ما الذي يُقلق الأردن في شخصية الرئيس الأمريكي القادم

عمان، الأردن – العلمين الأردني والأمريكي خلال حفل افتتاح مركز التدريب المشترك للقوات المسلحة الأردنية في 10 أكتوبر 2018. (صورة للجيش الأمريكي التقطها الرقيب من الدرجة الأولى دوج رولز) Defense Visual Information Distribution Service


غيث هاني القضاة

في لقاء صحفي مع “صحيفة نيويورك” تايمز  عام ( 1984) ، شن الملك الحسين رحمه الله هجوما عنيفا على إدارة الرئيس الأمريكي حينها “ريغان” مُتهما إدارته بأنها عديمة المبادئ وقد فقدت مصداقيتها وأنها لم تعد تعمل كوسيط نزيه في الشرق الأوسط بسبب ميلها الواضح الى إسرائيل ودعمها غير المحدود لهم ، وفي سؤال وجهته له مذيعة محطة “CBS”الأمريكية  بعد هذا اللقاء الصحفي  الذي أحدث هزة سياسية في أمريكا قائلة له : هل إذا توقفت أمريكا عن دعمكم بالسلاح بسبب تصريحاتكم  هل ستقومون بشراء الاسلحة من روسيا ؟ فكانت إجابة الملك بوضوح بأننا في الأردن نعمل من أجل مصلحتنا الوطنية وتقوية دفاعاتنا العسكرية وسوف نتعاون مع أي دولة تُحقق لنا ذلك .

في ندوة متخصصة تتعلق بالعنوان أعلاه قبل أيام  تحدثتُ عن العلاقة الأردنية الأمريكية حاولتُ خلالها تسليط الضوء على عدة محاور سياسية من أجل محاولة فهم الواقع وتقديم تصورات تتعلق بمستقبل العلاقة مع أمريكا وتقديم نصائح لصانع القرار السياسي في الأردن ، حيث أشرتُ الى أن علاقة الأردن بأمريكا علاقة وطيدة ومتطورة عبر الزمن منذ عام( 1949) ؛حيث يُعتبر الأردن من الدول (الحليفة والصديقة) ومن المؤكد أن  سياسة أمريكا الرسمية مع الأردن لا تتأثر إطلاقا إذا كان الرئيس جمهوريا أو ديمقراطيا ” إذا استثنينا المزاج الشخصي للرئيس” من حيث اعتبار الأردن من البلدان المستقرة سياسيا وله أهمية جيوسياسية مًعقدة ، ومن المؤكد أن العلاقة بين البلدين عابرة للإدارات الأمريكية وعابرة للحكومات الأردنية لأن الذي يدير الملف الخارجي وبشكل رئيسي هو جلالة الملك “وهذا ليس سرا” ؛ فالبوصلة لديه واضحة والعلاقة متينة وقديمة وعميقة وكان هذا واضحا في حرب الخليج الأولى والثانية وفي التنسيق العسكري الأردني الأمريكي للرد على الهجوم الإيراني الذي تم قبل أشهر .

يوجد في الأردن تقريبا 4000 جندي أمريكي بموجب اتفاقية التعاون الدفاعي الموقعة بين البلدين عام  2021؛ والتي تم توقيعها من أجل تأطير برامج الدفاع المشتركة كما جاء على لسان  وزير الخارجية الأردني، تلك  الاتفاقية التي تضمنت التدريب والتمارين المشتركة والمساعدات الأمنية وأنشطة التعاون المختلفة والمناورات العسكرية في مرافق ومناطق متفق عليها وصلت الى اثني عشر مرفقا عسكريا ، غير أن هذه الاتفاقية بطبيعة الحال لاقت معارضة من تيارات سياسية مختلفة في الأردن لا مجال للخوض في تفاصيلها في  هذا المقال ، وكانت الأردن بالإضافة الى ذلك  أول دولة عربية تقوم بتوقيع اتفاقية التجارة الحرة مع أمريكا عام (2000) القائمة على أساس المصالح المشتركة بين البلدين في تحقيق الازدهار والاستقرار بحسب نصوص الاتفاقية ، وبالمناسبة يوجد حاليا (400) شركة أردنية تقوم بالتصدير الى أمريكا من قطاعات متعددة ، ناهيك عن الدعم المالي والمساعدات التي تقدمها أمريكا للأردن بشكل سنوي والتي تم برمجتها بموجب مذكرات تفاهم ليكون إجمالي ما سيتم تقديمه للأردن خلال ستة أعوام ما يصل الى مليار ونصف دولار حتى عام 2029 .

