المغرب- يونس مسكين
ما اعتقده البعض مجرد انقلاب جديد في القارة الإفريقية أطاح يوم ٢٦ تمور/يوليو ٢٠٢٣ بالرئيس المنتخب في النيجر “محمد بازوم”، تحوّل سريعا من مجرد حدث داخلي، في سابع أفقر بلد في العالم، إلى لحظة مفصلية جديدة في تحوّل جيوسياسي غير مسبوق ربما تشهده القارة السمراء عنوانه: أفول شمس فرنسا ومن ورائها الغرب الأورو-أمريكي هناك.
في مشهد أقرب إلى لعبة الدومينو، تحولت التطورات اللاحقة لإعلان عزل رئيس النيجر وتولي قادة عسكريين الحكم، إلى حلقة جديدة في سلسلة انقلابات ذات طبيعة استثنائية آخرها انقلابا مالي في أيار\ مايو ٢٠٢١، وبوركينا فاسو في كانون ثاني\ يناير ٢٠٢٢.
عشية الانقلاب، احتج آلاف النيجريين أمام سفارة باريس في العاصمة “نيامي”، حطموا نوافذها وأشعلوا النيران عند جدرانها. “تسقط فرنسا” كان الهتاف الأكثر ترديدا على ألسنة المحتجين.
هذا النمط من الانزياح الإفريقي بعيدا عن المدار الفرنسي، أصبح أكثر رواجا في السنوات الأخيرة. النيجر، ينبغي أن لا ننسى، إحدى ما يعرف ب “دول الفرنك” الإفريقية، وهي مستعمرات ارتبطت عملاتها بال”فرنك” الفرنسي تضم بينها مالي، وبوركينا فاسو اللتان سبقتا النيجر بإعلان الانقلاب على المصالح الفرنسية وإنهاء الاتفاقات الدفاعية مع باريس باعتبارها انتهاكا للسيادة.
أسابيع قليلة عقب انقلاب النيجر، سيستيقض العالم على تحرك عسكري آخر ضد نظام آخر، غرب إفريقي وموال لفرنسا أيضا: في الغابون، العضو في منظمة “أوبك”، الذي يعاني ٤٠-٥٠٪ من شبابه البطالة وتبلغ معدلات الفقرة فيه أكثر من ٣٠٪ حتى ٢٠٢٢.
حكمت سلالة “اوندينبا” التي يتحدر منها الرئيس الغابوني “علي بونغو” الذي أطاح به الجيش ليل الثلاثين من آب أغسطس ٢٠٢٣ لأكثر من ٤٠ عاما. الرئيس المقرب من فرنسا، كان مدد فترة حكمه لربع قرن إضافية في خطوة يقول المنقلبون إنها الدافع وراء تحركهم. أغلق هؤلاء الحدود وحلوا المؤسسات الرسمية.
بالطبع أدانت باريس ومن بقي في صفها من دول القارة السمراء الانقلاب.
تلك العلاقات الفرنسية مع دول الساحل الإفريقي كانت أخذت منعطفا منذ ٢٠١٤ حين أطلقت باريس عمليتي بوخان وسيرفال اللتان سمحتا للرئيس الفرنسي “إمانويل ماكرون” إرسال قوات عسكرية إلى مستعمرات بلاده السابقة بزعم المساعدة في التصدي للجماعات الإسلامية وحماية النظم السياسية الموالية لفرنسا هناك.
“لو لم ننخرط هناك، من خلال عمليتي بوهان وسيرفال، لما كان هناك اليوم مالي، ولما كان هناك بوركينا فاسو، ولست “متأكدا إن كان هناك نيجر اليوم لولا ذلك” قال ماكرون عشية الانقلاب الأخير في العاصمة النيجيري “نيامي.
