مقدمة المحرر
نشرت هذه المقالة في مجلة Prospect الأميركية قبل نحو ثلاثين عاما في لحظة تاريخية فاصلة.
قبل نشر هذه المقالة بنحو عامين، كان الاتحاد السوفيتي بدأ رحلة تفكك أليمة اقتصاديا وأمنيا، ومعها بدأ العالم يشهد انتقال مركز الهيمنة الدولية إلى واشنطن.
بالتوازي مع هذا التغير الهائل في موازين القوى الدولية التي حكمت العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت بالتبلور تلك الفكرة القائلة باعتبار الليبرالية فلسفة عالمية تمثل نهاية التاريخ الإنساني وأقصى ما يكمن للبشر الوصول إليه. كان أن لخص تلك النظرة عالم السياسة الأميركي من أصول آسيوية “فرانسيس فوكوياما” في مؤلفه ذي العنوان الدال: نهاية التاريخ والإنسان الأخير.
في هذا المناخ قدم “صموئيل هانتغتون” وجهة نظر مغايرة كلية أجملها في كتاب عن صراع الحضارات.
حذر عالم السياسة الاميركي من أن تؤدي نشوة انهيار الاتحاد السوفيتي إلى محاولة فرض القيم الغربية الليبرالية على الحضارات والشعوب الأخرى. حاجج “هنتغتون” بأن الليبرالية الغربية ليست “كونية” Universal من حيث القيم أو أنها قابلة للسحب والتطبيق على سائر المجتمعات حول العالم. يفصل هذا المقال ل”صموئيل هانتغتون” محاججته القيمة تلك.
تكتسب هذه المقالة راهنيتها اليوم كما لم يحدث من قبل.
في محاكاة لتصورات “عبء الرجل الأبيض” التي سادت خلال حقبة الاستعمار بشكله التقليدي، تقدم الولايات المتحدة نفسها اليوم باعتبارها الحامي لقيم “الديمقراطية الليبرالية” والطرف المسؤول عن نشرها على مستوى العالم. وفي إطار سعيها لجعل القرن الواحد والعشرين “قرنا أميركيا” وفق تعبير الرئيس الأميركي جو بايدن، تقسم واشنطن العالم اليوم إلى فضائين في حالة تضاد وصراع يلغي أحدهما الآخر: الديمقراطية الليبرالية بنسختها الغربية، والشمولية.
بالنسبة لنا في العالم العربي وعموم دول الجنوب، تذكرنا مقالة هنتنغتون هذه بضرورة التوقف لبرهة ومحاولة معاينة هذا الخطاب ومدى صلاحيته، ليس فقط من زاوية أخلاقية، ولكن أيضا من وجهة نظر عملية تتعلق بإمكانية تجسده واقعا من عدمها في المقام الاول، وقبل التعامل معه كمسلمة والانخراط في الدفاع عنه أو الصراع حوله.
ترجمتها للعربية: تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم صموئيل هنتغنتون
أهمّ الفروق بين الشعوب في العالم بعد الحرب الباردة ليست إيديولوجيةً أو سياسيةً أو اقتصاديّة. إنّها ثقافية. تحاول الشّعوب والأمم الإجابة على السؤال الأساسي الذي يمكن أن يواجهه البشر: منْ نحن؟ فيجيبون على هذا السؤال بالطّريقة التّقليديّة القائمة على ذِكرِ الأمور التي يولونها الأهمّية الأكبر. يعرِّفُ النّاس أنفسهم بالنّسب والدّين واللغة والتّاريخ والقِيَم والعادات والمؤسّسات. يتماهى النّاس مع مجموعات ثقافيّة مثل: القبائل والمجموعات الإثنيّة والمجتمعات الدّينيّة والأمم، ويتماهون على المستوى الأعلى مع الحضارات. لا يستخدم النّاسُ السياسةَ لتعزيز مصالحهم فحسب، بل يستخدمونها أيضًا لتعريف هويتهم. نحن لا نعرف ذاتنا إلّا بمعرفة من لا يقع داخل حدود ذاتنا، وفي كثيرٍ من الأحيان لا نعرف ذاتنا إلا بمعرفة منْ نقفُ ضدّهم.
ما تزال الدّولُ القوميّة اللاعبَ الأساسيّ في الشّؤون العالميّة. ويتشكّلُ سلوكها، كما كان في الماضي، عبر السّعي وراء السّلطة والثّروة، ولكنّه يتشكّلُ أيضًا عبر التّفضيلات والاختلافات الثّقافية. لم تعدْ مجموعات الدّول الأهمّ هي الكتل الثّلاث للحرب الباردة بل الحضارات السبع أو الثماني الكبرى في العالم. فما هي؟
الصينية. يقرُّ كلّ الباحثين بوجود حضارةٍ صينيّةٍ واحدةٍ متمايزة يعود تاريخها إلى سنة ١٥٠٠ قبل الميلاد على الأقلّ، أو حضارتين خلفتْ إحداهما الأخرى في القرون الأولى من العصر المسيحي. الكونفوشيّة عنصرٌ مهمٌّ في الحضارة الصّينيّة إلا أن الحضارة الصّينيّة أوسع من الكونفوشيّة.
اليابانيّة. يجمَعُ بعض الباحثين الثّقافةَ اليابانيّة والصّينيّة تحت مسمّى واحدٍ هو حضارة الشّرق الأقصى. ومع ذلك، يعترف معظمهم باليابان كحضارةٍ متمايزةٍ من نسلِ الحضارةِ الصّينية، ظهرتْ بين عامي ١٠٠ و ٤٠٠ بعد الميلاد.