 بلا شك فإن الأردن بلد علاقته مستقرة مع أمريكا فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية والتعاون بكافة أشكاله بين البلدين، وكما أشار الملك عبدالله في أحد لقاءاته الصحفية بخصوص العلاقة مع رؤساء أمريكا تحديدا  بأنه “تربطه علاقة قوية جدا مع جميع الرؤساء، وهذا لأن والدي علمني أن أحترم منصب الرئيس كرأس للدولة ” ومن تابع زيارات الملك الأخيرة لأمريكا يستطيع الباحث من خلالها أن يدرك حرص الملك ومعه ولي العهد على زيارة أقطاب العمل السياسي وصانعي القرار ومراكز البحث والتخطيط والسياسيين الفذين الذين يُطلق عليهم في أمريكا لقب العقول المُستأجرة (Borrowed Brains ) عند الادارتين الديمقراطية والجمهورية على حد سواء ، فما الذي يُخيف الأردن الرسمي من شخصية الرئيس القادم ؟ وما هو أساس التوجس عند صانع القرار السياسي في الاردن من نتائج الانتخابات القادمة بعد أشهر قليلة ؟برغم هذا الرصيد المتين من العلاقات!.

كمفتاح للإجابة فإن مشكلة الأردن الحقيقية مع الرئيس القادم تتعلق بوجهة نظره من طبيعة الصراع في الشرق الوسط وتحديدا كيفية تعامله مع القضية الفلسطينية وطبيعة تفاعله مع حل الدولتين الذي طرحه الأردن في جميع المحافل الدولية والذي يراه الملك بأنه الحل الوحيد للصراع ، لكن قبل التفصيل في هذه الإجابة وإدراك خطورة تبعات وجهة النظر الأمريكية تجاه هذه القضية أردتُ تسليط الضوء على سؤالين هامين كمدخل للإجابة  ؛ ما سرُ هذا الدعم اللامحدود من أمريكا والغرب عموما الذي يغلب عليه التدين المسيحي  “لإسرائيل اليهودية” وتحديدا في الحرب الأخيرة على غزة ؟ ثم لماذا ركز نتنياهو في خطابه بتاريخ ( 25 \10\2023) على نبوءة إشعيا الواردة في العهد القديم “التوراة”؟ ولماذا قام بالتعريف عن نفسه عدة مرات بأنه هو الذي سيُحقق هذه النبوءة ؟ وخاطب العالم عدة مرات مستخدما مصطلحات من التوراة قائلا بأن :” أبناء النور” سيهزمون بلا شك “أبناء الظلام ” ؟ .