في الإعلام الغربي، لا يبدو أن غالبية المؤسسات قد فكرت بمحاولة النظر لتلك التطورات باعتبارها “ربيعا” إفريقيا، كما هي عادتها مع تحركات مماثلة في دول أخرى، أو ثورة، أو، على أقل تقدير، حراكا يستهدف تصويب العلاقة مع المستعمر الفرنسي القديم\ الجديد. على أن الأنماط التي يمكن استقراؤها من كل تلك الأحداث تفيد بأنها جميعا تسير بالضد من المصالح الفرنسية في إفريقيا.
الأنماط التي يمكن استقراؤها من كل تلك التحركات تفيد بأنها جميعا تسير بالضد من المصالح الفرنسية في إفريقيا
مثال واحد هنا يبدو ذو دلالة.
منذ ٢٠٢٠، شهدت خمس دول إفريقية انتخابات رئاسية كان العامل المشترك بينها جميعا سعي الرئيس لتمديد فترته الرئاسية في تجاوز للمدة التي حددها الدستور. جميع تلك الدول فرنفكونية: غينيا، تشاد، كونغو برازيفيل، توغو، وكوت ديفوار (ساحل العاج). في كل تلك الحالات كان الرئيس في السلطة يعمد إلى فرض ترشيحه من خلال استفتاء وتعديلات دستورية جدلية، يلاحظ الأستاذ الزائر في كلية لندن للاقتصاد، “مايكل أموا”.
بالمجمل، يقول “أموا” في ورقة أكاديمية، من أصل ١٨ انتخابات إفريقية جرى فيها التمديد للرئيس، ثمة ١٠ حصلت في مستعمرات فرنسا السابقة.
“في وقتنا الحاضر، كل الدول الإفريقية التي شهدت تمديدا رئاسيا كانت فرنكفونية، باستثناء غينيا (انجلوفونية) واكوتوريا غيني (برتغالية)”.
تأخذ هذه الانقلابات أهميتها الاستثنائية من كونها لا تسقط حكما مدنيا قائما فقط (وهو مناط التركيز الإعلامي الغربي) ومواليا لباريس وعموم الغرب (وهو ما يجري التركيز عليه في الإعلام بدرجة أقل)، بل تسارع هذه التحركات العسكرية إلى إعلان القطع مع قرون من الهيمنة الفرنسية، مقلصة حجم المجال الحيوي لباريس في قارة تعد من بين الأغنى عالميا على مستوى الثروات الطبيعية والأفقر على مستوى توزيع الثروة.
فرنسا وإفريقيا تاريخ متصل من الهيمنة
تاريخيا، حصلت فرنسا على نصيب وافر من القسمة الاستعمارية بين القوى الأوروبية قبل نحو قرنين من الزمن، وامتد نفوذها هذا من أقصى شمال القارة، في المغرب، إلى أقصى جنوبها الشرقي، في جزيرة مدغشقر. لكن مع وصول التجربة الاستعمارية إلى مداها عقب الحربين العالميتين، وعلى العكس من التجارب الاستعمارية البريطانية والإسبانية التي تركت مهمة التأثير والحفاظ على المصالح للأدوات المالية والثقافية الناعمة عقب انسحابها، تميّزت فرنسا بإبقائها مستعمراتها السابقة في منزلة بين المنزلتين، لا هي بالمستقلة ولا هي بالمستعمرة.
بالنسبة لباريس، اعتمدت السيطرة الاستراتيجية على مستعمراتها الإفريقية السابقة على القوة العسكرية والهيمنة الاقتصادية، مستعينة بأربع ركائز أساسية تشكل في الوقت نفسه المداخل الكبرى لانتقاد الحضور الفرنسي في المنطقة، بدأ من التأثير الثقافي، عبر فرض الفرنسية كلغة رسمية لجل دول المنطقة وبما ييسر التحكم في تكوين النخب المحلية الموالية ل” الإليزيه”؛ مرورا بالحضور العسكري المباشر وغير المباشر المتناغم مع الرهانات الاستراتيجية للحلفاء الغربيين؛ السيطرة على الموارد المالية والعملة النقدية المحلية لهذه الدول واحتكار ودائعها المالية؛ وليس انتهاء بالاستيلاء الناعم على الموارد الطبيعية لدول المنطقة وما يرتبط بها من موانئ ومطارات وسكك حديد.
