثر من ٧٠٠ قاعدة عسكرية موزعة تقريبا على معظم أنحاء العالم، وفق معهد كوينسي للسياسات، وهو مركز أبحاث أميركي مستقل. تتوزع هذه القواعد على ٨٠ دولة من أصل ١٩٣ دولة عضو في الأمم المتحدة.

 بكلمات أخرى، لئن كان الوجود العسكري الأميركي على أراضي دولة ما سببا لنفي استقلالها، كما يجادل خطاب المعارضات العربية، فنحن إذن أمام ٨٠ بلدا محتلا في العالم. بل إن الأمر قد يبدو أسوأ قليلا إن كان المعيار هو الوجود العسكري الأميركي وليس القواعد. الولايات المتحدة لديها نحو ١٧٠ ألف جندي موزعين على١٧٠ دولة من أصل ١٩٣ دولة عضو في الأمم المتحدة. أي أن العالم بأكمله تقريبا، وفق منطق المعارضة، يرزح تحت الاحتلال الأميركي.  

لكن الأمر لا ينحصر بالوجود العسكري لدول متقدمة على أرض دولة متقدمة أخرى – دع عنك النامية- بل يشمل تأثيرا سياسيا يرقى لحد تقييد سيادة تلك البلدان. قد تبدو تلك الحقيقة مفاجئة للمراقبين من خارج العالم الغربي ممن درجوا على اعتبار تلك الدول نماذج تحتذى في الاستقلال والسيادة. 


بالعودة لألمانيا.

تطلعنا ورقة لمعهد إدماج الأسواق والسياسات الاقتصادية، وهو معهد ألماني غير حكومي، على بعض الأرقام الملفتة فعلا. ٥٠٪؜ من إجمالي الاستثمار الأجنبي في ألمانيا مثلا كان أميركيا في العشرية الاخيرة. ٦٠% من كبريات شركات مؤشر داكس الألماني، أي أكبر ٤٠ شركة، كانت أيضا اميركية. ٧٢٪؜ من الأسهم والسندات لدى البنك المركزي الألماني مقومة بالدولار. ٤٣٪؜ من الواردات  و٢٦٪؜ من الصادرات تتجه من وإلى الولايات المتحدة. بل إن ٤٠٪؜ من الذهب الألماني مخزن في الولايات المتحدة، و٥٠٪؜ من احتياطيات الذهب للبنك المركزي الألماني موجودة في أميركا. 

في قطاع التقنية، تعتمد ألمانيا بشكل شبه كامل على الخدمات التي تقدمها الشركات الأميركية في مجال تخزين البيانات السحابية (cloud) مثل مايكروسوفت، أو IBM، وهو ما يجعل بيانات المستخدمين تواجه خطر الاعتراض من أجهزة الأمن الأميركية. حتى لو أرادت ألمانيا استخدام خوادم سحابية محلية الصنع للتخزين، فسيكون لواشنطن، تحديدا لوكالة الأمن القومي، الجهة الموازية لوكالة المخابرات المركزية، الحق بالوصول للبيانات على تلك الخوادم وفق اتفاقات ثنائية وقعت مع دول الاتحاد الأوروبي تسمى اختصارا MLATS. أكثر من ذلك، كانت وكالة الأمن القومي تنفذ برامج للتجسس على رموز الطبقة السياسية الألمانية بشكل روتيني، بما في ذلك المستشارة أنجيلا ميركل، وفق ما كشفه المتعاقد الأميركي مع وزارة الدفاع إدوارد سنودن في ٢٠٠٨.

  ثقافيا، فقط ربع ما يعرض من أفلام في دور السينما الألمانية أميركي، لكن تسعة من أعلى عشرة افلام إيرادا أميركية وليست ألمانية. أبرز تلفزيونات القطاع الخاص تملكهما مجموعتان إعلاميتان تواظبان على الترويج للعلاقة مع الولايات المتحدة واتفاقيات عبر الأطلسي “ترانس أتلانتيك” وبث المحتوى الثقافي الأميركي كدوريات كرة القدم الأميركية والمسلسلات الأميركية. بين أعوام ١٩٨٦-٢٠٢١ ارتفعت الكلمات الانجليزية الداخلة على الألمانية من ٣.٥ الى ١٠٪؜. 

كل ذلك دون الحديث عن تحمل الألمان القسم الأكبر أوروبيا من فاتورة الحرب الاوكرانية، نحو ٧٠ مليار دولار، رغم أنهم الأكثر تضررا من تلك الحرب. وبسبب الاندفاع وراء الصراع الأميركي بالوكالة مع الروس، انقطعت واردات الغاز الروسي عن ألمانيا مع أنها كانت تغطي نحو ٤٠٪؜ من  احتياجاتها، وجرى تدمير خط الشمال “نورد ستريم” الذي يغذيهم بالغاز الروسي، في عملية يقول الصحفي الأميركي سيمور هيرش إن المخابرات الاميركية تقف وراءها لإضعاف الروس وقطع الاعتماد الألماني على موسكو.