لمزيد من توضيح نبوءة إشعيا  “أحد أنبياء اليهود” والتي وردت في التوراة وكيف تسللت الى الفكر المسيحي في الغرب لابد من البحث في جذور العلاقة بين اليهودية والمسيحية هناك ، حيث قام عالم اللاهوت الشهير  من أصل الماني  مارتن لوثر في عام (1517)   بالتمرد على البابا وعلى الكنيسة الكاثوليكية بحركة عُرفت بالبروتستانتية ،حيث تلخصت أفكاره بعدم الاعتراف بسلطة الكنيسة الكاثوليكية على بقية الكنائس والمطالبة بزواج القساوسة وإنكار صكوك الغفران  وغير ذلك من القضايا التفصيلية المتعلقة بالتثليث ، غير أن أهم  قضية تلخصت بدعوة لوثر الى إعادة الاهتمام بالعهد القديم “التوراة” باعتباره مصدرا للعقيدة ، واستطاع من خلال كتابه الأول  “المسيح وُلد يهوديا” تحويل العلاقة في الغرب بين اليهود “المُتهمين بصلب المسيح عليه السلام” والمسيحيين  من علاقة عداء ونفور الى علاقة تعاون تم تبرئتهم فيها من دم المسيح هادفا الى إدخال اليهود في المسيحية ، حيث أن الديانة الكاثوليكية  لا تؤمن  بعودة اليهود الى فلسطين لأنهم قد كفروا بالمسيح منذ ولادته، ويرفض المسيحيون كذلك اعتبار اليهود  شعب الله المختار .

غير أن أخطر قضية في أفكار لوثر بعد تبرئة اليهود تماما من دم المسيح  تمثلت بقيامه  بربط الإيمان المسيحي “بأنه لا نزول للمسيح لتحقيق ملكوت الرب في الأرض إلا بعد عودة اليهود الى أرض الميعاد (فلسطين) “، فتم استغلال أفكار لوثر لإنشاء حركة أيدولوجية يهودية مسيحية تسمى “بالصهيونية” والتي هدفها الرئيس جعل فلسطين وطن قومي لليهود لتحقيق نبوءات العهد القديم فأصبحت نبوءات العهد القديم جزءا من الأدب والثقافة في أوروبا.

وتم انشاء منظمات (صهيو-مسيحية) في أمريكا أوروبا لدعم فكرة قيام دولة إسرائيل وتأسست البروتستانتية في أمريكا على أفكار المدرسة الانجيلية “المشيخية” التي تؤمن بأن عودة المسيح الثانية لإنشاء الهيكل الثالث لن تتحقق الا بعد أن يقوم اليهود بطرد كل من هو ليس يهودي من فلسطين ويتولى المسيح حينها بحسب النبوءة حكم العالم من جبل صهيون لمدة الف عام تسمى “الألف سنة السعيدة”.

من المهم الإشارة الى أن المسيحيين في المشرق لهم موقف مبدئي وواضح من هذه القضية  حيث عبرت جميع الكنائس في المشرق برفضها التام لأيدولوجيا المسيحية الصهيونية وقد صرح على سبيل المثال رئيس الاتحاد اللوثري السابق الدكتور منيب يونان إن الكنيسة الإنجليزية اللوثرية جزء من الحركة الإنجيلية في الشرق الأوسط التي تضم عدة كنائس ، وأن  لهذه الكنائس موقف واحد وواضح من المسيحية المتصهينة لأسباب مختلفة، منها أنهم يقرأون الكتاب المقدس بطريقة مغايرة عن طريقة الكنائس الأخرى؛ الذين يعتبرون  أن وجود دولة اسرائيل هي تتمة لنبوءات العهد القديم،  أما المسيحيون في المشرق  فيعتبرون أن  الكنائس الإنجيلية الأصلية ومعها الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية وبقية الكنائس أن تتمة النبوءات هو في المسيح نفسه ، وليس في أي كيان سياسي، واعتبر يونان أن هؤلاء “خوارج” على الدين المسيحي والكنيسة المسيحية .