ويعتبر هذا الوجود الفرنسي آخر الأعمدة التي تسند المكانة الدولية لباريس باعتبارها أحد الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن الدولي، وواحدة من عواصم صناعة القرار العالمي، تماما كما تنبأ يوما زعيم “التحرير” الفرنسي (قاد المقاومة ضد الاجتياح النازي لفرنسا)، الجنرال شارل دوغول الذي جرى على مماهاة قوة فرنسا الدولية ونفوذها في إفريقيا باعتبارهما أمرا واحدا.
صحيح أن تلك الدول الإفريقية دخلت ما اصطلح على تسميته ب”حقبة الاستقلال” مع النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن فرنسا احتفظت بما يشبه الإمبراطورية من النفوذ والتأثير الثقافي واللغوي إضافة للمصالح الاقتصادية، تحديدا في القسم الغربي من القارة. كل ذلك إلى جانب القوة العسكرية.
في فبراير ٢٠٢٣، تعهد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ب”إعادة تنظيم الوجود العسكري” غرب إفريقيا، وإعادة بنائه على أساس من “التشارك” مع دول المنطقة. حظي الخبر بتغطية إعلامية غربية واسعة، لكن دون مناقشة سؤال بديهي أساسي: لما تتمتع فرنسا بكل هذا النفوذ في دول تقع خارج القارة الأوروبية تماما بكل الأحوال؟.
وجود عسكري كثيف
الحقيقة أن باريس عوضت عن خروجها الرسمي من القارة الإفريقية خلال حقبة الاستقلال بتواجد عسكري أقل عديدا لكن أكثر فاعلية ربما في إدامة هيمنتها على دول غرب إفريقيا، فالتواجد العسكري يضمن إلى هذا الحد أو ذلك يدا أمنية طولى تحول دون إجراء تغيرات سياسية جذرية ضد مصالحها في تلك الدول.
بالفعل، يحصي تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي حول مصالح باريس في القارة بعنوان “أفريقيا مستقبلنا”، ٣٠ تدخلا فرنسيا عسكريا هناك منذ العام ١٩٦٠، أي منذ النهاية المعلنة، أو الإسمية، للحقبة الاستعمارية الفرنسية في القارة. تراوحت هذه التدخلات بين حماية مصالح أو مواطنين فرنسيين، ودعم الأنظمة ضد هجمات المتمردين، أو محاربة الإرهاب.
بالمجمل، يظهر التقرير الصادر في ٢٠١٣ وجود ١٠ آلاف عسكري فرنسي في إفريقيا، موزعين على ثمان قواعد أو نقاط دعم، إلى جانب ٥٢ ضابط اتصال عسكري في السفارات الفرنسية في إفريقيا، و٢٤ اتفاقية دفاع مشترك أو تعاون عسكري، كل ذلك بكلفة إجمالية تناهز المليار يورو سنويا.
تتوزّع قواعد باريس العسكرية بين عدة دول في المنطقة، لكن أكبرها في عاصمة النيجر، نيامي، التي تحتضن ١٥٠٠ عسكري فرنسي، تليها التشاد بحوالي ١٠٠٠، ثم الكوت ديفوار بما يناهز ٩٥٠، وكل من الغابون والسينغال بما يقارب ٣٥٠ عسكري في كل منهما. فيما يعتبر الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي، بما يناهز ١٥٠٠عسكري، أقل إثارة للجدل، باعتباره يندرج في سياق بعيد عن الساحل والصحراء الإفريقية، وموجه أساسا، ولو رسميا، لتأمين الملاحة في مياه المحيطين الهندي والهادي، والتصدي لأنشطة القرصنة البحرية.