الهندوسيّة. كان هنالك حضارةٌ واحدة أو عدّة حضارات متعاقبة في شبه القارّة الهنديّة منذ عام ١٥٠٠ قبل الميلاد على الأقل. وقد كانت الهندوسيّةُ محوريّةً بشكل أو بآخر لثقافةِ شبهِ القارّةِ الهنديّة منذ الألفيّة الثّانيّة قبل الميلاد. وقد استمر الأمر على هذا النّحو رغم وجود مجتمعٍ مسلمٍ كبير في الهند.
إسلاميّة. نشأ الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة في القرن السّابع الميلاديّ، وانتشر بسرعة في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيريّة، وانتشر شرقًا أيضًا في آسيا الوسطى وشبه القارّة الهنديّة وجنوب شرق آسيا. هنالك العديد من الثّقافات المتمايزة المنضوية تحت الإسلام، منها الثّقافة العربيّة والتوركيّة والفارسيّة والمالاويّة.
غربيّة. عادةً ما يُؤرَّخ نشوءُ الحضارة الغربيّة عند سنة ٧٠٠ بعد الميلاد تقريبًا. لها مكوّنان رئيسيّان في أوروبا وأمريكا الشّماليّة.
أمريكيّة لاتينيّة. أمريكا اللاتينيّة، التي كثيرًا ما تُعدُّ جزءًا من الغرب، لها هويّةٌ متمايزة. كانت لأمريكا اللاتينيّة ثقافةٌ استبداديّة نقابوية، والتي كانت موجودةً لدى أوروبا بدرجةٍ أقلّ بكثير ولم تكن موجودةً لدى أمريكا الشماليّة على الإطلاق. شعرتْ أوروبا وأمريكا الشّماليّة بآثار الإصلاح البروتستانتي وجمعتْ بين الثّقافات الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة. تاريخيًا، لطالما كانت أمريكا اللاتينيّة كاثوليكيّةً فقط (إلا أن هذا قد يكون في طور التغيُّر). تضمُّ حضارة أمريكا اللاتينيّة أيضًا ثقافات السكّان الأصليين، التي تمّ القضاء عليها في أمريكا الشّمالية.
الأرثوذكسيّة. تجمع هذه الحضارة بين التّقليد الأرثوذكسي للمسيحيّة والثّقافات السّلافيّة في أوروبا الشّرقيّة وروسيا. ظهرت هذه الحضارة من جديد منذ زوال الاتّحاد السّوفيتي.
الأفريقية (محتَملة). ينتمي شمال القارّة وساحلها الشّرقيّ إلى الحضارة الإسلاميّة. تاريخيًا، كانت إثيوبيا تشكّلُ حضارةً قائمةً بذاتها. جلبت الإمبرياليةُ عناصرَ من الحضارة الغربيّة في الأماكن الأخرى. الهويّات القبليّة متغلغلةٌ في جميع أنحاء أفريقيا، لكن هنالك إحساسًا متزايدًا بالهويّة الأفريقيّة لدى الإفريقيين، ويمكنُ تصوُّرُ انضواءِ أفريقيا جنوب الصّحراء الكبرى في حضارةٍ متمايزةٍ وأن تكون نواتها في جنوب إفريقيا.
يُستخدمُ مصطلح “الغرب” الآن عمومًا للإشارة إلى ما كان يُسمى العالم المسيحيّ الغربيّ. وبالتالي فإن الحضارة الغربيّة هي الحضارة الوحيدة التي يتمّ تعريفها باسمِ اتّجاهٍ من اتّجاهات البوصلة وليس باسم شعبٍ أو دينٍ أو منطقةٍ جغرافيّة معيّنة. اسم “الغرب” أدّى أيضًا إلى ظهور مفهوم “التّغريب” وعزّزَ الدّمجَ المضلِّلَ بين التّغريب (westernization) والتّحديث (modernization).
غالبًا ما يرتبط التّحديث بفكرةِ حضارةٍ عالميّةٍ واحدة. ما يعنيه النّاس عادةً بالحضارة العالميّة يشيرُ إلى الافتراضات والقِيَم التي يتبنّاها معظمُ النّاس في الغرب وبعض النّاس في الحضارات الأخرى. قد يُسمّى هذا بثقافة “دافوس”. في كلّ عام يلتقي حوالي ١٠٠٠ من رجال الأعمال والمصرفيين والمسؤولين الحكوميين والمثقّفين والصّحفيين في المنتدى الاقتصاديّ العالميّ في “دافوس” في سويسرا. يحمل الجميع تقريبًا شهاداتٍ جامعيّة، ويعملون بالكلمات و / أو الأرقام ويجيدون اللغة الإنجليزيّة بشكلٍ معقول. يحملون بشكل عامٍ معتقداتٍ مشتركة فيما يخصّ الفردانيّة واقتصاديّات السّوق والديمقراطيّة السّياسيّة. يسيطر أهل دافوس تقريبًا على جميع المؤسّسات الدّوليّة، والكثير من حكومات العالم، وأغلب الإمكانات الاقتصاديّة والعسكريّة في العالم. وبالتّالي فإنّ ثقافة النّخبة في دافوس مهمّةٌ للغاية. ومع ذلك، كم عدد الأشخاص الذين يتشاطرون هذه الثّقافة في كل أنحاء العالم؟ من المحتمل أن يكونوا خارج الغرب أقلّ من ٥٠ مليون شخص أو ما نسبته واحد في المئة من سكّان العالم.
تستندُ الحجّةُ الأضعف لتقدُّمِ حضارةٍ غربيّةٍ عالميّةٍ واحدةٍ إلى انتشار ثقافة البوب الأمريكيّة والسّلع الاستهلاكيّة. هذا يستخفُّ بقوّة الثّقافات الأخرى بينما يستهين بالثّقافة الغربيّة من خلال حصرها بالأطعمة المشبعة بالدّهون والبنطلونات الباهتة والمشروبات الغازيّة. جوهر الثّقافة الغربية هو الماجنا كارتا وليس وجبة البيغ ماك.