بكل أسف تغلغلت أفكار المذهب “البروتستانتي الانجليكاني “في أمريكا حيث وصل من يعتنقها من الأمريكيين الى حوالي  “50%” من عموم البروتستانت هناك  الذين يؤمنون بوجوب دعم إسرائيل بصفتها من تحوي شعب الله المختار الذي سيطرد كل من هو غير يهودي من أرض الميعاد، وبالمناسبة فإن العديد من رؤساء أمريكا يتبنون هذا الفكر ، وباعتقادي أصبحت المجموعات السياسية المؤثرة في أمريكا ومراكز صنع القرار السياسي والعسكري تنتمي الى هذا المعسكر الذين يُطلق عليهم لقب “المحافظون الجدد” الذين يؤمنون بمبدأ الدفاع عن إسرائيل وتعزيز النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط ، وقد  توزعوا بين مناصب حكومية وسياسية وأكاديميين وشخصيات عامة مؤثرة ، وقد تجلت أفكارهم بتأييد الرئيس الأمريكي السابق ترامب ” الذي انتخبه 81 % من الانجيليين” وهو الذي فهم بلا شك إشارة نتنياهو الى سفر إشعياء ، التي أراد منها نتنياهو توجيه رسالة الى العالم الغربي لدخول الحرب ودعمه دعما غير محدود من أجل الانتصار في أرض الميعاد وهو الأمر الذي تحقق له بالفعل .

ويبقى السؤال الهام ماذا يعني نجاح رئيس داعم بشكل مُطلق وغير محدود لإسرائيل مثل ترامب لولاية ثانية بالنسبة للأردن ؟ بالرغم من تنامي فرص المرشحة الديمقراطية “هاريس”  وتزايد مؤشرات فرص نجاحها ، لكن يبقى السؤال مشروعا ، ولابد من الخوض في هذه المسألة لأنطلق منها الى مسألة أخرى تتعلق بالديناميكيات التي يمكن للأردن أن يتحرك من خلالها ، فكما هو معروف أن الرئيس الأمريكي ترامب قد قابل الملك عبدالله مرة واحدة فقط أثناء سنوات انتخابه الأربع وكان ذلك في السنة الأولى فقط من إدارته ، ولم يقابل الملك إطلاقا في السنوات الثلاث الأخيرة في قطيعة واضحة تؤكد تأثير مزاجية الرئيس (personal taste) على تحسن العلاقات أو تدهورها ، غير أن الأمر الخطير في قدوم ترامب مرة أخرى يتعلق بالتخوف من دفعه باتجاه إنهاء وتحقيق صفقة القرن المُطورة (Advanced Edition ) التي تعني  الضم  الفوري لما نسبته  (30%) من أراضي غور الأردن والمستعمرات والقدس الى إسرائيل، ثم يتم التفاوض على بقية الاراضي من الضفة الغربية المحتلة بحسب المزاج الإسرائيلي ورغبته حينها  في التنازل عن بعض الاراضي للفلسطينيين ،مما يعني تدفق أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني الى الأردن وسقوط حل الدولتين  وتطبيق  الوطن البديل  بحكم الواقع في الأردن ، وهذا من شأنه أن يفرض ضغوطا إضافية على الاقتصاد الأردني أولا ومما يزعزع بلا شك التوازن الديموغرافي ويفرض واقعا اجتماعيا وسياسيا وأمنيا يصعب التعامل معه خصوصا مع النهج الاقتصادي المتبع حاليا والمعتمد اعتمادا مباشرا على المساعدات الخارجية الأمريكية والأوروبية الذين قد يستخدمون هذه الورقة الاقتصادية للضغط على الأردن وإنهاء ملف القضية الفلسطينية على حساب الأردن والطرد الممنهج للفلسطينيين من أراضيهم .

 صورة لجلالة الملك عبد الله الثاني (ملك المملكة الأردنية الهاشمية) والرئيس دونالد ترامب (رئيس الولايات الأمريكية المتحدة) وهم يتجهان باتجاه المنصة لبدء إحاطة صحفية مشتركة في حديقة الورود في البيت الأبيض في واشنطن سنة 2017
The Trump White House Archived

صورة لجلالة الملك عبد الله الثاني (ملك المملكة الأردنية الهاشمية) والرئيس دونالد ترامب (رئيس الولايات الأمريكية المتحدة) وهم يتجهان باتجاه المنصة لبدء إحاطة صحفية مشتركة في حديقة الورود في البيت الأبيض في واشنطن سنة 2017- The Trump White House Archived