وفق التقرير، تخصص فرنسا نصف قواتها المنتشرة في الخارج لإفريقيا، و٧٠ في المائة من نفقاتها العسكرية خارج أراضيها.
ظهرت بوادر اضمحلال الوجود الفرنسي في دول الساحل الإفريقي، بحسب المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)، قبل نحو عشر سنوات من انقلاب النيجر، في ٢٠١٤، بعد عملية “سيرفال” العسكرية التي قادتها باريس في مالي لدحر الجماعات التي زحفت على العاصمة باماكو، مزودة بالأسلحة الليبية التي انتشرت في المنطقة بعد سقوط حكم معمر القذافي.
يقول المعهد إنه ورغم النجاح الظاهري للعملية، عسكريا، إلا أنها كشفت عجز فرنسا عن فرض إذعان كامل من جانب القوى المحلية لسيطرتها، وفشل محاولات تذويب الأمر في وصفات إقليمية، إما أوربية أو بين دول الساحل. فبعد كل هذه السنوات من العمليات العسكرية المكثفة ضد ما يفترض أنها جماعات مسلحة، بمشاركة حوالي ٥٠٠٠ جندي فرنسي، تبيّن أن الأرض لم تصبح أكثر ثباتا تحت أقدام باريس، على الأقل كما تؤشر كل هذه الانقلابات المتتالية في دول تدور في فلكها الاقتصادي والسياسي.
الآن، تدشن فرنسا عملية انسحاب عسكري غير مسبوق من المنطقة، بإخلاء قواعدها في كل من مالي وبوركينافاسو وإفريقيا الوسطى تحت ضغط مثل هذه العمليات الانقلابية التي أظهرت بوضوح ارتفاعا في منسوب العداء لوجودها مقابل تزايد للنفوذ الروسيـ وذلك بدءا من العام ٢٠٢٢.
هيمنة اقتصادية
النيجر إذن تعد أحدى أضعف البلدان في العالم، إن لم تكن أضعفها، على مستوى خدمات توصيل الكهرباء للسكان. تقول أرقام البنك الدولي أن ١٤ بالمئة من النيجريين فقط يستفيدون من خدمات الكهرباء، وحتى أولئك ممن يمكنهم ذلك يعانون تكرار الانقطاعات الدائم وتردي نوعية الخدمة.
على أن هذا البلد الفقير في الكهرباء ينير فرنسا على نحو ما.
تزود النيجر، الفقيرة بالكهرباء، فرنسا بسبعين بالمئة من احتياجاتها من اليورانيوم الذي تستخدمه باريس في إنتاج الطاقة النووية المسؤولة عن إنتاج أكثر من ٦٠ بالمئة من كهربائها.
تزود النيجر فرنسا بسبعين بالمئة من احتياجاتها من اليورانيوم الذي تستخدمه باريس في إنتاج الطاقة النووية المسؤولة عن إنتاج أكثر من ٦٠ بالمئة من كهربائها.
هذا الانتفاع الهائل من ثروات الدول الإفريقية الفقيرة ليس محصورا في النيجر بأي حال.
في عمل استقصائي دام عدة شهور، خلصت الصحافية الهولندية “إنماري ديكر“، إلى أن فرنسا تظل أحد المستفيدين الكبار من الثروات الطبيعية لإفريقيا، رغم الصعود الكبير الذي حققته الصين في هذا المجال. فبالإضافة لليورانيوم المستخدم لإنتاج الكهرباء الفرنسية، ثمة النفط، الكاكاو، والخشب، إلى جانب الأسماك والفواكه. بالمقابل، توفر هذه المنطقة سوقا شبه حصرية للمنتجات الفرنسية وتحديدا الأدوية والآلات والمعدات الكهربائية والسيارات والأسلحة.
في مقابل نحو مليار ونصف مليار يورو بالمعدل قيمة الواردات الفرنسية من دول غرب إفريقيا، تصدّر فرنسا إلى تلك الدول ما يقارب أربعة مليارات ونصف مليار يورو، جاعلة كفة الميزان التجاري مختلة لصالح باريس على نحو واضح. تذهب بعض الدراسات العلمية إلى أن جل القطاعات الإنتاجية الفرنسية، لا مستقبل لها دون هذا المجال الإفريقي الحيوي.
على أن أهم أداة فرنسية في سياق الهيمنة على القارة السمراء كانت ولا تزال استحداث نسخة محلية من العملة الفرنسية السابقة، الفرنك، وربط قيمة العملات الإفريقية بها، وهو ما استمر حتى بعد إصدار “اليورو” كعملة أوروبية موحدة. مع هذا الربط، واصلت فرنسا احتلال مكانتها في قلب الاقتصادات الإفريقية الخاضعة لهيمنتها بوصفها معبرا حتميا لعمليات التحويل والصرف في أسواق النقد.
تعد ثمان دول في منطقة غرب إفريقيا ملزمة بإيداع نصف احتياطياتها النقدية لدى فرنسا على نحو يرهن سيادتها الوطنية ويحد من قدرتها على التحرك الحر اقتصاديا.
أضف لذلك، سيطرة فرنسا مباشرة أو عبر حلفائها المحليين والدوليين، على مجمل ثروات هذه المنطقة التي يجري تصدير أغلبها خاما دون أن يتاح لسكان تلك البلاد تصنيعها لتعظيم عوائدها المالية كما يحصل مع اليورانيوم المستخرج من النيجر.
وتعتبر العديد من دول المنطقة منتجة للألماس، إضافة للذهب عالي الجودة الذي تتركز احتياطياته في بعض الدول التي خرجت من مدار النفوذ الفرنسي قبل سنوات قليلة مثل بوركينا فاسو ومالي. ما يزال المعدن الأصفر يشكل موردا طبيعيا أساسيا لدول أخرى لا تزال تحت الهيمنة الفرنسية مثل كوت ديفوار وغانا. ولا تخلو المنطقة من ثروات نفطية، إذ تعتبر أربع من دولها منتجة للنفط، وهي كل من نيجيريا وكوت ديفوار والنيجر وغانا.
تنبع أهمية إفريقيا للشركات الفرنسية في ميزتين على ما يبدو، أولها معدلات النمو الاقتصادي في القارة التي اقترتب من ٤ بالمئة مقابل أقل من ٢ بالمئة في فرنسا العام الماضي، إضافة إلى زيادة النمو السكاني وانتشار المناطق ونمط الحياة الحضريين في القارة ما يجعلها سوقا جاذبة لرأس المال بالعموم.
تعتبر إفريقيا أيضا سوقا حيويا للصناعة العسكرية الفرنسية، وفي قطاع الاتصالات، يتوفر عملاق الاتصالات الفرنسي، “أورانج”، على فروع في ٢٠ بلدا إفريقيا بما يفوق ١٠٠ مليون زبون (مقابل ٢٧ مليون زبون في فرنسا)، ويعتبر بين الأربعة الكبار المهيمنين على السوق الإفريقية في قطاع الاتصالات.
وتجد الشركة الفرنسية المصنفة ضمن أكبر ٢٠ في العالم في مجال الطاقة البترولية، “توتال” ، نصف حاجياته من النفط في إفريقيا الفقيرة، لتحقق رقم معاملات سنوي يفوق ٢٠٠ مليار يورو، وتدخل في علاقات تحيط بها شبهات الرشوة والفساد في جل مناطق اشتغالها، خاصة في إفريقيا
أما مجموعة “بولوري لوجيستيك” المتخصصة في تطوير البنى التحتية من موانئ وطرق وسكك حديد، فتعتبر من بين أكثر الأدوات الفرنسية اختراقا للأوساط السياسية والأمنية والإعلامية الإفريقية، مستفيدة من حضورها اقتصاديا في ٤٦ بلدا إفريقيا، وتحقيقها ٨٠ في المئة من أرباحها العالمية في إفريقيا.