ينبع الطّرح القائم على تماهي المجتمعات من افتراضِ أن المجتمع الحديث يجب أن يشكّل نوعًا واحدًا، وهو النّوع الغربيّ، وأن الحضارة الحديثة هي الحضارة الغربيّة – وهذا طرحٌ متعجرفٌ وخاطئٌ وخطير.
هنالك الكثير من القواسم المشتركة بين المجتمعات الحديثة، لكنها لا تندمج بالضرورة إلى درجة التمّاهي. ينبع الطّرح القائم على تماهي المجتمعات من افتراضِ أن المجتمع الحديث يجب أن يشكّل نوعًا واحدًا، وهو النّوع الغربيّ، وأن الحضارة الحديثة هي الحضارة الغربيّة – وهذا طرحٌ متعجرفٌ وخاطئٌ وخطير.
يتّفقُ معظم الباحثين في الحضارات على أن الحضارة الغربيّة ظهرتْ في القرنين الثّامن والتّاسع. لم يبدأ التّحديث حتى القرن الثّامن عشر. كان الغرب غربيًا لفترة طويلة قبل أن يصبح حديثًا. ما هي الخصائص التي ميّزت الحضارة الغربيّة قبل تحديثها؟ خصائصه كالتّالي:
الإرث الكلاسيكي. ورثَ الغربُ الكثير من الحضارة الكلاسيكيّة نظرًا لكونه حضارة من الجيل الثّالث. تشمل الموروثاتُ الكلاسيكيّة في الحضارة الغربيّة الفلسفةَ اليونانيّة والعقلانيّة والقانون الرّومانيّ واللغة اللاتينيّة والمسيحيّة. كما ورثت الحضاراتُ الإسلاميّة والأرثوذكسيّة من الحضارة الكلاسيكيّة، ولكن بقدرٍ أقلّ بكثير مما ورثه الغرب.
المسيحيّة الغربيّة. المسيحيّة الغربيّة، المتمثّلة بالكاثوليكيّة أوّلاً ثمّ البروتستانتيّة، هي السّمة الأبرز للحضارة الغربيّة. كانت الحضارة الغربيّة خلال معظم فترات الألفيّة الأولى تسمّى “العالم المسيحي”. كان هناك شعورٌ قوّيٌ بالارتباط بين الشّعوب المسيحيّة الغربيّة، مما جعلهم يشعرون بأنّهم مختلفون عن التُّرك والموريين والبيزنطيين. عندما شرع الغربيّون في غزو العالم في القرن السّادس عشر فعلوا ذلك من أجل الله ومن أجل الذّهب أيضًا. إنّ الإصلاح والإصلاح المضاد وانقسام العالم المسيحيّ الغربيّ إلى البروتستانتيّة والكاثوليكيّة – والعواقب السياسية والفكريّة لهذا الصّدع – هي أيضًا من سمات التّاريخ الغربيّ، التي لم تشهدْ مثلَها التجربةُ الأرثوذكسيّة الشّرقية والأمريكيّة اللاتينيّة.
اللغات الأوروبيّة. تأتي اللغة في المرتبة الثّانية بعد الدّين كعامل يميّز الثقافات عن بعضها. يختلف الغرب عن معظم الحضارات الأخرى في تعدُّد اللغات. هنالك اعترافٌ باللغة اليابانيّة والهنديّة والصينيّة الماندرين والرّوسيّة وحتّى العربيّة كلغاتٍ أساسيّة للحضارات الأخرى. ورث الغربُ اللغةَ اللاتينيّة، ولكن ظهرتْ مجموعةٌ من الشّعوب في الغرب، وتطوّرت معها لغاتٌ محلية، تمَّ جمعها بشكلٍ فضفاض في فئتين واسعتين هما اللغات الرومانسيّة واللغات الجرمانيّة. وبحلول القرن السادس عشر كانت هذه اللغات قد اتّخذت عمومًا أشكالها المعاصرة. خسرت اللاتينيّة موقعها كلغةٍ دوليّة مشتركة للغرب لصالح اللغة الفرنسيّة، وفي القرن العشرين خضعت اللغة الفرنسية لهيمنة اللغة الإنجليزية.
الفصل بين السّلطة الرّوحيّة والدنيويّة. على امتداد التّاريخ الغربي، لطالما كانت الكنيسة، ومن بعدها الكنائس المتعدّدة، منفصلةً عن الدّولة. كان الله وقيصر، الكنيسة والدّولة، ثنائيّةً سائدة. كان الدّين والسّياسة منفصلين بوضوح في الحضارة الهندوسيّة فقط. الله هو القيصر في الإسلام. الله هو القيصر في الصّين واليابان. في الحضارة الأرثوذكسيّة الله هو الشّريك الأصغر للقيصر. ساهم الفصل بين السلطة الرّوحيّة والدنيويّة عند الثّقافة الغربيّة في تطوير الحرّية إلى حدٍّ بعيد.
سيادة القانون. ورثَ الوجودُ الحضاريّ مفهومَ مركزيّةِ القانون من الرّومان. وضع مفكرو العصور الوسطى فكرة القانون الطّبيعي، والتي كان ينبغي أن يمارسَ الملوكُ سلطتهم بموجبها، كما نشأ تقليدُ القانون العرفيّ في إنجلترا. خلال مرحلة الحكم المُطلَق في القرنين السّادس عشر والسّابع عشر كانت سيادة القانون تُراعى عند خرق القانون أكثر مما تُراعى عند تطبيقه، لكن فكرةَ إخضاعِ القوّة البشرية لبعض القيود الخارجيّة استمرّت. وقد أرسى تقليدُ سيادةِ القانونِ أُسسَ الدستوريّة وحمايةَ حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الملْكيّة. كان القانون عاملاً أقلّ أهميّة لدى الحضارات الأخرى.