هنالك تخوفات  كبيرة كذلك في حال نجاح ترامب من فقدان الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية  في القدس وهي الوصاية التاريخية منذ عام 1924 حيث ينطلق الموقف الأردني الثابت من أن القدس الشرقية أرض محتلة السيادةُ فيها للفلسطينيين، والوصايةُ على مقدساتها الإسلامية والمسيحية هاشمية تدعم بموجبها الأردن الصمود الفلسطيني في القدس ، لكن اذا أُنهيت  الوصاية الهاشمية فإن( 60%) من أراضي القدس ستنتقل فورا الى اسرائيل وهو الأمر الذي تسعى له إسرائيل  ، وبرغم وجود فقرة هُلامية في معاهدة وادي عربة تتعلق بالوصاية الهاشمية حيث تنصّ الفقرة الثانية من المادة التاسعة في الاتفاقية على أن “تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدّسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستولي إسرائيل أولوية كبرى لدور المملكة التاريخي في هذه الأماكن” لكن كيف نأمل من حكومة إسرائيلية غير أخلاقية متطرفة الى حد الجنون، أن ” تحترم”  هذا الدور  ؟

في ذات السياق رشحت أخبار ومعلومات كذلك بأن إدارة ترامب في ولايته السابقة “معظمهم من المحافظين الجُدد” كانت قد توصلت الى شبه اتفاق مع المملكة العربية السعودية من أجل تولي ملف القدس بديلا عن الوصاية الهاشمية وهو الأمر الذي كانت تدفع به تلك الإدارة هادفة الى  تقليص الدور الإقليمي للأردن وتهميش دوره السياسي بكل الوسائل الممكنة من أجل تنفيذ كافة متطلبات صفقة القرن حينها.

وليس بعيدا التصريح الأخير لترامب  المتعلق “باكتشافه” أن إسرائيل دولة ذات حدود ضيقة !وكذلك رغبة ترامب أثناء إدارته السابقة وقف الدعم عن “الاونروا” لعدم الحاجة لها بحسب تصريحاته وكل ذلك دفعا من أجل تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين على حساب الأردن ، وليس  خارجا عن السياق كذلك التذكير بأن الأردن لديه أكثر من الف موظف في القدس وأكثر من (52) مؤسسة تعليمية تابعة للأوقاف و(13) الف طالب يدرسون في تلك المعاهد والمدارس بالإضافة الى العناية بأكثر من (100) مسجد وعدة كنائس منها كنيسة القيامة وكنيسة القبر المقدس .

لكن ماذا يمكن أن يفعل الأردن أمام كل هذه المخاوف “القريبة” المُقلقة ، التي تمس سيادة الدولة وتشكل خطرا على مستقبل الأردن؟ سواء أنجح ترامب الذي سينسف حل الدولتين أم نجحت هاريس التي تؤمن “نظريا” بحل الدولتين ؟ وأرى أن الأردن سيكون على “مفترق طرق” في القريب العاجل  وقد تكون البداية لمحاولة السيطرة على هذه المخاوف وتبعاتها باللجوء الى التخطيط الاستراتيجي الحقيقي والابتعاد عن التكتيكات المرحلية غير المرتبطة بأفق سياسي بعيد المدى،  وذلك  باتخاذ قرار في أعلى مستويات صناعة القرار في الأردن بالبدء بالتحول نحو بناء عمق استراتيجي جديد يتمثل  بتحول تدريجي في العلاقات السياسية الخارجية نحو بناء علاقات متعددة الأبعاد، تتلخص ببناء جسور وعلاقات سياسية  جديدة وتحالفات قوية مع الصين وروسيا و إيران و تركيا وغيرها من الدول ،وأن لا يكون عمقنا الاستراتيجي مرتبطا ببناء تحالفات فقط مع أمريكا ،  بالإضافة الى الاهتمام بالعمق العربي وردم الفجوات التي حصلت مع الدول العربية الشقيقة ومد يد التعاون والتنسيق على أعلى المستويات لأن القادم يبدو مُقلقا.

