المراسل
منذ الثورة التي أطاحت برئيسه عمر حسن البشير، لم يتوفر السودان على نظام واضح المعالم وهي في حالة سيولة سياسية كاملة تجعل من توصيف “الإنقلاب” المستخدم في الإعلام العربي والدولي غير واقعي ابتداء.
ربما كان الأقرب للدقة القول بوجود صيغ أمر واقع في السودان فرضها عاملان: أولا، قوة الميليشيات والجيش وقدرتهم على فرض إرادتهم في إدارة البلاد، وثانيا وجود تجاذبات دولية حول السودان توظف الميليشات والجيش ومراكز قوى داخلية لتمرير مصالحها.
يتمتع الجيش السوداني بعلاقات تحالف مع كل من الولايات المتحدة، إسرائيل، الإمارات ومصر. منذ إعلان قائد المجلس السيادي عبد الفتاح برهان عن عزمه تطبيع العلاقات مع تل أبيب في ٢٠٢٠، بدا وقد اختار اصطفافه في لعبة الصراع في القرن الأفريقي وربما العالم.
بالمثل، في اللحظة التي غادر فيها قائد قوات الرد السريع، محمد حمدان دقلو، المشهور بحميدتي، أرض بلاده متوجها إلى موسكو قبيل الغزو لأوكرانيا بأيام، وبقاءه هناك وتصريحه بضرورة التقارب مع الروس، بدا وقد اختار هو الآخر اصطفافه.
مسارعة البرهان للتطبيع، مباشرة بعد الانقلاب على حكومة عبدالله حمدوك المدنية، جاءت في إطار اتفاقات إبراهيم بقيادة الإمارات.
ميزة تلك الاتفاقات هي عدم اعتبارها التوصل لاتفاق فلسطيني إسرائيلي شرطا مسبقا لإتمام التطبيع. برهان، القائد العسكري الذي يواجه اتهامات بالمسؤولة عما عرف بأحداث فض الاعتصام في ٢٠١٩، يقول إن إنجاز علاقات طبيعية مع تل أبيب ليس مرتبطا بحل القضية الفلسطينية.
الشرط الموضوعي الوحيد للسير قدما في تطبيع العلاقات مع تل أبيب كان ولا يزال من وجهة نظر واشنطن، اتمام المرحلة الانتقالية والتوصل لحكومة ديمقراطية. لكن تل أبيب ترى بغير ذلك. يعتقد المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون أن يجري الإسراع في عملية التطبيع قبل التوصل لحكم ديمقراطي في السودان.
“إذا ما حل فراغ سياسي في السودان” يقول مسؤول أسرائيلي عسكري في تصريحات ل”يدعوت أحرنوت”، “فستملأه روسيا والصين.”
رغم ذلك أرسلت إسرائيل مبعوثيها يوم أمس، وفق الصحيفة، لمحاولة التوسط لإنهاء الأزمة.
بالنسبة لواشنطن، تمثل إسرائيل رأس الحربة في احتواء السودان وإبعاده عن المحور الروسي الإيراني. منذ توقيع اتفاقات ابراهيم في ٢٠٢٠ و بدء الحديث الجدي عن ضم السودان إلى الدول المطبعة مع إسرائيل، صادق البنك الدولي على تمويل إعفاء الخرطوم من ديونها بقيمة مليارين ونصف في ٢٠٢١، ولم تتردد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد برفع السودان عن قوائم الدول الداعمة للإرهاب.
مؤخرا بدأت هذه الجهود بالتسارع. قبل نحو شهرين فقط، في فبراير\ شباط، طار وزير الخارجية الإسرائيلي “إيلي كوهين” إلى الخرطوم والتقى البرهان للمضي قدما بالتطبيع، ومن هناك صرح بأن الاتفاق سيجري توقيعه في غضون أشهر، وكان أمل تل أبيب، تقول يدعوت أحرنوت، أن يتبلور الأمر بعد عيد الفطر.
لكن تل أبيب فيما يبدو حريصة على إبقاء القنوات مفتوحة مع القوتين الرئيستين في البلاد.
كان ضباط الموساد يلتقون حميدتي أيضا سرا في الإمارات لاقناعه أيضا بالموافقة على تطبيع العلاقات، وفق ما نشرته وسائل إعلام محسوبة على السعودية. ما يرجح مثل هذه الأنباء، حقيقة أن وفدا إسرائيليا توجه فعلا للسودان بعد انفجار الأزمة أملا في التباحث مع الطرفين لحل الخلاف. الزيارة، قالت هارتس، جاءت بإيعاز أميركي.
دعم واشنطن للتطبيع في السودان يبدو نابعا من رغبتها بضم البلاد لمعسكر “السلام” المقرب منها، والابتعاد بها عن المحور الروسي الإيراني.
بالفعل، كان السودان بزعامة الجيش وقوات الرد السريع على وشك التصديق على اتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية روسية شبه دائمه تستضيف سفنا حربية إحداها تعمل بالطاقة النووية في بور سودان. كان موطئ القدم الأول لروسيا قد أسس قبل سنوات قليلة في طرطوس السورية بعقد تأجير يمتد لنحو نصف قرن.
تعتبر واشنطن الأمر تهديدا لأمنها القومي، فهو يتيح للروس، الذين تخوض معهم واشنطن حربا إلغاء، إن جاز التعبير، اقتصادية وعسكرية، موطئ قدم ثان في المياه الدافئة ويهدد تفوقها العسكري في القرن القرن الإفريقي. لواشنطن قاعدة عسكرية واحدة في تلك المنطقة تتمركز جيبوتي، استراتيجيا على مداخل مضيق باب المندب للتجارة الدولية.
بالنسبة لروسيا، كانت العقدة ولا تزال، في ضرورة تشكيل حكومة مدنية في الخرطوم كشرط سوداني للمصادقة النهائية على الاتفاق.
والحال كذلك، يبدو أن تشكيل الحكومة المدنية المؤمل كان يمثل فرصة وتحديا على السواء لكل من موسكو وروسيا، فهو شرط مسبق لبناء القاعدة الروسية وإدخال السودان في محيط تأثير موسكو، وهو أيضا شرط مسبق لإنجاز التطبيع مع إسرائيل وضم البلاد لمحيط التأثير الأميركي الإسرائيلي.