التّعدديّة الاجتماعيّة والمجتمع المدني. كان المجتمع الغربيّ على امتداد تاريخه تعدديًا للغاية. ما يميّز الغرب، بحسب “كارل دويتش”: “هو صعود واستمرار مجموعاتٍ مستقلّةٍ متنوعة لا تعتمد على رابطة الدّم أو الزّواج”. منذ القرنين السّادس والسّابع كانت هذه المجموعات تضمّ في البداية الأديرة والأنظمة الرّهبانيّة والنّقابات الحِرفيّة، ولكنّها اتّسعتْ بعد ذلك في العديد من مناطق أوروبا لتشمل العديد من الجمعيّات الأخرى. لأكثر من ألف عام، كان لدى الغرب مجتمعٌ مدنيٌّ يميّزه عن الحضارات الأخرى. استكملت التّعدديّةُ النّقابيّة بالتّعدديّة الطّبقيّة. تضمّنتْ معظمُ مجتمعات أوروبا الغربيّة طبقةً أرستقراطيّةً قويّة نسبيًا ومستقلّة، وطبقة فلاحين كبيرة، وطبقةً صغيرةً ومهمّةً من التّجار والباعة. كان لقوّةِ الأرستقراطيّة الإقطاعيّة أهميّةٌ خاصّة في الحدّ من قدرةِ الحكمِ المطلق على ترسيخ جذوره في معظم الدّول الأوروبيّة. تتناقض هذه التّعدديّة الأوروبيّة بشكل حاد مع محدوديّة المجتمع المدنيّ، وضعف الطّبقة الأرستقراطيّة، وقوّة الإمبراطوريّات البيروقراطيّة المركزيّة التي كانت قائمةً خلال نفس الفترات في روسيا والصّين والأراضي العثمانيّة.
الهيئات التمثيليّة. أدّت التّعدديّة الاجتماعيّة إلى ظهور الحِيازات والبرلمانات والمؤسّسات الأخرى التي تمثّلُ مصالحَ الطّبقة الأرستقراطيّة ورجال الدين والتّجار. قدّمت هذه الهيئات أشكالاً من التّمثيل تطوّرتْ في سياق التّحديث لتصبحَ مؤسّسات الدّيمقراطيّة الحديثة. خلال عصر الحكم المطلق، تم إلغاؤها أو تمّ تقييد سلطتها إلى حدٍّ بعيد. ولكن حتّى عندما حدث ذلك، فقد كان من الممكن إحياؤها، كما كان الحال في فرنسا كوسيلةٍ لتوسيع المشاركة السياسيّة. كما تطوّرت حركات الحكم الذّاتي على المستوى المحليّ، مما قاد إلى نشوء اتّحادات بين “المدن القويّة والمستقلّة” مثل “الرّابطة الهانزية”. وهكذا تمّ استكمال التّمثيل على المستوى الوّطنيّ بقدرٍ من الاستقلال الذّاتيّ على المستوى المحلي.
الفردانيّة. ساهم الكثير من السّمات الحضارة الغربيّة المذكورة أعلاه في ظهور شعورٍ بالفردانيّة وتقليدٍ للحقوقِ والحرّياتِ الفرديّة. نشأت الفردانيّة في القرنين الرّابع عشر والخامس عشر، وشاع في الغرب بحلول القرن السّابع عشر قبولُ حقِّ الاختيار الفرديّ، الذي أطلق عليه “دويتش” اسمَ “ثورة روميو وجولييت”. حتى المطالبات بالمساواة في الحقوق للجميع، تمّ التّعبير عن فكرة: “أفقر الرّجال في إنجلترا عنده حياةٌ ليعيشها، شأنه في ذلك كشأن أغنى الرّجال” حتّى ولو لم يتقبّلها الجميع. لا تزال الفردانيّة سمةً تميّز الغرب بين حضارات القرن العشرين. في أحد التّحليلات التي شملت مجموعات سكّانية متشابهة من ٥٠ دولة، الدّول العشرين التّي سجلت أعلى الدّرجات على مؤشِّر الفّردانية كانت 19 دولةً من الدّولِ الغربيّة العشرين الموجودة في العيّنة.
ما ورد أعلاه ليس قائمةً شاملةً للخصائص المميزة للحضارة الغربيّة. ولا يُقصَد به أن هذه الخصائص كانت موجودةً على الدّوام وفي كلّ أنحاء المجتمع الغربي. وهذا واضح: تجاهلَ الكثيرُ من الطّغاة في التّاريخ الغربي سيادةَ القانون وأوقفوا الهيئات التّمثيليّة. كما لا يُقصد بهذا الكلام أن أيًا من هذه الخصائص لم يظهر في حضارات أخرى. فهي موجودة بوضوح: القرآن والشريعة يشكّلان القانون الأساسيّ للمجتمعات الإسلاميّة. كان لدى اليابان والهند أنظمةٌ طبقيّةٌ موازيةٌ للأنظمة الموجودة في الغرب (ولعل هذا هو السبب وراء كونهما المجتَمعَين الرئيسيين الوحيدين غير الغربيين اللذين يحافظان على الحكومات الديمقراطيّة لفترة طويلة). بشكل فرديّ، كلّ هذه العوامل تقريبًا لا تخصّ الغرب دون سواه. لكن ما يخصّه دون سواه هو اجتماع هذه العوامل كلّها. إنها الجانب الغربي في الغرب، ولكنّه ليس حديثًا. لقد ولّدت هذه العوامل الالتزامَ بالحريّة الفرديّة التي تميّز الغرب عن الحضارات الأخرى. إنها أيضًا العوامل التي مكّنت الغرب من قيادةِ تحديثِ نفسه والعالم.