 من المهم   كذلك أن يتخلص الأردن من فكرة ربط اقتصادنا بالاقتصاد الإسرائيلي ، فمن غير المعقول ربط ملف الطاقة جزئيا بإسرائيل ومن غير المقبول ربط ملف الغاز بإسرائيل ولا يمكن أن أتصور كيف لنا أن نجعل ملف المياه يرتبط بإسرائيل كذلك حتى لو كان ربطا جزئيا ،وقد جاء مشروع الناقل الوطني خطوة من الخطوات الهامة التي قامت بها الحكومة الأردنية من أجل تعزيز أمننا المائي ولابد من تعزيزها بخطوات مشابهة ، ولا بد للمفاوض الأردني كذلك  أن يمتلك الخبرة الكافية قبل ذهابه الى أي مفاوضات فلا يمكن أن تكون “مقاعد المفاوضات” مقاعد ترضية ومكافآت لمن لا يُحسنون الحوار والنقاش والتفاوض في بعض الأحيان ،فالمحاور يجب أن يكون من الخبراء ومن دًهاة السياسية المُتمرسين ، ويوجد بلا شك  لدى الأردن فرص حقيقية لتعزيز الاستقلال والأمن المائي والكهربائي عبر مشاريع تتعلق بالطاقة البديلة الممكنة في الأردن إذا تخلصنا من قصور الإرادة السياسية .و من المهم كذلك الدفع بقوة من أجل قوننة  الوصاية الهاشمية في المحاكم الدولية بحيث تصبح وثيقة دولية مُعترف بها؛ فلا يمكن لهذه الوصاية الهامة على المقدسات الإسلامية والمسيحية والتي قامت منذ عام 1924 أن تكون تبعا لمزاج الإسرائيلي أو أن تُذكر على خجل وبعبارات هلامية غير واضحة كما ذُكرت في اتفاقية وادي عربة ، بل يجب على الأردن الرسمي أن يتحرك باتجاه تثبيت هذه الحق دوليا وبعبارات ومصطلحات وصلاحيات واضحة ، بحيث لا يمكن لأي دولة في العالم أن تفسر الوصاية كما شاءت أو أن تنقلها من دولة لأخرى .

 يتمتع الأردن كذلك بموقع جيوسياسي حساس ودقيق يجعل كل دول العالم تُراجع حساباتها بخصوص تأثيره في معادلة القوة في هذا الإقليم المتوتر ؛فهنالك حزام جيوسياسي يحيط بالأردن الذي بلا شك يجعل دوره مهما في الساحة الدولية، فحدودنا مع العراق طولها ( 179 كلم) وهي الدولة غير المستقرة سياسيا والتي نشاهد “الحشد الشعبي” فيها يحاول باستمرار عبور الحدود للقتال في الجبهة الغربية مما يُشكل عبئا كبيرا على الجيش الأردني ناهيك عن ضعف هذه الخاصرة أمنيا وعسكريا التي تتطلب جهودا أمنية عالية المستوى ، وحدونا مع سوريا (379 كلم ) وهي الحدود غير المستقرة  نتيجة غياب سلطة الدولة هناك فعمليات تهريب الأسلحة والمخدرات تتم في كل يوم وليلة عبر الأنفاق المحفورة أسفل الحدود أو عبر الطائرات المُسيرة أو غير ذلك من الوسائل مما يُشكل عبئا إضافيا على الدولة لحماية هذه الحدود من جهة سوريا التي يتواجد فيها  بحسب الإحصاءات الأخيرة حوالي ( 800) قاعدة عسكرية إيرانية وتركية وروسية وأمريكية ، ناهيك عن أن حدودنا مع الضفة الغربية المحتلة و”إسرائيل” ( 455 كلم ) هي حدود ملتهبة  تُشكل أعباء عديدة لا تخفى على أحد ،بالإضافة الى أزمة اللاجئين في الأردن واستمرار انخفاض الدعم المادي للأردن والضغط الذي يحققه كل ذلك على البُنية الاقتصادية والتحتية للبلاد ، فوجود الأردن في هذا المحيط الملتهب هو نقطة قوة باعتقادي في التفاوض وتوسيع هامش المناورة السياسية وتحقيق مكتسبات أفضل للبلاد .