في الإعلام الغربي يجري تقديم الحضور الفرنسي عموما في القارة السمراء عبر التمييز بين نفوذ باريس في الدول التي كانت خاضعة لاستعمارها، وبين بقية دول إفريقيا التي لم تكن خاضعة للقوة الفرنسية مثل جنوب إفريقيا. على أن هذا التمييز لا يعدو كونه سطحيا، ففي نهاية المطاف ما يهم هنا هو النفوذ الفرنسي والغربي من ورائه في قارة من بين الأعلى في معدلات الفقرة والبطالة وانتشار الأمراض.
قراءات خارج السياق
كتبت صحيفة “لوموند ديبلوماتيك“، أحد الأذرع الإعلامية الطويلة لفرنسا في الخارج، في مارس ٢٠٢٠ تقريرا مطولا ينبه لتصاعد المد المعادي لفرنسا في منطقة الساحل الإفريقي، معددتا مظاهر هذا الرفض من مظاهرات واحتجاجات وتمزيق للعلم الفرنسي ومقالات في الصحافة وبرامج في المحطات التلفزية والإذاعية.
بالنسبة للنخب الفرنسية، وعلى رأسها الرئيس إيمانويل ماكرون، لا تعدو تلك التحركات الإفريقية المستجدة ضد باريس كونها نتيجة لدعاية سياسية تبثها قوة مناوئة ليست سوى روسيا.
بالنسبة للنخب الفرنسية، وعلى رأسها الرئيس إيمانويل ماكرون، لا تعدو تلك التحركات الإفريقية المستجدة ضد باريس كونها نتيجة لدعاية سياسية تبثها قوة مناوئة ليست سوى روسيا.
بهذا المعنى، تنزع باريس الشرعية عن تلك المشاعر والتحركات الإفريقية المحتجة على هيمنتها وتجعلها نتيجة “مؤامرة” خارجية ما، في تماه ملفت مع ردود فعل بعض النظم السياسية النامية على التظلمات والاحتجاجات الشعبية على الفشل في التنمية والتحديث.
تنسى النخب الفرنسية ووسائل الإعلام الغربية أن لهذه التحركات المعادية لباريس سياق تاريخي طويل مرتبط حكما بعلاقات سياسية وثقافية لامتكافئة بين الدول النامية عموما ومستعمريها.
هذا النمط من الخروج عن الطوق بدأ رحلته منذ سنوات وشمل حتى السينغال، التي كانت تعد “عاصمة” للوجود الفرنسي في إفريقيا، وخرج مواطنوها في مظاهرات دامية في ٢٠٢١ احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المتردية، استهدفوا خلالها رموز الاقتصاد والتجارة الفرنسية المهيمنة في بلد يعيش ٤٠ بالمئة من سكانه تحت خط الفقر.
تأخذ تلك المظاهرات والتحركات الشعبية الرافضة للوجود الفرنسي رمزيتها الكاملة باستهداف علامات تجارية تمثل أعمدة في الاقتصاد الفرنسي مثل “توتال” للمواد الطاقية و”أوشان” التي تدير شبكة متاجر كبرى.
والحال كذلك، يمكن القول بكثير من الثقة أن ما يجري في إفريقيا الفرنكفونية يتعد كونه محض انقلابات عسكرية على حكومات منتخبة، فمثل هذه القراءة تتجاوز عن سياق لا يصلح فهم المشهد دونه، ولا يمكن عزله عن حمى التنازع الدولي بين الولايات المتحدة، التي تحاول الحفاظ على نفوذها الدولي رفقة المعسكر الغربي في القارة السمراء كما في الشرق الأوسط وأوروبا من جهة، وكل من الصين وروسيا من أخرى.
ففي كل تلك التحركات كان الحضور الروسي في الخطاب السياسي للانقلابيين واضحا، والبديهي أن تستثمر موسكو في كل ما شأنه مد نفوذها في القارة الغنية بالموارد على حساب منافسيها الغربيين ممن يفرضون عليها عقوبات دولية ويحاربونها بالوكالة في أوكرانيا.
على أن هذا الاستثمار الدولي في الحراك الإفريقي ينبغي أن لا يغيب جدية وأصالة حالة السخط على السياسات الاستعمارية الفرنسية القديمة المتجددة والرغبة الإفريقية، على الأقل الشعبية، بالانعتاق والتقدم حتى وإن جرى توظيفها سياسيا من قوى محلية ودولية محددة.
حراك إفريقيا في سياق عربي
يبقى أن ما يجري في إفريقيا جنوب الصحراء ليس معزولا عن المصالح العربية في الشمال الإفريقي وله تأثيرات بعيدة المدى أمنيا وتنمويا. فانفراط السلم الأهلي أو تدفق المهاجرين الراغبين في العبور نحو أوروبا من دول الساحل، سينتج تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة لدول المغرب العربي عموما.
على أن من الممكن تبني وجهة نظر متفائلة أيضا.
هذه التحركات في دول الساحل قد تحمل معها بوادر انعتاق القارة السمراء من العلاقة غير المتكافئة مع المستعمر الفرنسي السابق\ الحالي وعموم الغرب، وقد تفتح الباب تباعا نحو حقبة جديدة من التنمية والاستقلال والسيادة قد تحفز بدورها تغيرات مشابهة في دول الجوار العربية في الشمال الإفريقي.
يجادل كتاب ومراقبون فرنسيون بأن المصالح الاقتصادية الفرنسية في الدول الفرنكفونية الإفريقية، مثل النيجر، ساحل العاج مالي وغيرها، لا تشكل سوى نسبة ضئيلة جدا من مجمل حجم التبادل التجاري مع بقية الدول الإفريقية، وأن وصفها بالحديقة الخلفية اقتصاديا لباريس لا يعدو كونه مبالغات. التركيز الأكبر، تزعم هذه المحاججة، يبقى للمصالح الاقتصادية الفرنسية في دول المغرب، الجزائر وتونس وهي التي تشكل بين ١٥-١٨ بالمئة من مجمل التجارة مع بقية الدول الإفريقية.
لكن إن لم تكن تلك الدول مهمة لفرنسا اقتصاديا، فلما ستتكلف باريس عناء الخروج من حدودها وإرسال جنودها لقلب الخطر دفاعا عنها؟ ولما تؤيد المساعي للتدخل العسكري في النيجر لإنهاء انقلاب الجيش هناك؟
بكل الأحوال، حتى وإن صحت تلك القراءة الكمية عن طبيعة المصالح الاقتصادية الفرنسية في دول الساحل، لابد من طرح سؤال بديهي هنا: إن كانت فرنسا مستعدة للقتال للحفاظ على مكتسباتها في دول ليست بتلك الأهمية من الزاوية الاقتصادية، فما الذي يمكنها فعله للحفاظ على الدول المهمة لها على المستوى الاقتصادي مثل الجزائر، تونس والمغرب إن هي، أي تلك الدول، قررت الاستدارة في علاقاتها الاقتصادية والسياسية نحو وجهات أخرى بعيدا عن باريس.
يونس مسكين، كاتب وباحث مغربي متخصص في علم السياسة، مدير نشر ورئيس تحرير سابق لجريدة “أخبار اليوم”، أستاذ زائر في المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، ومدرّب معتمد في الصحافة والتواصل. له عدة إصدارات منها “ثلاث دلائل مهنية في مجال الصحافة”.