الحضارة الغربيّة هي الحضار الأقوى وستبقى كذلك لسنوات. ومع ذلك، فإن قوّتها مقارنةً بالحضارات الأخرى آخذةٌ في التّراجع. وبينما يحاول الغرب التّأكيد على قِيَمه وحماية مصالحه، تواجهُ المجتمعات غير الغربيّة خيارًا. يحاول البعض محاكاة الغرب، ويحاول البعض الآخر – وخاصة المجتمعات الكونفوشيّة والإسلاميّة – توسيع قوتها الاقتصاديّة والعسكريّة لمقاومة الغرب و”موازنته”. المحور المركزيّ لسياسة ما بعد الحرب الباردة هو تفاعل القوة والثّقافة الغربيّة مع قوة وثقافة الحضارات غير الغربيّة.
كان “بطرس الأكبر” و”مصطفى كمال أتاتورك” مصمّمين على تحديثِ بلديهما واعتقدا أن القيام بذلك يعني تبنّي الثّقافة الغربيّة، حتّى إلى درجةِ استبدال القبعات التّقليديّة بنظيرها الغربيّ. لقد أوجدوا بلدانًا “ممزَّقة”، يتنازعها الشكّ حول هويّتها الثّقافيّة. أبرز الدول “الممزَّقة” في العالم اليوم هي روسيا – التي تتجاذبها الأرثوذكسيّة السلافيّة والغرب- وتركيا والمكسيك وأستراليا، التي تحاول أن تفصلَ نفسها عن الغرب وأن تنتمي لآسيا.
سعى قادة المجتمعات غير الغربيّة في كثيرٍ من الأحيان إلى التّحديث ورفضوا التّغريب. ويتلخص هدفهم في عبارة “واكون يوساي” (ومعناها: الرّوح يابانية، التقنية غربيّة) التي عبّر عنها الإصلاحيون اليابانيون قبل قرن من الزمان، وفي تعليقِ الأمير السّعودي “بندر بن سلطان” سنة ١٩٩٤ بأن “الواردات الأجنبية” لطيفةٌ كـ”الأشياء” اللامعة أو المتطوّرة. لكن المؤسّسات الاجتماعيّة والسياسيّة غير الملموسة المستوردة من مكانٍ آخر يمكن أن تكون عواقبها وخيمة – اسأل شاه إيران … الإسلام بالنسبة لنا ليس مجرّد دين بل هو أسلوب حياة. نحن السعوديين نريدُ التّحديث ولكننا لا نريد التّغريب بالضّرورة”. لقد تحوّلت اليابان وسنغافورة وتايوان والسّعودية، وبدرجةٍ أقلّ إيران، إلى مجتمعاتٍ حديثة دون أن تصبح مجتمعاتٍ غربيّة. الصّين في طور التّحديث طبعًا، ولكنّها ليست في طور التّغريب بالتّأكيد.
لطالما تفاعلت الحضارات واقترضت من بعضها، وهذا يتمّ بشكلٍ أوسع بوجود وسائل النّقل والاتّصالات الحديثة. لكن تشرُّبَ الصّين للبوذيّة من الهند فشل في “هندنة” الصّين. بل أدّى ذلك إلى إضفاء الطّابع الصّينيّ على البوذيّة. التّحديث والتّنمية الاقتصاديّة لا تتطلّبان التّغريب الثّقافيّ فحسب، لا بل تعززان العكس: إحياء ثقافاتِ السكّان الأصلية. وعلى المستوى الفرديّ، فإن انتقال الناس إلى مدن ومهن غير مألوفة يكسر روابطهم المحلّية التّقليدية، ويولّد مشاعر الاغتراب، ويخلق أزمات هويّة غالبًا ما يقدّم الدّين إجابةً لها. يزيد التّحديث أيضًا من الثّروة والقوّة العسكريّة للبلد، وبالتالي يدفع هذا النّاسَ إلى الثّقة في تراثهم. إن الإحياء العالمي للدّين هو نتيجةٌ مباشرةٌ للتّحديث. في المجتمعات غير الغربيّة، يُفترض بالضّرورة تقريبًا وجود طابعٍ معادٍ للغرب، ويرفضُ الثّقافة الغربيّة في بعض الحالات لأنّها مسيحيّة وهدّامة، وفي حالات أخرى لأنّها علمانيّة ومتهتّكة. العودة إلى الأصول أكثر وضوحًا في المجتمعات الإسلاميّة والآسيويّة. لقد ظهرت الصّحوة الإسلاميّة في كلّ البلدان المسلمة، وغالبًا ما أصبح حركةً اجتماعيّةً وثقافيّةً وفكرية كبرى ذات تأثير عميق على السّياسة. سنة ١٩٩٦ كانت كلّ الدول المسلمة تقريبًا، باستثناء إيران، أكثر إسلاميّةً مما كانت عليه قبل 15 عامًا. في البلدان التي لا تشكل فيها القوى السياسيّة الإسلاميّة الحكومة، فإنها تهيمن دائمًا على المعارضة. تتفاعل النّاس في جميع أنحاء العالم الإسلامي ضد “إضفاء الصّفة الغربيّة” على مجتمعاتهم.
لقد مرت مجتمعات شرقُ آسيا بتجربةٍ موازية أعادوا خلالها اكتشاف قيمهم الأصلية وعقدوا بشكلٍ متزايدٍ مقارناتٍ قاسية بين ثقافتهم والثّقافة الغربيّة. كانوا طوال عدّة قرون هم وشعوبٌ أخرى غير غربيّة ينظرون بعين الحسد إلى الازدهار الاقتصاديّ والتّطوّر التكنولوجيّ والقوّة العسكريّة والتّماسك السياسيّ للمجتمعات الغربيّة. لقد بحثوا عن سر هذا النّجاح في الممارسات والعادات الغربيّة، وحاولوا تطبيقه في مجتمعاتهم. واليوم، لا يعزو سكّان شرق آسيا تطورهم الاقتصاديّ الهائل إلى استيرادهم للثّقافة الغربيّة، بل يعزونه إلى تمسّكهم بثقافتهم الخاصّة. ويزعمون أنّهم نجحوا، ليس لأنهم أصبحوا مثل الغرب، بل لأنهم ظلّوا مختلفين عن الغرب. عندما شعرت المجتمعات غير الغربية بالضّعف مقارنةً بالغرب، لجأ العديدُ من قادتها إلى القيم الغربيّة المتمثّلة في تقرير المصير والليبرالية والديمقراطيّة والحرّية لتبرير معارضتهم للهيمنة العالميّة الغربيّة. والآن بعد أن قوي عودهم صاروا يستنكرون “إمبرياليّة حقوق الإنسان” وهي نفس القيم التي استندوا إليها سابقًا لتعزيز مصالحهم. مع تراجُع القوّة الغربيّة تتراجعُ أيضًا جاذبيةُ القيَم والثّقافة الغربيّة. أصبحَ جزءٌ كبيرٌ من العالم أكثر حداثةً وأقل غربيّةً.
أحد مظاهر هذا الاتجاه هو ما أسماه “رونالد دوري”: “ظاهرة الجيل الثّاني من التّوطين”. في كلٍّ من المستعمرات الغربيّة السّابقة وفي البلدان المستقلّة منذ فترة طويلة وغير الغربية، “غالبًا ما تلقّى الجيل الأوّل “المحدِّث” أو جيل “ما بعد الاستقلال” تعليمَه في الجامعات الغربيّة الأجنبيّة بلغةٍ عالميّةٍ غربيّة. جزئيًا، يُعزى تشرُّبهم العميق للقيم الغربيّة لأنّهم يسافرون إلى الخارج كمراهقين يسهل إبهارهم”. على النّقيض من ذلك، يتلقّى أفراد الجيل الثاني الأكبر تعليمهم في بلادهم، وفي الجامعات التي أنشأها الجيل الأوّل، حيث تُستخدم اللغة المحلّيّة للتّعليم. هذه الجامعات “توفر تواصلاً مُخفَّفًا مع الثّقافة العالميّة الحضريّة”. يشعر خرّيجو هذه الجامعات بالاستياء من هيمنة الجيل السّابق الذي تعلّم في الغرب، وبالتالي غالبًا ما “يستسلمون لنداءاتِ حركاتِ المعارضة الوطنيّة ذات النزعة المحلية”.
حتى أن بعض أفراد الجيل الأول قد اضطروا إلى تشذيب هوياتهم. كان “محمد علي جناح” و”هاري لي” و”سولومون باندارانايكا” ثلاثة خرّيجين لامعين من جامعات أكسفورد وكامبريدج ولينكولن إن على التوالي، كانوا محامين أجلّاء وأفرادًا متغرّبين تمامًا في مجتمعاتهم. كان “جناح” علمانيًا ملتزمًا. كان “لي” على حدّ تعبير أحد وزراء الحكومة البريطانيّة “أفضل رجلٍ إنجليزيّ شرقَ السّويس”. نشأ باندارانايكا مسيحيًا. ومع ذلك، عادوا إلى ثقافات أجدادهم لقيادة دولهم. أصبح “جناح” العلمانيّ “القائد الأعظم” والدّاعية المتحمّس للإسلام كدعامةٍ أساسيّة للدّولة الباكستانيّة. “هاري لي” أصبح “لي كوان يو” وتعلم لغة الماندرين الصينيّة وروّج للكونفوشيّة. تحوّلَ “باندارانايكا” من المسيحيّة إلى البوذيّة وطلب الدّعم من القوميّة السنهاليّة.
عندما تتبنّى المجتمعات غير الغربيّة انتخاباتٍ على النّمط الغربي، غالبًا ما تجلب الديمقراطيّة إلى السّلطة حركاتٍ سياسيّة مناهضة للغرب
المفارقة الدّيمقراطيّة تعزّزُ التّوطينيّة (Indigenisation): عندما تتبنّى المجتمعات غير الغربيّة انتخاباتٍ على النّمط الغربي، غالبًا ما تجلب الديمقراطيّة إلى السّلطة حركاتٍ سياسيّة مناهضة للغرب. في السّتينات والسّبعينات، كانت الحكومات الموالية للغرب في البلدان النامية مهدّدةً بالانقلابات والثّورات. في الثمانينات والتسعينات باتت هذه الحكومات عرضةً لخطر الإطاحة بها في الانتخابات. تميل الديمقراطية إلى جعل المجتمع أكثر ضيقًا وليس أكثر عالمية. لا يفوز السّياسيون في المجتمعات غير الغربيّة في الانتخابات من خلال إظهار مدى تغريبهم. فالمنافسة الانتخابيّة تحفّزهم على صياغة ما يعتقدون أنها ستكون النداءات الأكثر شعبيّةً، وغالبًا ما تكون ذات طابع عرقيّ وقوميّ ودينيّ. هذه العمليّة التي بدأت في سريلانكا في الخمسينات، انتشرت في آسيا وأفريقيا والشّرق الأوسط، ويتجلّى ذلك في نجاح الأحزاب ذات التوجُّه الدّيني في الهند وتركيا والبوسنة وإسرائيل في الانتخابات في عامي ١٩٩٥ و ١٩٩٦. وبالتالي فإن إرساء الديمقراطيّة يتعارض مع التّغريب.
تسخَرُ تيّاراتُ التّوطين القويّة في العالم من التوقعات الغربيّة القائلة بأن الثّقافة الغربيّة ستصبح ثقافة العالم. العنصران المركزيّان لأيّ ثقافة هما اللغة والدّين. قيل إن اللغة الإنجليزيّة أصبحت لغة العالم. من الواضح أنها أصبحت لغة مشتركة للتّواصل في الأعمال التّجارية متعدّدة الجنسيات، وفي الدّبلوماسيّة والسّياحة والطّيران. لكن نسبة سكان العالم الذين يتحدّثون الإنجليزية صغيرة وآخذة في التّراجع. ووفقًا للبيانات التي جمعها “سيدني كولبرت”، الأستاذ في جامعة واشنطن، فإن قرابة ٩,٨ في المئة من البشر كانوا يتكلّمون الإنجليزية كلغة أولى أو ثانية سنة ١٩٥٨. وفي عام ١٩٩٢ بلغت النسبة ٧,٦ في المئة. اللغة التي لا يجيدها ٩٢ في المئة من سكّان العالم ليستْ لغةَ العالم. وبالمثل، كان ٢٤ في المئة من البشر سنة ١٩٥٨ يتكلّمون إحدى اللغات الغربية الخمس الرئيسيّة. وفي عام ١٩٩٢، باتت النّسبة أقلّ من ٢١ بالمئة. الوضع مشابه بالنّسبة للدّين. يشكّل المسيحيون الغربيّون الآن ٣٠ بالمئة تقريبًا من سكّان العالم، لكن النّسبة آخذةٌ في التّراجُع. في مرحلةٍ ما في العقود القادمة سوف يتجاوز عددُ المسلمين عددَ المسيحيين. كما ذكر “مايكل هوارد” فإنّ “الافتراض الغربيّ الشّائع بأن التّنوُّع الثّقافي هو فضولٌ تاريخيٌّ يتآكل بسرعة بسبب نموِّ ثقافةٍ عالميّةٍ مشتركة ذات توجّهٍ غربيّ وناطقة باللغة الإنجليزيّة، تشكّلُ قيمنا الأساسيّة… افتراضٌ غير صحيح ببساطة”.
مع انتشار التّوطين وتلاشي جاذبية الثّقافة الغربيّة، فإن المشكلة المركزية في العلاقات بين الغرب وبقية العالم هي الفجوة بين جهود الغرب لتعزيز الثّقافة الغربيّة كثقافةٍ عالميّة وتراجع قدرته على القيام بذلك. أدّى انهيار الشيوعية إلى تفاقُم هذا التّفاوت من خلال تعزيزِ وجهةِ النّظر في الغرب بأن الأيديولوجيّة الليبراليّة الديمقراطيّة قد انتصرتْ عالميًا وبالتالي فهي صالحةٌ عالميًا. يعتقد الغرب – وخاصّةً الولايات المتحدة، التي لطالما كانت دولةً تبشيريّة – أن الشّعوب غير الغربيّة يجب أن تلتزم بالقيم الغربيّة للديمقراطيّة والأسواق الحرّة والحكومة المحدودة والفصل بين الكنيسة والدّولة وحقوق الإنسان والفردانيّة وسيادة القانون. تتبنّى الأقلّيات في الحضارات الأخرى هذه القيم، لكن المواقف السائدة تجاهها في الثّقافات غير الغربيّة تتراوح بين الشّكّ والمعارضة الشّديدة. العالميّ في نظر الغرب، إمبرياليّ في نظر البقية.
لا يتردّد غير الغربيين في الإشارة إلى التّفاوت بين المبدأ الغربي والممارسة. إن النّفاق والمعايير المزدوجة هما ثمن الادّعاءات العالميّة. يتمّ التّرويج للديمقراطيّة، ولكن ليس إذا جلبت الأصوليين الإسلاميين إلى السّلطة. تُلقى مواعظُ منعِ الانتشار النّووي على إيران والعراق، ولكن لا تُلقى على إسرائيل. التّجارة الحرة هي إكسير النّمو الاقتصاديّ، ولكنهّا ليست إكسير النمو الزراعيّ. حقوق الإنسان مشكلة مع الصين، ولكنها ليست مشكلةً مع السّعوديّة. توظّفُ قوّةٌ هائلةٌ لصدّ العدوان على الكويتيين الذين يملكون النّفط، ولكن لا يُصدُّ العدوان على البوسنيين الذين يفتقرون إلى النفط.
إن الاعتقاد بأن الشّعوب غير الغربيّة يجب أن تتبنى القيم الغربية هو، إذا أُخذ على محمل الجد، فهو غير أخلاقيٍّ في آثاره
إن الاعتقاد بأن الشّعوب غير الغربيّة يجب أن تتبنى القيم الغربية هو، إذا أُخذ على محمل الجد، فهو غير أخلاقيٍّ في آثاره. الانتشار شبه العالميّ للقوّة الأوروبيّة في أواخر القرن التّاسع عشر والهيمنة العالميّة للولايات المتّحدة في النّصف الأخير من القرن العشرين، أدت إلى انتشار العديد من جوانب الحضارة الغربيّة في أنحاء العالم. ولكن العولمة الأوروبيّة لم تعد موجودة، والهيمنة الأميركيّة آخذة في الانحسار، إذ لم تعد هنالك حاجة إليها في مواجهة التّهديد السوفييتي. الثّقافة تتبع السّلطة. إذا تمّ تشكيل المجتمعات غير الغربيّة مرة أخرى من خلال الثّقافة الغربيّة، فلن يحدث ذلك إلا نتيجةً لتوسُّع القوّة الغربيّة. الإمبرياليّة هي النّتيجة الضّرورية للعالميّة، ومع ذلك فإنّ قلّةً من أنصار العالميّة يدعمون الاستنفار العسكريّ الذي سيكون ضروريًا لتحقيق هدفهم. علاوةً على ذلك، لم يعد لدى الغرب، كحضارة ناضجة، الدّيناميكيّة الاقتصاديّة أو الدّيموغرافيّة المطلوبة لفرض إرادته على الآخرين. وأيُّ جهدٍ للقيام بذلك يتعارض أيضًا مع القيم الغربيّة لتقرير المصير والديمقراطيّة.
عندما تبدأ الحضارات الآسيويّة والمسلمة في التّوكيد على الأهمّية العالميّة لثقافاتها، سيرى الغربيّون العلاقة بين العالميّة والإمبرياليّة وسيقدّرون فضائل العالم التعدّديّ. هذا التحوّل في الاتجاه يحدث فعلاً. وفي آذار ١٩٩٦، قال رئيس وزراء ماليزيا “مهاتير محمد” لرؤساء الحكومات الأوروبيّة المجتمعين: “القيَم الأوروبيّة قيَمٌ أوروبيّة؛ القيَم الآسيويّة قيَمٌ عالميّة”.
تمّ الكشف عن تراجُع قدرة الغرب على تحقيق أهدافه ضدّ الحضارات الصّاعدة في مؤتمر الأمم المتّحدة العالميّ لحقوق الإنسان في فيينا في حزيران ١٩٩٣. كانت بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية على جهة، وكانت على الجهة الأخرى كتلة من حوالي ٥٠ دولة غير غربيّة، وكان من بين الأعضاء الخمس عشرة الأنشط حكوماتُ دولةٍ واحدة من أمريكا اللاتينيّة (كوبا)، ودولة بوذيّة واحدة (ميانمار)، وأربع دول كونفوشية (سنغافورة وفيتنام وكوريا الشّمالية والصّين)، وتسع دول مسلمة (ماليزيا وإندونيسيا وباكستان وإيران والعراق وسوريا واليمن والسّودان وليبيا). جاءت قيادة هذه المجموعة الآسيويّة الإسلاميّة من الصّين وسوريا وإيران. بين هاتين المجموعتين كانت معظم دول أمريكا اللاتينيّة التي كانت تدعم الغرب في كثير من الأحيان، والبلدان الأفريقيّة والأرثوذكسيّة التي كانت تدعم الغرب في بعض الأحيان ولكنّها كانت تعارضه في كثير من الأحيان.
قبل شهرين من مؤتمر فيينا، اجتمعت الدّول الآسيوية في بانكوك وأيّدت إعلانًا شدّد على وجوب النّظر في حقوق الإنسان “في سياق الخصوصيّة الوطنيّة والإقليميّة ومختلف الخلفيّات الدّينيّة والثّقافيّة والتاريخية”. كما أعلنت أن رصد حقوق الإنسان ينتهك السّيادة.
لم تكن الدّول الغربيّة مستعدّةً لفيينا. كانوا أقلّ عددًا في المؤتمر وقدموا أكبر قدر من التّنازلات. كان الإعلان الذي وافق عليه المؤتمر مختَصرًا، أضعف من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الأمم المتّحدة سنة ١٩٤٨. بعد المؤتمر قال ناقد آسيوي للغرب: “لأوّل مرة منذ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، أصبحت الدّول غير المنغمسة في التّقليد اليهودي-المسيحي والقانون الطّبيعي في المرتبة الأولى. وسيحدّدُ هذا الوضع غير المسبوق السياسةَ الدّوليّة الجديدة لحقوق الإنسان. كما أنه سيضاعف مناسبات الصّراع”.
ومن المرجّح أن تستمرّ حكومات الدّول المسلمة في أن تصبح أقلّ ودّية مع الغرب. كما أن العلاقات بين الولايات المتّحدة من ناحية، والصّين واليابان ودول آسيويّة أخرى سوف تكون خلافيّة، وقد تندلع حرب إذا تحدّت الولايات المتّحدة صعود الصّين كقوة مهيمنة في آسيا. وفي الوقت نفسه، ستكون نقاط الضّغط الأصغر في السّياسة العالميّة على “خطوط الصدع” بين الحضارات: شاهد القتال في البوسنة والشيشان والشّرق الأوسط وكشمير وأماكن أخرى كثيرة.
ما الذي يتعيّن على الولايات المتّحدة وأوروبا أن تفعلاه للحفاظ على الحضارة الغربيّة؟ يحتاج الغرب إلى وحدةِ هدفٍ أكبر لمنع الدّول من الحضارات الأخرى من استغلال الاختلافات. ينبغي عليها: أن تُدمج الدول الغربيّة في أوروبا الوسطى في الاتّحاد الأوروبي ومنظّمة حلف شمال الأطلسي، وأن تشجّع تغريب أمريكا اللاتينيّة، وأن تبطئ انجراف اليابان بعيدًا عن الغرب ونحو التّوافق مع الصين، وأن تقبل روسيا كدولةٍ نواة للحضارة الأرثوذكسية وقوّة ذات مصالح مشروعة. إن المسؤوليّة الأساسيّة للقادة الغربيين هي الاعتراف بأن التّدخُّل في شؤون الحضارات الأخرى هو المصدر الأخطر لعدم الاستقرار في العالم. لا ينبغي للغرب أن يحاول إعادة تشكيل الحضارات الأخرى على صورته، ولكن عليه الحفاظ على الصّفات الفريدة للحضارة الغربيّة وتجديدها. وتقع هذه المسؤوليّة بشكلٍ كبير على عاتق أقوى دولة غربيّة، الولايات المتّحدة. فلا العولمة ولا الانعزاليّة، ولا التعدّديّة ولا الأحاديّة ستخدمُ مصالحَ الولايات المتّحدة على أفضل وجه. وسوف تتحقق مصالحها إذا تبنّت بدلاً من ذلك سياسةً أطلسيّة للتّعاون الوثيق مع أوروبا، تحمي مصالحَ وقيمَ الحضارة الثّمينة والفريدة المشتركة بينهما.
صموئيل هنتنغتونصموئيل هنتنغتون أستاذ في جامعة هارفارد ومؤّلف كتاب “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النّظام العالمي” (Simon & Schuster, 16.99)