ليس غريبا أو مفاجئا بأن المرشح الرئاسي الأمريكي القادم “ترامب” قد قام بتجهيز خطة انتقاله السياسي في حال توليه السلطة هناك؛ فتم إعداد ما يسمى “مشروع 2025” وهو عبارة عن مجموعة من مقترحات الانتقال السياسي التي تم إعدادها وتحريرها من كبريات المؤسسات الفكرية المحافظة في أمريكا  “مؤسسة هيرتيج” بمشاركة ( 400) باحث وخبير سياسي والتي تضمنت خطة ( ال 180) يوما الأولى من ولاية الرئيس ، والتي تم تجهيز وتحضير ( 20) وعدا رئاسيا جاهزة للتطبيق فورا ،سيكون على رأسها بلا شك  قضية الشرق الأوسط بعدسة “ترامب ” وذلك بتطبيق وتنفيذ صفقة القرن وتكملة ملف التهجير والطرد للفلسطينيين ، فاذا كان هذا الرئيس مستعدا وجاهزا بعد أشهر معدودة فماذا نحن فاعلون ؟

تاريخيا لا يمكن الاعتماد على أمريكا من حيث اعتبارها حليفا أحاديا لأي جهة ،والأمثلة  في التاريخ السياسي الحديث تدل على ذلك ، وكلها تدفع وتشير الى ضرورة بناء تحالفات متعددة الاتجاهات مع دول مختلفة ، فأمريكا كما يقول صاحب كتاب “كيف تبيع أمريكا أصدقاءها” لا يمكن سياسيا الوثوق بها  فلا صداقة عندهم تدوم ولا وفاء يستمر  فليس هنالك أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون هنالك دائما مصالح دائمة ، فهذا “شاه إيران” الذي حصل على دكتوراة فخرية من “22”جامعة  أمريكية ، الذي  رفضت أمريكا منحه حق اللجوء السياسي في أراضيها بعد الثورة برغم كونه سابقا من الحلفاء الذين يُشار اليهم بالبنان حيث قامت بمنحه فقط  تأشيرة إنسانية لثلاثة أشهر لتطرده بعد ذلك من أراضيها ، وغير ذلك الكثير من الأمثلة التي تُذكرنا بالواقع الذي لا يمكن القفز فوقه دون الاعتبار؛ فالعلاقات الدولية يجب أن تكون متعددة الأبعاد التي ترتكز الى حقيقة أن العلاقات مع اللاعبين الدوليين ليست بديلة عن بعضها .

أخيرا نحن في أوقات عصيبة سياسيا  ونعيش في إقليم ملتهب ولدينا عدو إسرائيلي متطرف ينظر الى الأردن كوطن بديل للفلسطينيين ، ولدينا تحد كبير في شخصية الرئيس الأمريكي القادم تحديدا في كيفية تعامله مع ملف القضية الفلسطينية ونظرته الى مبدأ حل الدولتين ، لكن لدينا فرص يمكن استثمارها إذا امتلكنا ذهنية استراتيجية ولدينا هوامش للمناورة السياسية نستطيع العمل من خلالها ولدينا قدرة و”قوى كامنة” يمكن استغلالها ولدينا إمكانية لبناء تحالفات استراتيجية جديدة إذا أردنا ذلك من أجل تقوية الموقف الأردني للحفاظ على الأردن قويا حصينا منيعا في خضم هذا الجنون العالمي  .

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط