عماد الرواشدة
على عكس الفكرة الشائعة، تعد الولايات المتحدة، من عدة أوجه، دولة شمولية بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. لكن أدوات الهندسة الاجتماعية الأميركية ليست مكاتب محققي المخابرات، الزنازين ومنظومات القوانين التي تمنع الاجتماعات العامة والنشر بحرية، كما هو الحال في سلطات الدول “النامية”. إنها أدوات أكثر “نعومة” إن جاز لنا التعبير: سياسة السوق، المدرسة، الإعلام بمفهومه الواسع والذي يشمل الصحافة بأنواعها، السينما\ هوليوود، ودور النشر.
كان المفكر اليهودي اليساري نعوم شومسكي أسهب بتفكيك تلك البنية في مؤلفه المعروف “تصنيع الإذعان” كما تترجم للعربية عن Manufcaturing Consent.
لكن مؤلفين كثر آخرين عملوا على ذات الثيمة ونشروها في سلسلة طويلة من الدراسات أكاديمية والأوراق العلمية التي توضح كيفية تمركز الملكية في عالم الإعلام الأميركي بيد نخبة تتقاطع مصالحها مع تلك الطبقة السياسية التي تدير السياستين الخارجية والداخلية.
يلخص حال الإعلام والديمقراطية الأميركية استاذ الاتصال في جامعة الينوي الأميركي “روبرت ماكينزي” في مؤلفه القيم حول بنية الإعلام الأميركي وعلاقته بالسلطة “إعلام ثري، ديمقراطية فقيرة” Rich Media Poor Democracy.
لكن ما علاقة بنية الإعلام بما يفعله الطلبة الأميركيون اليوم؟ الحقيقة أن هذه الخلفية النظرية شديدة الأهمية لاستيعاب بواعث ما يحدث في الجامعات الأميركية، فخروج الطلبة على أساسيات السردية الرسمية الأميركية حول إسرائيل، يعني ببساطة خروجا عن نمط الهندسة الاجتماعية، هندسة الوعي الأميركي، الذي صممته، ولا تزال، تلك الأركان الأساسية للنظام السياسي الأميركي: السلطة، الإعلام، السوق، المدرسة، لكن هذه المادة ستركز اهتمامها على الجانب الإعلامي.
الطلبة خارج حظيرة الإعلام
ينتمي جيل الطلبة الأميركيين الذي يشغلون الرأي العام العالمي اليوم لجيل “Z” (مواليد ١٩٩٧-٢٠١٢) الشاب الذي تتشكل بعض من قناعاته في إطار الاحتكاك بالملايين من جيل “الألفية” (مواليد ١٩٨١-١٩٩٦) من صناع المحتوى الذي تنشره وسائل التواصل الاجتماعي اليوم.
ينبغي أن ننتبه أن غالبية المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي ينتجه جيل الألفية. يمتاز، هؤلاء كما تشير الدراسات التسويقية المسحية، بإعطائه الأولوية للشفافية والإعلاء من شأن القيم، الأصالة، والوعي الاجتماعي.
تقول الأرقام الرسمية الأميركية أن كلا الجيلين (الألفية وZ) ليسا من المشتركين في خدمات التلفزة الأميركية المسماة “كيبل”، ويطلق عليهم اصطلاحا Cord Cutters. بذلك نجا هؤلاء الشبان على نحو ما من رؤية أحادية البعد للعالم جرت وسائل الإعلام التقليدية المتلفزة من “سي أن أن”، “فوكس نيوز”، “سي بي اس” وغيرها على تقديمها لعقود خلت.
ليس ذلك فقط، نجا هذان الجيلان كذلك من سردية أخرى عن العالمين الخارجي والداخلي جرت الصحافة الورقية المرقمنة مثل “نيويوك تايمز” و”وواشنطن بوست” وغيرهما على تغذية العقل الأميركي بها لعقود.
تمارس تلك المؤسسات الورقية المرقمنة تأثيرها بشكل أساسي على الأجيال الأكبر سنا، أو من يسمون، baby boomers، ممن لا يزالون يحتفظون باشتراكات في تلك الصحف أكثر بكثير من الأجيال الأصغر سنا التي ينتمي لها الطلبة “المتمردون”. تقول أرقام آخر التقارير المسحية للعام الحالي أن الأجيال الأكبر سنا مهتمون أكثر من غيرهم بالحصول على اشتراكات في الصحافة المطبوعة التقليدية.
والحال كذلك، ليس مستغربا كيف أن مواقف هذه الفئات الأكبر سنا من الصراع العربي الإسرائيلي، أو أي قضية أخرى في السياسة الخارجية، تمثل انعكاسا لموقف السلطة السياسية الأميركية ومصالح جماعات الضغط في القطاعين المالي والعسكري، فيما تتمرد مواقف الشبان عليها.
تقول أحدث أرقام مركز “بيو” الأميركي للأبحاث واستطلاعات الرأي والمنشورة في أبريل نيسان الحالي أن ١٦٪ فقط من الأعمار التي تقل عن ثلاثين عاما يؤيدون مواصلة الدعم الأميركي العسكري لإسرائيل، مقابل تأييد ٥٦٪ ممن تزيد أعمارهم ٦٥ عاما له.
بالعموم، تميل الأجيال الشابة لاستهلاك محتوى صحفي من نوع أخر، رقمي بالكامل وليس امتدادا رقميا للصحافة الورقية أو كما سبقت الإشارة “مرقمنا”. ينتمي ذلك النوع من الصحافة التي يستهلكها الشبان لما يعرف ب Digital Native ويشمل مؤسسات شابة تتميز باحتوائها على غرف أخبار أكثر تنوعا عرقيا وثقافيا من غرف الأخبار التقليدية وبالتالي أكثر اتصالا بقضايا العالم الخارجي وأميل للنقدية تجاه السياسات الداخلية والخارجية الأميركية. يمكن اعتبار موقع “هافنغتون بوست” الأميركي أحد أبرز الأمثلة على هذا النوع.
حتى على مستوى السينما، تملك هذه الأجيال من الشبان هامشا أوسع للخروج من عباءة الصور النمطية والروايات الجاهزة عن العالم الخارجي والداخلي التي تقدمها (مؤسسة) “هوليوود”. يعود الفضل في إتاحة هذا الهامش لموجة تطبيقات “الفيديو تحت الطلب” او ما يعرف بVideos on Demand مثل “اتش بي أو” أو “نيتفليكس.”
صحيح طبعا أن جزءا من هذه المؤسسات منحاز بالكامل للرواية الإسرائيلية، متعاطف معها أو تعود ملكيته لرجال أعمال ومطورين يهود، كما هو الحال مع منصة نيتفليكس مثلا، إلا أنها على الأقل على مستوى التعامل مع الشأن الداخلي تميل لتقديم محتوى ينزع نحو التزام “الصوابية” ويحاول الخروج على الروايات والصور النمطية السائدة في المجال الثقافي الداخلي دون السياسي.
تلك العوامل مجتمعة تضاعفَ تأثيرها مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الأخير.
صحيح أن منصات الإعلام الاجتماعي، الرئيسة على الأقل مثل فيس بوك وتويتر، تعد خاضعة لهيمنة تحالف النخب المالية مع طبقات الحكم السياسية في الولايات المتحدة والغرب، ومتطلباتها في المجالين الداخلي والخارجي؛ وصحيح أن هذا التأثير يتمظهر على شكل تعديلات لا تنتهي، وغير شفافة، على خوارزميات تلك التطبيقات بما يخدم مصالح السياستين الداخلية والخارجية الغربية، إلا أن هذه السيطرة ليست مطلقة بحال.
في الموضوع الفلسطيني تحديدا، لا تزال منصتا تويتر وفيس بوك أساسيتين في ترويج ونقل المحتوى المعارض للحرب على غزة والناقد للموقف الأميركي. وفي حراك الجامعات الحالي، تلعب الفيديوهات المنتشرة على تلك المنصات دورا مهما في تحشيد الموقف المضاد لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وزيادة الرقعة الجغرافية للحراك الذي امتد تأثيره من نيويورك على ضفاف الساحل الشرقي للأطسلي إلى كاليفورنيا على المحيط الهادئ.
هذه الهشاشة الرسمية بالقدرة على ضبط وتشكيل الرواية على “تويتر” و”فيس بوك” تزيد مع تنامي شعبية تطبيق “تيك توك” الصيني.
يتميز تطبيق “تيك توك” المملوك لشركة “بايت دانس” الصينية، بهامش حرية واسع نسبيا في نقل صورة الحرب على غزة. يعود ذلك إلى عدم انحياز أو/ و خضوع خوارزميته للرواية الغربية الإسرائيلية كما هو حال فيس بوك وتويتر. أكثر من 170 مليون أميركي من فئة الشبان في الغالب يحتفظون بحسابات على تيك توك.
هذه المكانة المميزة لهذه المنصة في تشكيل الرأي العام الأميركي الشاب دفعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن (الذي قدم نفسه منذ بدء العدوان على غزة بوصفه صهيونيا) إلى تسريع إجراءات حظرها في البلاد.
الشبان: تاريخ من التمرد
تاريخيا، ليس جديدا انخراط فئة الشبان في العشرينيات من أعمارهم بأعمال التغيير والاحتجاج في العالمين الغربي والشرقي.
لعب الشبان من هذه الفئات العمرية دورا رياديا منذ حركات التجديد الموسيقي في أوروبا والتي أفرزت موسيقى الروك وما رافقها من مزاج عام في الأدب والسينما والرسم والفلسفة والعلاقات الإنسانية رافض للقوالب الاجتماعية التقليدية المتهمة في حينه بالتسبب بالوصول للحرب العالمية الثانية بنتائجها الإنسانية الفظيعة على الغرب .
لاحقا، في حركة الحقوق المدنية منذ بدايات الستينيات في الولايات المتحدة وما تخللها وتبعها من معارضة حرب فيتنام، بقيت هذه الفئة هي المتصدرة لمشهد الاحتجاج والمطالبة بالتغيير.
حتى في بلد صغير بحجم الأردن، مثّل الشبان عصب حركة الاحتجاج في جامعة اليرموك وإلى حد بعيد فيما عرف بأحداث نيسان نهاية الثمانينيات. كانوا هم الوقود أيضا في فلسطين خلال انتفاضة الحجارة، أو في ولاية نيويورك عام ٢٠١١ ضمن ما عرف بحركة “احتلوا وول ستريت” التي نادت بتفكيك النظام الرأسمالي للبلاد، وصولا إلى أحداث الربيع العربي ولن يكون انتهاء بأحداث الجامعات الأميركية اليوم. في تلك المحطات جميعا كان الشبان هم الروافع الاجتماعية لحركات الاحتجاج حول العالم.
في ذات الإطار، لا يوجد اختلاف جوهري على مستوى آليات القمع الأميركي لمثل تلك الاحتجاجات منذ ما عرف ب”الماكارثية” لملاحقة وعزل واقصاء وسجن الشيوعيين الأميركيين، إلى فض اعتصام “احتلوا وول ستريت” في نيويورك، إلى مشاهد الخيول تقتحم حرم الجامعات الأميركية وتنتهك بحوافرها أجساد طلبتها وحقهم بالتعبير عن رأيهم الذي يفترض أن دستور البلاد قد كفله لهم.
يبقى السؤال الأكثر شغلا للأذهان اليوم هو، هل ستسهم الاحتجاجات بتغيير مسار الحرب؟ الإجابة في الغالب نعم، لكن فقط إن تواصل زخمها ولم تفتر همة ناشطيها مع قرب إجازة الصيف وانتهاء الفصل الدراسي الثاني.
يخبرنا التاريخ أن دور الطلبة كان بالفعل محوريا في إجبار السلطات الأميركية على إنهاء الحرب الأميركية على فيتنام. وإن صح سحب ذلك الاستقراء على الاحتجاج الحالي، فمن الممكن جدا أن تندفع إدارة بايدن أوغيرها لتصويب العلاقة الأميركية الإسرائيلية عموما كما جرى تصويبها مع نظام الفصل العنصري الجنوب الإفريقي.
ويحظى هذا الانزياح الأخذ بالتشكل منذ أكتوبر الماضي بقوة دفع وزخم إضافيين نتيجة تزامنه مع موسم انتخابات رئاسة أميركية تعد الأكثر حساسية منذ ٢٠١٦، وربما في تاريخ البلاد الحديث.
بالنسبة لبايدن، على الأقل حتى يومنا هذا، يحاول الرئيس الأميركي الموازنة بين رغبتين متناقضتين تتنازعانه منذ اشتداد الاعتراض على دعمه لإسرائيل: إرضاء فئة الشبان التي ساهمت بفوز الديمقراطيين بانتخابات الكونغرس الماضية ويعول عليها بدعمهم في سباق الرئاسة في نوفمبر المقبل، من جهة، وأرضاء اللوبي الإسرائيلي وتحالفاته مع مراكز الضغط الاقتصادي والإعلامي للفوز.
حتى اللحظة، تميل الكفة بشكل واضح لصالح الأخير.
لكن أيا كان موقف هذه الإدارة، اليوم بدأت القضية الفلسطينية، ولو على نحو بطيء، بحجز مكانها في الخطاب الفكري والثقافي الغربي بوصفها مسألة “صوابية سياسية”، مثلها مثل حقوق الأقليات العرقية والمهاجرين والجندر. وفي وعي الشبان الغربيين أخذت مكانة خاصة تجعل من تبنيها أو الوقوف ضدها مسألة تعكس وعي الفرد ونضجه السياسي والثقافي ومدى “تقدميته” و”عصريته”.