رغم ذلك يصعب القول أن ألمانيا تعاني احتلالا أمريكيا، لكن سيادتها الثقافية والاقتصادية والعسكرية تعاني قيودا واضحة وفق ما ترى ورقة المعهد، على الأقل. 

 اليابان، تصلح كمثال آخر على أن أزمة ما يسمى بـ “الاستقلال الحقيقي” تتخطى المنطقة العربية وتجدر قراءتها في سياق دولي.

تعيش اليابان التي تحتل موقع خامس أقوى اقتصاد في العالم واقعا تتحدد فيه سيادتها على القرار الخارجي والداخلي تبعا لما تراه واشنطن بالاعتماد على اتفاقية الأمن المشترك التي وقعها البلدان بعد انتهاء الاحتلال الأميركي ١٩٤٥-١٩٥٢. كان رئيس الوزراء الياباني الأكثر إثارة للجدل شينزو آبي قد سعى لتغيير هذا الواقع طوال سنوات حكمه الثماني (٢٠١٢-٢٠٢٠). رأى آبي أن على بلاده مراجعة دستورها الذي صاغته قوات الاحتلال الأميركي عام ١٩٤٧، لإنتاج “دستور ياباني حقيقي” يعيد للبلاد استقلالها في مواجهة خصومها في آسيا، وتحديدا الصين وكوريا الجنوبية. ” sengo regime kara no dakkyaku” كانت عبارته الأكثر شهرة وتعني “الإفلات من أصفاد نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية”. لكن آبي ترك السلطة دون أن يتسنى له تحقيق حلمه، ولاحقا استيقظ العالم على نبأ اغتياله في تموز يوليو ٢٠٢٢.

الحقيقة أن ما بات يعرف ب”المعجزة اليابانية” أي النقلة الاقتصادية الهائلة التي حققتها البلاد بالقفز من حضيض الحرب العالمية وركامها إلى مصاف الدول المتقدمة، تلك الوثبة ما كانت لتتحقق لولا الاستقرار السياسي شبه المطلق الذي أسست له واشنطن. جرى ذلك عبر الدعم المالي والسياسي السري الذي قدمته وكالة المخابرات المركزية للحزب الديمقراطي الليبرالي LDP الذي هيمن على السياسة والتخطيط الاقتصادي للبلاد حتى يومنا، وهي القصة التي كتبت حولها نيويورك تايمز تقريرا مفصلا في بداية التسعينيات. 

وحين بدأت واشنطن تنزعج من تحول اليابان لأكبر مصدر للبضائع التقنية وغيرها في العالم بداية الثمانينيات، وفي محاكاة ملفتة لما تفعله اليوم مع الصين، اتهم الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر طوكيو ب “التلاعب” بسعر صرف الين مقابل الدولار والتسبب بعجز تجاري للولايات المتحدة، وهو ما سمي ب”التعويم القذر” Dirty Floating. على خلفية هذا الاتهام، أجبرت طوكيو على رفع قيمة عملتها أمام الدولار الذي كان يواجه واحدة من أخطر أزماته. أي أن اليابان كانت لاعبا أساسيا في إعادة تأهيل الهيمنة الأميركية بعد أن واجهت الأخيرة منعطفا خطرا في تلك الحقبة. 


الاستقلال بين رأيين حديين

يمكن القول أن وصف “الاستقلال السياسي الكامل أو الحقيقي” ينطبق اليوم على ثلاث قوى كبرى في العالم دون سواها: الولايات المتحدة، روسيا والصين. أما سائر المجتمعات، وبالنظر لحجمها ومواردها وتاريخ تطورها ونشأتها وتركيبة نظامها السياسي، فتدور في أحد الأفلاك الثلاثة السالفة بدرجات مختلفة من القرب والبعد عن مراكز الجذب، وبالقدر الذي تتيحه حصافة تلك الدول السياسية ومهارتها في إدارة علاقاتها الدولية. هذا ما حاوله شينزو آبي في اليابان، لكنه أيضا ما يبدو أن دولا عربية كثيرة تحاوله.

أمثلة ذلك كثيرة، منها شروع السعودية بتوقيع اتفاق “شراكة استراتيجية” مع الصين في ٢٠٢٢ رغم تحالف الرياض التاريخي مع واشنطن ورغم ما بين الأخيرة وبيكين من حرب باردة اقتصادية أمنية باتت شبه معلنة أخر خمس سنوات. هذا فضلا عن تطوير الرياض لعلاقات صداقة تبدو متينة مع موسكو، التي تناصبها واشنطن العداء، وصلت بالسعودية لتكون مقر انعقاد المفاوضات الأميركية الروسية حول أوكرانيا. أضف لذلك رفض المملكة الانصياع لرغبات واشنطن برفع إنتاج النفط خلال الحرب الاوكرانية ٢٠٢٢ لخفض الأسعار على دول الناتو. 

الأردن، المحسوب تاريخيا على المعسكر الغربي، هو الآخر رفض الاستجابة للضغط الأميركي للقبول بصفقة القرن التي حاولت إدارة ترمب فرضها في ٢٠١٨-١٩، ولم ينجر لرغبة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتهجير سكان قطاع غزة وتوطينهم عنده وفي مصر رغم أنه أحد أكبر متلقي المساعدات من واشنطن وأحد أهم شركائها أمنيا. وفي قطر، تستضيف الأمارة حركة حماس وتتبنى وسائل إعلامها خطابا معارضا للغرب رغم أنها تؤوي أحد أكبر القواعد الأميركية على أرضها. تعارض تركيا سياسات واشنطن رغم كونها عضوا في الناتو، ولا تتوافق مع الولايات المتحدة في ملفات كثيرة سواء في الشرق الأوسط أو فيما يخص العلاقة مع روسيا. آخر تجليات ذلك كانت تعرض أنقرة للعقوبات الأميركية في ٢٠٢٠ تحت نظام CASTS على خلفية شرائها صواريخ S400 روسية الصنع للدفاع الجوي، وهو أحد الخطوط الحمراء لواشنطن بالنظر لمنافسة المنظومة للباتريوت الأميركي وقدرتها على تحييد أكثر الطائرات الحربية الأميركية تنافسية في سوق السلاح الدولي. حتى مصر التي تواجه انتقادات النشطاء محليا وإقليميا، وأحد أهم متلقي المساعدات الأميركية أيضا والمحسوبة على التحالف الغربي منذ اتفاق كامب ديفيد، واجهت هي الأخرى ضغوطا وتهديدا صريحا بالعقوبات في إدارة ترمب الأولى ٢٠١٩، بسبب تزايد علاقتها بالروس متانة، وإصرارها على شراء طائرات 35 SU الروسية الصنع التي تخشى واشنطن أن تخلق نوعا من التوازن مع طائرات الجيل الخامس الأمريكية F35. تحضر الولايات المتحدة تصدير F35 لدول المنطقة ويستثنى من ذلك إسرائيل، التزاما  بالسياسة الأميركية الرسمية بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي النوعي في الشرق الأوسط، أو يعرف ب Israeli Qualitative Military Edge. 

لا يعني ما سبق أن كل المناورات التي تمارسها الدول لتوسيع هوامش استقلالها متساوية في جديتها وتنظيمها. ولا يعني أيضا دقة خطاب السلطات عن أن المجتمعات العربية قد أنجزت استقلالها بالمعنى الواسع وانتهى الأمر. بالعكس. مقارنة بالمحاولات الغربية في هذا السياق، يبدو الحراك العربي لتحجيم الهيمنة الخارجية أضعف نسبيا وفي حاجة للمنهجية والرؤية السياسية التي تسنده وتعطيه الزخم المطلوب. لذلك ربما، على الأقل في دول الهلال الخصيب والمغرب، لم تتحقق معجزات أو نقلات على غرار اليابان أو ألمانيا، وظلت مؤشرات التنمية متواضعة تحصر البلاد في مربع الاعتمادية الضيق. 

بالنسبة لخطاب المعارضة، ينفي النموذجان الألماني والياباني العلاقة بين الاستقلال السياسي “التام” والتنمية، ويقدمان نموذجا للدراسة عن إمكانية تحقيق قفزات تنموية حتى مع وجود بعض القيود المفروضة على سيادة القرار الاقتصادي والثقافي والسياسي. الاستقلال الكامل، وفق ما يخبرنا به الواقع السياسي لبعض أهم دول العالم، ليس أمرا ينجز بحركة تمرد أو هبة شعبية ومانيفيستو، كما يفهم من خطاب المعارضات العربية ولكنه، صيرورة؛ شغل مضن نحو توسيع هوامش السيادة على القرار والإفلات من قبضة الهيمنة الخارجية (دون الاصطدام بها) خصوصا قبل بناء ما يكفي من عناصر المنعة لتحمل كلف هذا الصدام. 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط